المقالة

من أبقار الجرمنت إلى مزيج برنت

في «الأوديسا» يُنشد «هوميروس» قائلاً:

«ليبيا أرض الخيرات الوفيرة

حيث تلد النعاج الخراف ناضجة بقرونها

وحيث لا يخلو بيت راعٍ ولا ملك من الزبدة والقشدة والحليب».

عرّافة دلفي الليبية التي صوّرها «مايكل أنجلو» على سقف «كابيلا سستينا» تحت اسم «العرافة الليبية» تقول في نبوءاتها لليونانين «اذهبوا إلى ليبيا أرض الخيرات الوفيرة «ثم تُحذِّرهم» من يذهب إلى ليبيا مُتأخراً سيندم كثيراً».

«هيرودوت» في كتابه الرابع الذي سَجّلَ فيه رحلاته في ليبيا وما شاهده فيها وما سمع من أهلها يقول عن «الجرمنت»، وهم قبيلة ليبية بنت مملكة ثريّة ومترامية الأطراف يقوم اقتصادها على تجارة القوافل «الترانزيت» بين أوروبا وإفريقيا وعلى الزراعة والرعي، يقول: «إن أبقارهم كانت ترعى وهي تتراجع للخلف لضخامة قرونها».

إهرامات الجرمنت العشرون لازالت تنتصب رغم الثلاثة آلاف عام من الزمن التي مرّت على بنائها رغم انهيار جرمة وانهيار الترانزيت وانقراض الأبقار الضخمة القرون بعد جفاف مراعيها وضروعها.

أبقار الجبل الأخضر ظَلّتْ تسرح عبر المراعي الخضراء وَظَلّتْ معابد وقصور وشوارع قورينا تقف صلدة وقوية رغم الثلاثة آلاف عام من التاريخ، وَظَلّتْ ينابيع أبولو تنساب رقراقة عبر وديان وشعاب الجبل الأخضر.

كانت «حورية قورينا» الليبية قد أسرت قلب «أبولو» المعبود اليوناني واقتادته إلى جنانها، إلى غابات الجبل الأخضر، كما تقول أساطير وملاحم اليونان.

هيرودوت يُسمي تلال «مسلاته وترهونه» بمرتفعات ربات الجمال، حيث ازدهرت زراعة الزيتون وانتشرت معاصر الزيت على تلك التلال لينساب زيتها وكما حليب أبقار الجرمنت وتجارتهم إلى موانئ «لبتس ماجنا» «لبدة العظمى»، كما كانت تسمى لبدة وإلى «أويا» طرابلس الحديثة وصبراته.

في «قرزة» ببني وليد تتناثر آلاف المسلّات والمنحوتات، نحتها نحّاتون ليبيون لتصوّر حياتهم اليومية ونشاطاتهم الاجتماعية والاقتصادية، من حرث وحصاد ورعي وبعض الصناعات، والتي يعود تاريخها إلى القرون الأولى للميلاد، حيث سادت حضارة في الوسط الليبي عُرِفَتْ بحضارة التخوم، كانت قد تأسست لحماية طرق القوافل بين الشمال والجنوب لتنساب البضائع والثقافة والفنون والأديان بسلاسة ويُسر.

كانت تجارة الترانزيت والزراعة والرعي قد أنتجت ثقافة، عَبّرَتْ عن تلك المراحل بكل ما فيها من معتقدات وتصوّرات للحياة والكون، كالإيمان بالآخرة والثواب والعقاب وتجلّى ذلك في طرق الدفن وبناء المسلّات والأهرامات لتخليد الموتى. وقبل كل ذلك طورت أدوات الزراعة وأساليبها وطورت أعراف وتقاليد الحياة الاجتماعية وجعلتها مُهابَة ومُقدَّسة.

تنتمي كل تلك المُنجزات إلى «العصر الحجري الحديث»، وهو الحدّ الفاصل بين إنسان ما قبل التاريخ وإنسان التاريخ الحديث، وأيضاً بين «أوديسا هوميروس»، ونشرات وكتب وثقافة وفنون العصر الحديث.

آخر فصول الأوديسا الليبية لكل ذلك التاريخ القديم، كان فصل نهاية قرزة المأساوي، حيث لازال سكان بني وليد يسردون تفاصيل خسف «قرزة» وتحويل كل ما فيها إلى حجر جامد، الناس والشجر والدّواب، حيث سَلّطَ الله عليهم غضبه وتحجّرت كل تفاصيل حياتهم تماثيل من حجر، تتناثر في الجبال والوديان والشعاب الجافة المهجورة.

كان ذلك العقاب الرباني- كما يقول فصل تلك الملحمة- نتيجة لما اقترفه حاكمهم من طغيان ومُوبقات.

وتجمّد كل شيء في حياة الليبيين حقاً عند نهايات العصر الحجري الحديث، فظلت محاريثهم وفؤوسهم وملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم هناك.

