بين ديوانيه “متمهلا كعادتي” الصادر عام 1993 و”حليب الفخامة” الصادر عام 2013 مرت عشرون عاما، ظل الشاعر خلالها مُحافظا على نسق قصيدته من حيث البناء والتشكيل، فالقصيدة قصيرة وخفيفة مكتنزة بالمعنى والدلالات ولها قدرة على الإدهاش ومفاجأة القارئ من حيثُ لا يحتسب, هي القصيدة الومضة أو الأقرب إلى الومضة، ومثلما تُجيد القصيدة التثبيت تُجيد المحو والحذف وتمتهن مهمة تشذيب اللغة من زوائدها وإبعاد ما لا لزوم له، بيد أن الذي تغير في نسق هذه التجربة هو بناء الصورة الشعرية واللغة فبعد أن كانت الصورة بسيطة وفي متناول القارئ ولا تحتاج إلى كثير عناء لألتقاطها والوقوف على ابعادها والتفاعل معها منذ النظرة الأولى، وبعد أن كانت اللغة تجريبية في خجل، صارت الصورة معقدة ومركبة هذا أن لم نقُل سوريالية في حاجة إلى جهد أكبر لفض مراميها ومقاصدها واستشفاف جمالياتها وكشف مخبوءها، ولا شك في أن هذا التطور على المستوى التقني قد وسّع المعنى وأسهم في استحضار تأويلات إضافية وبالتالي أثرى القصيدة وزاد من المسافة التي يصل إليها إشعاعها، وجعل القصيدة حمالة أوجه بحسب تعبير الشاعر نفسه، وكأن الشاعر حين يختصر ويختزل المعني ولا يُعطي العديد من المفاتيح يتعمد إشراك المتلقي في كتابة القصيدة في شكلها النهائي.
وبعد أن كانت اللغة محسوبة ومُخططا لها إلى حد ما، أضحت أكثر عفوية وأكثر حرية في تصورنا وأكثر حيوية.
وكل هذا التبدل حدث في هدوء ودون ضجيج أو زوائد وحشو، ولا زالت القصيدة مخلصة لإيقاعها المتئد وهدوءها المعتاد كصاحبها، وتُمارس فتنتها وتنقط عسلها بعيدا عن الصخب والإستجداء بوسائل باتت معروفة لقراء الشعر اليوم، نقول ذلك ونعني الأتكاء المُبالغ فيه على القافية والموسيقى الظاهرة ومُمارسة للوعظ حتى وإن لم يُطلب منها ذلك والتمثل القاصر للأشياء وغيره من مثالب الشعر.
ورغم أن التصوف تيمة أساسية في شعر محي الدين محجوب إلا أننا لا نلحظهُ في الديوانين اللذين نُسلط عليهما الضوء في هذه المُداخلة المقتضبة، وتبدو القصائد أقرب إلى المدينية والحداثة منها إلى البداوة، والتصوف ظاهرة تنتمي إلى التراث والماضي أكثر من انتمائها إلى الحديث والحاضر، ويمكن أن نلحظ هيمنة الحداثة على النصوص من خلال المفردات الكثيرة التي تُحيل إلى العصر وإيقاعه ومظاهره وقضاياه، ولا يخفى على القارئ أن القصائد تنحاز إلى الشكل النثري الذي هو أحد تجليات الحداثة الشعرية وبلا مواربة.
وتتماس بعض قصائد ديوان “متمهلا كعادتي” مع السرد أو تتخذ منهُ منطلقا وتتأسس شعريتها عليه وتتجلى هذه الخصيصة تحديدا في قصيدة “النساء الباهرات” وهي القصيدة الطويلة نسبيا بالمقارنة مع بقية قصائد الديوان، ولا بأس من إيرادها، أيضا لأنها تمثل ذروة الديوان في تصوري.
النساء الباهرات
دعوني أتذكر جلساتهن
نساء قريتي اللاتي ..
