لدى دوستويفسكي مصطلح يترجمه سامي الدروبي بالحزن الحضاري ويترجمه الكوني بالهم المسكوني، وفي رواية الأبله أكثر روايات دوستويفسكي حزنا يتصرف الأمير ميشكين بشكل لا يمكن تفسيره الا بكونه شخص دمره الحزن ولم يعد منطقيا في تصرفاته وحزنه يظهر في كل الشخصيات التي تحيط به. ما حجم “حزن دوستويفسكي” ليكتب كل هذه الشخصيات، المرايا لميشكين؟
الحزن جزء مهم من الأدب العالمي، فبين صفحات الكتاب الأشهر لنيكوس كازانتزاكيس، نراه كيف تعامل مع الحزن بشكل فريد وحقيقي جدا، فزوربا اليوناني حين أخبروه عن وفاة ابنه، قفز إلى آلته السانتوري وبدأ العزف والرقص أمام دهشة المعزين، كان أكثر تصرف غير منطقي، أطلق عنان الحزن، بعكس الأغلب من رجال التبو لا يطلقون لحزنهم العنان، وهذا يجعلهم محطمين تماما في الكبر وشخصيات قلقة جدا مثل جياد جامحة، رأيتُ الكثير منهم ولم أفهم السبب، لكنني وجدت تفسيرات متعددة من الأدب والفن. الزعيم العظيم دون مايكل كورليوني، بكى على أخيه فريدو بعد أكثر من ثلاثين سنة على مقتله، واحد من أعظم المشاهد في الفن، فقدان الزمام والهلوسة.
في طفولتي الأولى شهدتُ البكاء على جارنا العربي، كنتُ وسط النسوة المفجوعات بموت والدهن وبعيني رأيتُ الأم والأخت في حالة هستيرية لم تفارق ذهني الشقوق التي سببتها أظافرهما على وجهيهما: دموع الدم والأم منهارة فيما الأخت تضرب رأسها في الجدار وتنزف بغزارة، ولا أحد يوقفها. الحزن غير منطقي أبدا ويتخفى في مناطق لا يمكن توقعها، في أغنيات مايكل جاكسون تجد كميات وافرة منه، في رواية الانمساخ لفرانز كافكا واحدة من أشد الكتابات حزنا في التاريخ، المقاربة لحدود الهلوسة، نفس الأسلوب استخدمه تولستوي قبل لحظات من مقتل آنا كارنينا.
الهلوسة وفقدان التحكم النهائي وحدود الجنون من فرط الحزن، رأيت كل هذا في شخصية لاغرثا زوجة راغنار لوثبروك من المسلسل التاريخي-الفانتازي Vikings لاغرثا فقدتْ الزمن والمنطق وتاهت في دوامات من الحزن وعقد الذنب والعجز، داخل متاهتها رأتْ انها هي التي أرسلت راغنار للموت، وهي التي أطعمته من الكعك الدموي وجعلته يذهب غرباً وحكمتْ عليه بالموت. الموسيقى والمشاهد المتلاحقة بسبب الهلوسة والخرافات كلها تروي ما أراد كثير من الأدباء شرحه في كتبهم.
الانسان لا يمكنه أن يحزن بقية عمره ما يكفي بكاء على يوم واحد من حياة أحبائه، لذا يلجأ الى القصص والشعر والأساطير والفن لتعبير عن حزنه وتسليته. لهذا نقرأ ولهذا نغوص في الأدب الفن، لنجعل فهم الحياة ممكناً، فالفن مليء بمثل هذا الحزن العظيم.