د. محمّد البـدوي
(كلية الآداب / سوسة- تونس)
تمهيد:
وحدها الصدفة أو هي الأقدار قادتني إلى “رحلة الضياع” في رفّ مكتبة عمومية نائية، وكنت أبحث عن مدوّنة أشتغل عليها لإعداد رسالة جامعية سنة 1977، شدّني العنوان، وحين قرأت القصائد وجدتها تسحرني بلغتها السلسة، وعفويتها وإيقاعاتها الجميلة، ومضامينها الثورية، فهي تصوّر معاناة الشاب العربي الإفريقي في دوامة الصراع السياسي والحضاري في النصف الثاني من القرن العشرين بما فيه من هزائم وتحدّيات، تنضاف إلى ذلك كلّه معاناته الوجودية. وبالبحث عرفت أنّها المجموعة الأولى للشاعر الليبي علي الفزاني،[1] وأنّه كتب بعدها أعمالا أخرى استطعت الحصول عليها في رحلة إلى طرابلس صيف 1977، لكنّ الظروف السياسية وقتها حرمتني من اللقاء بالشاعر ولم نلتق إلاّ في شتاء 1990 على هامش مؤتمر اتحاد الكتاب العرب في تونس.
وصلتني بعض رسائله وكتبه في فترات متقطّعة، واكتشفتُ سعادته بمناقشة الرسالة الجامعية وتمنّيتُ لو أنّني نشرتها في حياته.
لكن ما الجديد الذي يمكن أن يفيده المرء حين يعود إلى ديوان شعر اشتغل عليه قبل ثلاثين عاما ؟
لا أنكر أنّ قراءة الديوان بعد كلّ هذه المدّة الطويلة أحيت أشياء كثيرة، ووجدتني أستعيد فرحي الأول وأنا استمتع بنصوص بكر تحمل وهج شاب ليبي مغترب في أوربّا في الستينات وما كان يعيشه من تناقضات تتردّد بين الاعتزاز والحنين إلى الوطن والاحتماء به من جهة والثورة عليه من جهة ثانية نتيجة قرون التخلّف وتتالي الهزائم…
وقد يكون إعجابي برحلة الضياع عائد إلى ما تعيشه الساحة الشعرية العربية من تراكم فيه الكثير من الغثّ والكثير من الشعير لا الشعر. لقد كان “الشعر” قضيّة علي الفزاني الكبرى أخلص لها طيلة حياته فلم يسع إلى مناصب ولا إلى مسؤوليات تبعده عن قصائده، كان شاعرا أرهقه حبّ الحياة وكان سعيدا بهذا، ورحلة الضياع لم تنته بصدور الديوان الأول بل لعلّها بدأت بصدوره.
1) تقديم الكتاب:
صدرت المجموعة الشعرية “رحلة الضياع” في طبعتها الأولى سنة 1966 ، وتتالت الطبعات بعد ذلك (1972، 1975، 1985…إلخ) [2]
من سوء الحظّ أننا لا نملك الطبعة الأولى لأنّها تبدو مختلفة عن الطبعات اللاحقة. ففي طبعة 1972 وما بعدها نجد قصائد مؤرخة بسنة 1967 أي بعد تاريخ صدور المجموعة، وفي مقدّمة الديوان يتحدّث الأديب الصادق النيهوم عن 13 قصيدة : “هذه ثلاث عشرة قصيدة …كتبت بإخلاص… تجربة ذات بعد شعري تهدف إلى إقرار لحظة من المشاركة بين العالم وبين شاعر صغير حسن السمعة يملأ جرابه لتوّه بقضايا الفلسفة والصراع الدائمين” (ص.11)
وهذا العدد لا يعني أنّه كلّ المجموعة بل يترجم عدد القصائد التي ارتضاها النيهوم. لأنّ علي الفزاني يقرّ في كلمته التمهيدية “ولأنّ الصادق لا يعرف المجاملة ..وستصدّقونني إذا علمتم أنّ اختار ثلاثة عشر قصيدة حتّى الآن من مجموعتي الكبيرة وتردّد قبل أن يوافق على كتابة المقدّمة الصغيرة.” (ص.8)