يجتمعن حول بئر تتقن الشُح
لا يهمها العطش المغروز فينا
يغسلن الثياب الرثة
وهمهماتهن العابقة
بألوان زاهية
على إيقاع الخرير
أوقات تنشرح النفوس
ويُخبئن عن صرير البكرة
المواعيد النضرة
ونحن الصغار
شبيهون بهدوء الماء
النساء الباهرات
هُناك يتكئن
في الركن البارد من ذاكرتي
لم يعد ذلك المكان
سوى قفر
ينتحب فيه البوم
وتتحاشاه الزرازير
فقد غارت عميقا
أهازيجهن
وغارت المياه.
أيضا تطالعنا قصائد غاية في التكثيف والأختزال، قصائد تستثمر خاصية المفارقة لتُفاجئ القارئ في آخر الأمر أو ترسم علامات الدهشة على ملامحه.
تحت عنوان “احتراق” نقرأ
يا الله…
لم ينتبه إليه أحد
كان يحترق…
أما هذا الذي كان يحترق في هدوء وبعيدا عن الأعين فلا نعرف ولن نعرف من هو تحديدا، هل هو الشاعر نفسه أم المُحب أم المسافر في ملكوت العشق الألهي.. حقيقة كقراء لا نعرف، ليظل الشخص المقصود وليس المعنى، في بطن الشاعر!!!!!
جاءني هذا المساء
وفي جعبته
باقة ملونة
من النصائح
تركت بقربه
أذُنين أنيقتين
ورحلت.
وقد تنقلب الموازين فتقتص العصافير من الصيادين وتقلم مخالب بنادقهم قد يحدث هذا للحظات ولكن فقط في قصيدة “قصاص” وليس غير مشيئة الشاعر تصنع المعجزات وتثأر للضعفاء من ظالميهم!.
سأترك العصافير
تقتص من الصيادين
وتُقلم مخالب بنادقهم
عصافيري التي لا تخذلني
تحط على كتفي
وتورّثني أغانيها.
أما الديوان الأخير “حليب الفخامة” ولان جرعة التجريد فيه، أكثر من تلك التي في الأول “متمهلا كعادتي” فإن السرد يتراجع لصالح تجريب تقنيات أُخرى استثمرها الشاعر وضخها في مفاصل قصائده، ولنقف على تفاصيل هذا الأنزياح نقرأ ما يقترح علينا محجوب في قصيدة “الجالس في جنونه”….
رأفة بالآهة
تبلل ريش القلب.
بالسكران وبكأسه
يتشظيان نخبا
في مرآة التجلي.
بالجالس في جنونه
يشعل لسان الحكمة
في ندف الكلام.
برصيف
لا يشتم المارة.
بحيرة الشبابيك
حليب الوله.
بالعتمة
نسيج السواد
كلما توغلت
في انتظار الليل.
رأفة بالعصافير
فقد صارت الزقزقة
ملكوتا مفخخا.
بنوم
لا تتصيده طلاقة الأحلام
بالإثم حين يضلّ
بالفتنة تتهددها
نساء العري.
رأفة بي أسير حواسي
تتنهبني مشيئتي.
****
قليلا..
من ماء السكينة
لأُبلل سكينتي.
من خرير الأُغنيات
لأسلب لص الفراغ.
من حكمة التواري
لأُربك دخان البلاهة
في دمي.
قليلا..
من الهدوء الوفيّ
لأتعلم صمت المرآة.
قليلا..
من أُنثى
تأخذني من خيبة قلبي
تقترف وقاحات تُرابي.
وتؤكد الومضات الأخيرة الواردة بقصيدة “تأخذني من قلبي” ما ذهبنا إليه من أن الأشتغال على الصورة بات أكثر تركيزا وأكثر تجريبا والمعنى أكثر مراوغة، هذا إن لم نقُل غموضاً.
______________________
شر بموقع ليبيا المستقبل
2 تعليقات
مامعنى تتنهبني مشيئتي
نشكر مرورك الكريم