المَسخري “comic” هو فن المُضِحك الكاشف لطبيعة التَهْرِيج في الكائن، وتحويله إلى مصدر، وموضوع إضحاك “مسخرة”أو أُضْحُوكَة، bouffonnerie وهو الهدف الذي يرمي إليه الرسم الهزلي “الكاريكاتير”.وتعبير الـ”comic” الكاريكاتيري، أي المسخري أو الهزلي، مفضّل من طرف جان كوهن، على تعبير ironique تهكُّمي، ساخِر، ربما لكون ملفوظ المسخري أو الهزلي في جوهره أقل شحنة فلسفية من مضمون ملفوظ القدح أو الذّم الذي يفترضه التهكّم، ومستحسن منه أيضاً على satiric هزئي، أو هجوي، وجواز تحسينه كونه أقل ارتباطا في الذهن بالتنكير والهجاء الذي تشترطه جديّة النقد.
بهذه التوطئة المعجمية نتجاوز التفريقات المفهومية، ونخلص إلى أن كل سخرية هي هازئة وليس كل هزء، أو تهكّم بالضرورة سخرية، وندخل مباشرة في استخدام فن الـ “comic ” في النوع (الكاريكاتيري) ومكوّنيه الرسم والتعليق المصاحب له، ليس فقط كنقد سياسي بوسيلة الرسم والتصوير، بل كعملية معارضة سياسية متكاملة، بغرض تأطير المساهمة البليغة التي قدّمها الرسّام الليبي الراحل في 2016.08.16 حسن دهيميش المعروف بـأسمه، ورمزه المعارض “الساطور”، والتي توخّت على الأقل استخدام أربع طرائق أو تقنيات: الرسم الخطوطي والتدّخل اللصقي بطرئق الكولاج، والتصوير بتقنية الفيديو، والسردية النصيّة للـحكاية-النادرة” Anekdote”.
نقلب هذا الترتيب الطرائقي ونبتديْ بلوحة منقولة عن الموقع الألكتروني “ليبيا وطننا” تسرد حكاية- نادرة أوردتها الكاتبة “روث فيرست” مؤلفة كتاب “الثورة المراوغة” عن ملابسات إرسال الملازم معمر القذافي في دورة تدريبية إلى بريطانيا بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكية بشهادة نائب رئيس بعثتها في طرابلس، الذي فاجأته بل صدمته باعتباره الممتحن السذاجة الصبيانية التي طبعت سلوك الملازم القذافي أثناءامتحان المقابلة. فمن هذه الحكاية-النادرة نقتطف المفارقة Paradox بمكونها الثلاثي كـ”صورة” في الذهن: الضابط (العسكري)، سلوكه، والسذاجة الصبيانية، التي طبعت السلوك والمفترض تعارضها مع الشخصية المقدّمة.
الفيلسوف كيركجارد الذي ألّف كتابا شهيراً في “التهكّم” يربط وجود التناقض بوجود الحياة، ووجود المضحك، أي المسخري أو المهزلي، بوجود التناقض. تأطير المفارقة بالشكل المقدم في الحكاية السالفة “Anekdote” يساعد عبر المسخري الـ:”comic” في تحديد ماهو موضوع على قُرمَة السخري كمهزلة، أو بالأحرى مسخرة، ونعنى الظاهرة الدكتاتورية المختصرة في الكائن الذي كشف المسخري طابعه التهريجي، باعتباره شخصاً مزّقته تناقضاته ووعوده غير الموفاة، وسلوكه المتضارب مع مثاليته المُدّعاة الزائفة.
وكل ضروب النقص التي جعلته موضعاً للسخرية التي يكون مجالها الذات حين تخون الشخص ملكاته الذهنية والشعورية، وهو النقص،والتهافت، بل التداعي الذي يحيق بالشخص برّمته فيما أبانه دكتاتور ليبيا السابق من سلوكات، ورّدات أفعال إزاء حدث الثورة الشعبية، وهي مهزليات تفطّن لها المنتفضون منذ اليوم الأوّل في شخصه وسلوكه وربما ساعدت رسومات الساطور في بلورة هذا التفطّن في وضع الدكتاتور ونظامه في مرّبع المسخرة الذي لم يخرج منه منذ 17 فبراير 2011 حتى نهايته الدموية الحاسمة في20 .أكتوبر2011.
حتى التحاقي عام 1974 بجامعة بنغازي، المدينة التي وُلد بها في1956 رسّام الكاريكاتير حسن دهيميش بعد سنة من عام ولادتي كان التعبير السائد في الغرب الليبي عن النميمة، واغتياب الآخر، يفيده فعل “التقطيع”، والاستعارة الكامنة تتعلّق هنا بالفعل المختصّ للتعامل مع اللحم الذي يقطّع بالسكين أو الساطور، أما وضع الشخص المغتاب برمّته على القُرْمَةُ لتقطيعه، فهذه استعارة ألممتُ بها عند استقراري في بنغازي، بل اختزل البناغزة الاستعارة المركّبة من عدة عناصر في إزاحة فعلية هي “التقريم”، وبفعل معبّر عن الاغتياب كالتقطيع، بل أبلغ منه لتضمينه في صورة ذهنية متكاملة.