ويبقى اختيار القصائد ذاتيا يخضع لاعتبارات فكرية وذوقية، وقد يختلف الشاعر عن الناقد في تحديد محتوى مجموعة شعرية، لكن الذي لا بدّ أن نشير إليه هو تهيّب الشاعر من الكتابة وخشيته وتردّ{ه في دخول ساحة الشعراء عبر إصدار مجموعة : “أريد أن أقول لكم إنني لا أخاف أن أكتب الآن عددا طيبا من القصائد ثمّ أقوم في اليوم التالي بطبعها في كتاب شيّق أنيق، وأغمز بعينيّ إلى أحد كتّاب المجاملات ليدبّج مقالة جيّدة يمتدح فيها أشعاري الخرقاء … نعم، أنا أستطيع أن أفعل هذا. ولكن…ماذا عن التاريخ؟ … أنا أخاف ذلك الشيء الذي يسمّونه التاريخ، ومن ذلك فقط ساورني النّدم وتردّدت أكثر من مرّة” (ص7)
فإحساس الشاعر يترجم إخلاصه للكلمة ورهبته منها لأنها تحمل إرثا إنسانيا، فكلّ شيء إلى زوال ووحده هذا الإبداع الشعري يبقى صدى للتجربة الإنسانية، وهو وعي مبكّر رافقه في رحلة الضياع المستمرّ:
ها أنا والشكّ دربي ، والخطايا ، وصليبي في يديّه
وظلالي هازئات بالذي كان…وما ظلّ لديّه
ما الذي ظلّ لديّه؟
أغنيات…كلمات في صداها
كلّ حزن البشريّه (ص.85)
وهذه المجموعة البكر يمكن النظر فيها من جوانب مختلفة وهي وإن كانت المجموعة الأولى للشاعر فهي تمثل بواكيره، وتؤكد ريادته في جوانب كثيرة ، فلها أكثر من قيمة تاريخية وفنّية .
2) بنية الإيقاع :
جاءت أغلب قصائد الديوان على منوال الشعر الحرّ باستثناء قصيدة واحدة هي “أغنية الدرب الرابع” (ص.43) كانت تقليدية البناء فجاءت عموديّة على بحر الرمل ومصرّعة:
بمداد – في صدوغي – كاللجين كتبت…إنّي بلغت الأربعين
أمّا باقي النصوص الشعرية في المجموعة وعددها 22 فقد جاءت على تفعيلتين :
1) تفعيلة الرمل “فاعلاتن” وشملت القصائد التالية : ماريا – أغنية خضراء – بعد الصلب – حنين – رقصة الرفض- شحاذ بغداد – أشواق لا تموت – حوار الآلهة- حرية الموت – موت السندباد – رحلة الضياع.
2) تفعيلة الرجز “مستفعلن” وشملت القصائد التالية: رسالة إلى طفلتي – موت طفل– النهر والجراد – منديل وداع ممزق – الدوار – فارس ليس من تكساس – أغنية الإعصار – كلمات دافئة – أقبية الجرذان – المجد والرغيف – محنة شاعر وقرية.
والموسيقى الشعرية في قصائد الفزاني الحرّة ليست وليدة التفعيلة وحدها أو القافية وحدها أو كليهما معا، إنما يساهم في خلقها انسجام موسيقيّ نابع من موسيقى داخلية يوفّرها تواتر بعض الحروف المميّزة
– في قصيدة “أغنية خضراء” نجد الحروف االخيشومية تتواتر بكثرة (الميم تواتر 19 مرّة والنون 46 مرّة ) ومن شأن هذا أن يساهم في خلق غنّة على امتداد القصيدة تزداد لينا مع تواتر حرف اللام 46 مرّة
– قصيدة “رحلة الضياع” شهدت تواتر حرف الميم 36 مرّة وحرف النّون 62 مرّة
– قصيدة “أشواق لا تموت” تواتر فيها حرف النّون 92 مرّة وحرف الميم 43 مرّة وحرف اللام 79 مرّة.