مَنْ أَخْرَجَ وفصّل فصول تلك الملحمة ورتبها، كان الأوروبيون، فلقد كان الليبيون قد دخلوا -منذ قرون الميلاد الأولى- في قطيعة تامة مع أدوات التسجيل ونقل المعارف التي عرفوا وطوروا لقرون طويلة، أعني «النحت والرسم على الجدران » وتحوّلوا إلى المشافهة واقتصاد الكفاف.
في «مسخ الكائنات» للشاعر الروماني «أوفيد» نسمع نُواح الحوريات على ليبيا بعد جفاف ينابيعها وضروع أبقارها وأغنامها، تلك التي تغنَّى بها هوميروس وهيرودوت ورسم عرافتها مايكل أنجلو.
طبعة «مسخ الكائنات» الحديثة رسم حورياتها النائحات على ليبيا «بابلو بيكاسو».

في تقرير الأمم المتحدة عن الاقتصاد الليبي والموارد البشرية والطبيعية، بعد إعلان استقلالها عام 1951، كانت المعونات الدولية وتأجير القواعد العسكرية لأميركا وبريطانيا، وبعض ما ورثه الليبيون من اقتصاد كفاف ينتمي للعصر الحجري الحديث، المستقبل الوحيد لليبيا، «رغم الشك في نجاعته» لبناء دولة وكيان، كل ذلك إلى جانب إيمان الليبيين بالمعجزات والبركة الربانية، التي لم يتضمنها تقرير لجنة الأمم المتحدة!!

في «الإيكونومست» الإنجليزية ونشرات أخبار الـ «بي بي سي» والـ «وول ستريت جورنال»، يعود غناء هوميروس حديثاً «ليبيا أرض الخيرات الوفيرة»، حيث يتدفّق النفط بانسياب آخاذ من الجنوب إلى موانئ الشمال، وحيث لن يزاحم ليبيا في إنتاج «مزيج برنت» الخالي من الشوائب إلا قليلاً إلا بحر الشمال الإنجليزي، وحيث بالإمكان مَدّ أنابيب النفط والغاز عبر المتوسط إلى أوروبا لينساب بسلاسة، كما انسابت تجارة الجرمنت ما قبل التاريخ، هكذا فجأة تحدث المعجزة والبركة الربانية، التي لم يكن لليبيين من خيار غير الإيمان بها.

إذن يدخل الليبيون عبر مزيج برنت التاريخ الحديث في ستينيات القرن العشرين حالمين بحياة الرخاء، بالضبط كما فعل أسلافهم الجرمنت، وكما صوّرتهم الأوديسا، ولكن هل حققوا ذلك، فرغم غناء حوريات قورينا الساحر الذي بدأ يتردّد من جديد مع تدفّق مزيج برنت فإن نواح حوريات «أوفيد» يُسمع أيضاً.

مزيج برنت حول الليبيين إلى نازحين من البوادي والأرياف إلى المدن لتتكدّس بيوت الصفيح ستينيات القرن الماضي مُشكِّلة أحزمة للفقر حول مدن تعاني آثار الفقر والاستعمار والحرب العالمية الطاحنة، وتحاول النهوض مُستندة على مزيج برنت، وتتحوّل حكومات المملكة المحافظة، كما ظَلّتْ توصف في إنتاج الصحافة والأدب والفن الليبي إذ ذاك، إلى حكومة قطاع عام «فابية النزعة» مُعتمدة أيضاً على مزيج برنت، فتوظّف غالبية الليبيين في الدولة، تُحوّل المزارعين والرعاة إلى بوليس وعسكر بالجيش الوليد، وتُقحم من نال منهم قِسطاً من التعليم في إدارة دواوين الدولة الهشّة وتُحاول أن تُوفر التعليم والصحة والسكن بالمجان، لينعم الليبيون بخيرات مزيج برنت.

مزيج برنت القليل الشوائب، ورغم كل إنجازاته لليبيين طوال ستين سنة، حمل شوائب قاتلة، وأخطرها تلك الثقة المُطلقة في هذا المزيج العجيب، وفي قدرته على تقديم كل شيء مجاناً، من الشامبو إلى الديموقراطية، واستحالة الحياة بدونه. إن عواصف برنت ولهب نيرانه تتفجّر الآن، بالضبط كما فعلت رياح التصحُّر منذ آلاف السنين وتحرق أحلام الليبيين بالرخاء والازدهار لتصمت مُغنيّات هوميروس بالجنان الليبية وحورياتها، وليعلو نواح حوريات أوفيد على ليبيا التي جَفّتْ ينابيعها.

مقالات ذات علاقة

أحوال وسؤال

جمعة بوكليب

لماذا يهمل الليبيون تاريخهم وموروثهم وعراقتهم؟!

المشرف العام

من وحي عرفة

زهرة سليمان أوشن

اترك تعليق