يمكننا تنسيب مسخريات أو كاريكاتيرات الساطور إلى نظرية “التردّي أو العُياب” Hamartia ومقابلها بالأنجليزية The Character flaw” المستدعاة من أرسطو الذي يعرّف المسخري أو المهزلي قاصرا إياه على عيب أو قبح، كل الذين انشغلوا بهذه النظرية، من توماس هوبس حتى موريس بانيول، أضافوا فقط سمة الديناميكية إلى تصور أرسطو السكوني لمفهوم المسخري أو المهزلي بتجاوز تعريفه من ضد-القيمة والمرور به بـ -عبور مفاجيء- من القيمة إلى ضدّ- القيمة كالتحويل الذي يحدث في النسق القيمي: الخير إلى شر، والجمال إلى قبح والصدق إلى كذب. أو انحطاط القيمة كما يمثّله “بين A.W.Bain” بتردّي قيمة ذات اعتبار كقاعة المحكمة “اللازم لها” التبجيل يحط من قدرها شخير جالس. في عالم الشخص الأمثلة التي تبدو صالحة لتوضيح هذه النظرية تربو عن العد: كبوة أو كربلة شخص عليه هيئة الوقار فوق رصيف الشارع ، أو نشاز صوت المغني، أو طورطة القشدة التي ينقذف بها مدعوو الحفل التي تمتليء بها مشاهد الكوميديا الأنجلوسكسونية.
القُرْمَةُ في المعجم: أسفل جذع الشجرة المقطوع، وهو مايعبرّ عن صورتها الذهنية تحت ساطور الجزّار، ومقابلها الإنجليزي”chopping Block” قُرْمَةُ الجزار لتقطيع اللحم بالساطور. ولكن المعجم المفيد دائما لأفكار المقالات، يعطي معنىً آخر مضافا لفعل قَرَمَ هو السبّ، فقُرِمَ الرُجل أيّ سبّه العامَّة أو العوام. ولكن أليس بالسخرية نهزأ، ونتهكّم، ونهجو، بل نسُبّ. والمعجم الذي ألصق فعل التقريم بـ :العامّة من الناس ألا يلمّح إلى مغزى سياسي.
إن السخرية، أو المسخرة، بالمعنى الذي قدّمته طرائق الرسّام حسن دهيميش “الساطور” هي إضاءة، بل كشف تنتجه صعقة الضحك. فالسخرية كما عُبرّ عنها هنا بالمسخرة تفترض المفارقة التي تجمع تواطؤاً خفيا بين ما هو جدّ، يختفي وراء معنى ظاهر، قريب من أنف المتلقي، وبين هزل لايبدو أنه يشكل على الإطلاق غاية الفاعل، أيّ باثّ الرسالة أو متكلمّها، سخرية المُضحك ومض خاطف يشق سبيله في ردهات الإجماع المؤسس على بادئ الرأي “Doxa” وما يؤصل صعق الضحك هنا هو المفارقة الوجودية إثر، أو بسبب، اجتماع نقائض لم يتحقق من قبل الوعي بها.
والأمثلة المتعلّقة بدكتاتور ليبيا السابق ومساره السياسي والزعامي تربو على العدّ كالمثال الذي ورد سالفاّ، والجامع لنقيضي جدّية وصرامة العسكري، بسلوكه الساذج والصبياني،أو مقال يكتبه بعنوان “إذا كنت قِدراً أو بدلاً” في نشرية “المقاتل” الصادرة عن سلاح المخابرة في الجيش الليبي الذي يتبعه قبل شهر من إسقاطه الملكية في ليبيا، أي الموقف الذي يجمع النقيضين بين جدّية القيام بانقلاب يغيّر به مسار التاريخ الليبي وبين تقديمه نصائح ساذجة وصبيانية لسلوكيات الجنود اليومية في المعسكر (القدِر) وخارجه (البدَل)، أو عنوان الكتاب الذي أصدرته عنه عام 1975 منظمة التحرير الفلسطينية “القذافي غرابة أطوار أم حلقة في مخطط ؟” والذي يجمع هو الآخر بين غرابة الأطوار ونزقها وبين جدّية السياسة حسب المخطط التآمري الدولي الذي ينفّذه.
كما أن السخرية فيما أسلفنا تكون في الذات الإنسانية حين تخون الإنسان ملكاته الطبيعية، فإنها توجد في المجتمع حين تسود عدالة الإنسان المقلوبة. لكنّها بالمعنى الذي علّمنا إياه الرسام الساطور فأنّها تمنح المتلقي رسالتها سلاحا خطيرا وتريه أن السياسيين (الدكتاتوريين) ليسوا سوى فزّاعات. إن السخرية نوع من المقاومة وسلاح الانتصار على الخوف، لا سلاح الخوف من الانتصار.
_______________
نشر بموقع ليبيا المستقبل.