وهذا الإيقاع يضفي مسحة من الليونة والحزن على النصّوص الطافحة بالمعاناة وبالهزائم. ولو قمنا بإحصاء في كامل المجموعة لوجدنا هذه الظاهرة تواتر باستمرار.
ومن المظاهر الإيقاعية الأخرى ما نجده من تماثل في المقاطع مع ما يوفّره من تواز وتوازن إضافة إلى الإلحاح في تواتر بعض القوافي في مقاطع محدّدة.
– في قصيدة “ماريا” :نحن عشّاق البغايا ؟
نحن ؟ أم هنّ البغايا؟
(ماريا) الكلّ بغايا
وضحايا (ص18)
فبرود الثلج في عينيك في شرقي حراره
ووميض الجنس في ردفيك في شرقي شراره
– في قصيدة “رحلة الضياع” مثلما يرتاح فكر في هدوء الأبديّه
مثلما ينساب سحر من عيون غجريّة…
ورأيت الجنّ تحكي عن أساها لنبي ّ ونبيّه
وسمعت الريح تحكي للمدى سفر الدنيّه
– في رسالته إلى علي الرقيعي “أشواق لا تموت” نجد تواتر المقاطع المتشابهة في كامل النصّ: نحن نعطي…نحن نسقي…. أنا وحدي عبر ليل….أنا وحدي ….ويد الأسقام…..أين منّي يا عليّ ….أين منّي والقريض…..أنا أبكي لك….. أنا أبكي …. أنا أمضي صرخات….أنا أغدو….أنا أعدو …..سوف ألقاك….. نبع شعر…نبع حبّ… نبع شوق …
– في قصيدة “بعد الصلب” ” ظلّ يأسي هو يأسي وعذابي كعذابي
كلماتي متعبات مرهقات
نغماتي حائرات ثائرات (ص26-27)
من هذه النماذج ومن تفاصيل كثيرة أخرى يضيق المجال عن عدّها يمكن القول إنّ علي الفزّاني ركب موجه التجديد وآمن بالشعر الحرّ فاجتهد في تطوير إيقاعه الشعري وتجاوز بحور الخليل لكنّه حافظ على موسيقى شعرية فيها من الغنائية ما يجعل نصّه قريبا إلى الأسماع غير موغل فيما بدأ ينتشر منذ الستينات من قصيدة النثر فلم يتجاوز الإيقاعات المألوفة، كلّ التجاوز وقد يعود هذا لأسباب فكرية وأدبية ترجع إلى ما اختزن في ذاكرته من قديم الشعر وإيمانه بجملة من القيم العربية تسعى إلى المحافظة على التراث الأدبي حفاظا عليه من المسخ والذوبان مع ما يتهدّده من أخطار موازية للأخطار السياسية والاقتصادية.
3) أبرز المضامين في “رحلة الضياع”
تتعدّد المضامين في “رحلة الضياع” لكنّها تبقى مرتبطة بالذات في أغلبها.
صحيح أنّ الشعر لا يمثل سيرة ذاتية وهو يقوم على التخييل أكثر مما يقوم على وصف الواقع كما هو، إلاّ أنّ قصائد علي الفزاني مرتبطة بذاته، صاغ من خلالها همومه ومشاغله الفكرية والوجودية ومن ورائه مشاغل أبناء جيله ولا عجب أن تتوحّد الذات المتكلّمة بذات الشاعر. لذا ينبّهنا في التمهيد: “كلّ ما أستطيع أن أفعله من أجلكم الآن هو أن أعطيكم شيئا من العطاء الصادق…هذه القصائد من قلبي.. وقد عشتها كأعمق ما يكون”(ص7)
أ- حضور المرأة
كشفت قصائد الفزاني عن إقامة مطولة عاشها الشاعر في عديد العواصم الأوربية (لندن، مدريد، أثينا.، روما…) وهو في ريعان الشباب. وطبيعيّ أن تقترن مثل هذه الإقامة بتحقيق التواصل مع المرأة إحدى ركائز التجربة الوجودية. غير أنّ النساء اللواتي وصفهنّ الشاعر غلب عليهنّ العهر والاستهتار.
-ماريا :
عاهرة ما عرفت إلاّ مواخير المدينة
وضباب الليل إذ يغشى ذراها
وهي طفلة وحزينة
ولقيطه
حدثتني ذات يوم عن صباها
في الملاجئ ، في الكنائس
عن رجال ، عن نساء وشيوخ علّموها
كيف ترقص ثمّ ترقص
في المقابع ، في الشوارع
تتعرّى ، تهب الحبّ رخيصا
لذئاب ملء ليل الغرب
تعطي بسمات زائفات…إلخ (ماريا ص17-18)
وقد تكون هذه الصورة التي لم يألفها الشاعر في مجتمعه صدمته، فسكنته وتبعته حتّى وهو في بنغازي من خلال وصف امرأة اسبانية :
_ وجئت من مدريد …غائرة
كغيمة من الندى بالصبح كافره
لمن؟ لمن؟
لتشبعي غرائزي ؟ كاذبة
لتفرغي خزائني… نعم، نعم، يا عاهره (النهر والجراد- ص31-32)
وأمام انغلاق المجتمع الأوربي في وجه الشاعر لأمور قد تكون مرتبطة بالثقافة أو باللون أو بالجنس نجد الشاعر يترجم عطش الرجل الإفريقي إلى المرأة، لكنّه في المقابل لا يجد غير الصدّ بسبب لونه :
– للأعين الزرقاء كنت جائعا
لضمّة، لنزهة على الجليد
بغيّ تقول لي : إلى الجحيم
يا أسود الجبين يا دميم (فارس ليس من تكساس ص47)
وهذا الصدّ مردّه شوق هذا الصنف من النساء لفرسان من تكساس يهبون المال أضعافا :
غدا يجيء من تكساس فارسي
دولاره غنائمي ، نفائسي وذخري العظيم…(ص.48)
وتلخّص (أقبية الجرذان) صورة المرأة المسيطرة على مخيال الشاعر، بفضل ما لها من أموال وكنوز تأتيها من بلدان العالم الثالث الذي يرزح تحت الاستعمار والاستغلال:
– صديقتي في جزر الضباب ..سيّدة
أنفاسها تضجّ… بالدخان والكحول
وتلبس الحليّ والمخمل المزركش الثمين
وتجرع الكؤوس في نهم
وترقص التويست في مقابع العراة (أقبية الجرذان ص61)
ومثل هذه الصور عن المرأة المتاجرة بجسدها تحضر في كامل القصائد المذكورة وفي غيرها مثل (الموت والجراد) وهي صورة نمطية، تبرز عدم انصهار الشاعر في المجتمع وبقائه خارج البنية الاجتماعية المألوفة. فلم يتمكن من التعامل مع بقية نساء المجتمع الأوربّي .
وفي مقابل هذه الصورة نجد صورة المرأة الليبية يوجزها في (أغنية خضراء) ويعتبرها الملاذ الآمن، وتنصهر في صورة الوطن من غير أن يقدّم وصفا واضحا، لكنّه يصف شوقه إليها وهو في بلاد الغربة:
– لك يا حبّي الوحيد
نزفت بالشوق روحي خلجات
صخب الأمواج فيها ومواويل الجنوب
وأعاصير الصحاري العاتيات
هنّ في قلبي وفي حرفي شموع
ستضيء الدرب يوما ..والطريق
لخطانا وخطى جيل عنيد
باحث عن غده الموؤود في صمت القفار
فاحضنيها يا هواي
نغمة سمراء تدمى …في يدي ساعي البريد (أغنية خضراء ص.22)
إنّ المرأة الوطنية تحقق للشاعر التوازن والاستقرار النفسي المفقودين في علاقته بالمرأة الأوربية، وهي ملاذه من الضياع.
ب – الوطــن:
مثّل الوطن أبرز مشاغل الشاعر وقد حضر في صيغ مختلفة بعضها جغرافي، وبعضها الآخر ثقافي وحضاري.
ولئن لم يأت ذكر ليبيا بالاسم في “رحلة الضياع” فإنّ الانتماء الإفريقي واضح :
– أنا على الطريق حفنة من السأم
يجهضني المساء …
من يشتري حرارتي سيّدتي ؟
أ تشترين ؟
إفريقيا بضجعة ، بقبلة
ويمكن أن يتحوّل الجنوب إلى وصف لإفريقيا أو ليبيا باعتبارها جنوب البحر المتوسط: – لكنني يا صاحبي أخاف
أخاف ثورة العبيد في الجنوب .
-….يدي أنا أمدّها للكادح الشقيّ في الجنوب
ويمكن أن نستنتج من مجموعة الفزاني صورتين للوطن، أولاهما إيجابية تبشّر بالثورة والحرية وتقترن بحركات التحرّر:
– رفيقتي…المارد الزنجي قد غدا يفيق
والشمس أغربت ..ولا أرى هنا سوى الضباب (أقبية الجرذان )
أمّا الصورة الثانية فاقترنت بالتخلّف الذي كان عليه المجتمع الليبي في أواسط الستينات وبما ورثه من قرون الانحطاط . ففي رسالته إلى صديقه الصادق النيهوم المقيم في شمال أوربا يتألم من حالة المجتمع:
– يا صادق : العقم في مدينتي له جذور
العقم لونها…والعقم ما تلد …
لو قلت لك… يا صادق
بأنها مدينتك قد أجهضت جنينها وأصبحت بغيّ
العابر السبيل يغترف
والعاري الشريد يقتطف
شبابها..ثمارها ..أواه يا صديقي…أواه يا أخي (كلمات دافئة ص. 54)
– آه …هنا : عار وجوع
شرقي عقيم الريح ..ظمآن الضروع
لا مطر يهمي …ولا خصب ريّان الربيع
آه يا موت أطفالي ..ويا عار الدموع (أغنية الإعصار ص49)
وطبيعي أن تأثّر هذه الحالة في نفس الشاعر فتجله غريبا مسكونا بالوحدة والأسى. يعيش تمزّق دائم : إنّ في عمقي نزوعا للعلا وقنوطا كقنوط الملحدين (أغنية الدرب الرابع)
ج – غربة الذات في “رحلة الضياع”
إنّ وعي الشاعر الحاد بمنزلة قومه، وبواقعه الفردي والجماعي جعله يعيش إحساسا بتضخّم الذات، نتج عنه إحساس عنيف بالغربة. وهي غربة مكانية وروحية والأولى نتيجة طبيعية لبعده عن وطنه وإقامته في أوربّا أو القاهرة، من غير أن يكون قد انصهر أو اندمج فيهما، فكان الخطاب دوما موجها للوطن وساكنيه من العائلة أو الأصدقاء.
– صغيرتي …تسّاقط الدموع من محاجر الغريب
ويخنق الفؤاد بالحنين للربوع وللدروب
وفي المساء يمضع السهاد جفني الكئيب
يشدّ يقظتي إلى الأسى …(رسالة إلى طفلتي ص23)
– آه يا بعد الديار
لا تكلني لمماتي في الخريف
لا تدعني للأماسي الموحشات
متعب الخطو حزين …(حنين ص41)
أمّا الغربة الروحية فمردّها غربته في وطنه نتيجة عجزه على تحقيق ما يصبو إليه من تغيير في واقع الحياة ، وهل يكفي الإحساس الفردي لتحقيق التغيير:
– واليوم …ما أنا؟…أنا
ممزق ومتعب الجفون والضمير
محطّم كموجة مع المساء تبعثرت على الصخور (منديل وداع ممزق ص37)
د- حضور الشعر :
لم يكن علي الفزاني ليؤمن بشيء إيمانه بشعره. ولهذا كانت لغته الشعرية ملآى بمصطلحاته وما جاورها. فالقصائد والأشعار والأغاني والكلمات والشعراء معجم دائم التواتر. وحتّى إن سافر الشاعر في المكان وتشبّه بالسندباد فإنّ رحلته في بحار الكلمات أعمق وأذهب غورا:
– رحلاتي في بحار الكلمات
رحلات السندباد
تاه حينا في الصحارى ثمّ عاد
بخطى تدمى ولحن مستعاد (موت السندباد ص.81)
– أنا ما زلت أغنّي …وأغنّي بنغوم ضامئات (أغنية خضراء ص.21)
– لكنّني يا صاحبي… وحيد
لا حبّ لي، لا شوق لي
سوى الحروف في حقائبي وحفنة من العذاب والألم (منديل وداع ممزق ص37)
– ما الذي ظلّ لديّه ؟
أغنيات …كلمات في صداها
كلّ حزن البشريّه (رحلة الضياع ص. 85)
لقد جعل علي الفزاني من الضياع تاجا لمجموعته الشعرية الأولى وعنوانا لها، وهي قاتمة مسكونة بمواضيع أخرى قريبة ممّا ذكرنا. ويمكن أن نشير إلى تواتر موضوع الموت الحاضر بكثافة سواء كان موتا فرديا أو جماعيا.
وبما أنّ هذه المجموعة تمثّل البدايات وأغلب قصائدها كتبت قبل 1967 فلا شكّ أن تجارب الشاعر المتواصلة ستعرف إحساسا بالانتماء أكثر وستكون مسكونة بالهاجس القومي، بعد الذي ستعيشه البلاد العربية في جوان 1967، و يمكن اعتبار “رحلة الضياع” إرهاصا فضح أسباب التخلّف التي يمكن اعتبارها من بعض أسباب الهزيمة. و جملة من المقاطع الواردة تبشّر بتوثّب هذا الجيل واستفاقة المارد وثورة العبيد على واقعهم المهين وتطلعهم إلى غد جديد يحمل البشائر. فهل ترجمت دواوين علي الفزاني الموالية بعض نتائج “رحلة الضياع”.
_____________________________________
[1] من مواليد قرية صرمان غرب طرابلس ليبيا عام 1935
نشأ نشأة دينية محضة وحفظ القرآن في الثانية عشر من عمره ، تلقى بعض علوم الفقه على يد والده ودرس أصول الفقه في المعهد الديني فور تخرجه من معهد التمريض عام 1953
نزح إلى بنغازي عام 1947 وانخرط في الأعمال المهنية الصحية
احترف الصيدلة حتّى عام 1968، التحق بالمعهد العالي بجامعة الاسكندرية وحصل إجازة في التوعية الصحية
عمل محررا أدبيا بالصحف الليبية ومنتجا بالإذاعة، رحل كثيرا وزار أغلب مدن العالم الكبرى
كتبت عنه دراسات مختلفة لكبار النقاد والكتاب والشعراء العرب
من مؤسسي اتحاد الكتّاب الليبيين ومؤسس فرع رابطة الأدباء والكتاب ببنغازي
· توفي في بيرن بسويسرا يوم 27/9/2000 ف ودفن في بنغازي.
صدرت له:
– رحلة الضياع 1966 ثمّ 1973
– أسفار الحزن المضيئة 1968
– قصائد مهاجرة 1969
– الموت فوق المئذنة 1973
– مواسم الفقدان 1977
– الطوفان آت 1981
– دم يقاتلني الآن + القنديل الضايع 1984
– أرقص حافيا 1996
– طائر الأبعاد الميّتة 1996
– فضاءات اليمامة الزرقاء 1998
_____________________________
[2] – سنعتمد في الإحالات في هذا البحث على المجموعة الأولى من الأعمال الشعرية الكاملة الصادرة عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس