– من ناحية العمل، فالكواكب تنصحك بعدم تغيير مكان عملك، لأن ذلك سيكون في غير صالحك هذا العام، وسيجر عليك الانتقال من مكان العمل ،مشاكل لها أول وليس لها آخر، وذلك لأن كوكب المريخ.
– بعد ماذا ؟…. بعد ماذا ؟!… بعد أن وقعت الفأس بالرأس !… ألم يكن من الأفضل أن تقولي هذا الكلام في بداية العام الدراسي، وليس في بداية العام الميلادي الجديد ؟.
قالت ذلك، وكأنها تواجه (كارمن) حقيقةً، وليس عبر جهاز مرئي، وهي ترتعش في ذعر كمن مُني بمصيبة، حتى أن فنجان القهوة في يدها، كان يرتعش هو الأخر متأثراً بشدة، ودلق معظم محتوياته دموعاً في حجرها، فيما استمرت (كارمن) في الحديث عن توقعات الكواكب لبقية الأبراج للعام الجديد دون أن تكترث للزوبعة التي خلفتها في نفس الأبلة (فاطمة).
لقد كان خطيبها على حق ، حينما اعترض منذ البداية على انتقالها من مدرسة البنات إلى مدرسة البنيين، لعله هو الآخر قد قرأ النجوم، أو أنه يتمتع بالحاسة السادسة التي تنبأه بالكوارث قبل حدوثها، كان ينبغي أن تستمع لكلامه وتطيع أمره بالبقاء في مدرستها الأولى، بدلاً من وضع لائحة طويلة من الحجج المُعينة على إقناعه،كان أولها :أن مدرسة البنيين هي الأقرب إلى بيت أهلها، وكذلك بيت أهله حيث سيكون عش الزوجية في المستقبل القريب أو البعيد،وأخرها أنها لم تنسجم في تدريس البنات وترغب في تجربة تدريس البنين، مما جعله يوافق على انتقالها، بعد أن أرفقها بقائمة من الشروط والتحذيرات، ممنوع الاختلاط بالمدرسين الذكور، يجب ألا تتجاوز في التدريس الصف السادس الابتدائي، لأن الأولاد منذ الصف السابع يكونون رجالاً لا ينبغي الاختلاط بهم، المكوث في المدرسة دون عمل ممنوع، مواقيت العمل تكون منذ الدقيقة الأولى للحصة وتنتهي بنهاية الدقيقة الأخيرة منها ….الخ
شعرت بالأسف والندم وتمنت لو أنها لم تتخذ عادة البحث عن القناة التي تبث برنامج كارمن كل صباح وقبل ذهابها إلى المدرسة.
رغم أن الكثير من التوقعات لم يحالفها الحظ، ولم تحدث في الواقع الفعلي، إلا أن برنامج (كارمن) ظل تذكارها الصباحي المعتاد، فتؤجل جميع الأعمال، وتعلن الصيام عن الحديث إلى بقية أفراد العائلة،تدفع جانباً كل مخططاتها اليومية مهما بلغت درجة أهميتها، وتستدعي جميع حواسها للابتهال في صمت: بأن يكون حظها اليوم أفضل من الأمس، تفتح الجهاز في الوقت المحدد لبدء البرنامج ً دون أن تتأخر أو تتقدم عنه دقيقة واحدة، تبادر برد تحية(كارمن)الصباحية وكأنها تقدم لها رشوة،أو تضع أملاً في أن تكون تلك المجاملة الصباحية اللطيفة، مدعاة لاستدراج تعاطف (كارمن) معها.
تجلس قبالتها كتلميذة نجيبة، أو موظفة مجتهدة،تتلهف لتلقي التعليمات لتبادر إلى تنفيذها على الفور…تشكرها بدموع الفرح حين تلقي في مسامعها بتوقع جيد في يومها القادم، وتعاتبها، أو تتوسلها تغيير رأييها حين تفعل عكس ذلك، وتظل تترقب اليوم التالي ، فإن صممت الأبراج على رأييها، تلعن حظها العاثر، وتبكي سوء طالعها.
لكن توقعات الكواكب هذا الصباح،ليست كغيرها، فهي لا تخص يوماً سيمر بسرعة و تتحملها هي كيفما تكون،وتستعين على قهرها بالأمل في غد أفضل، ولكنها تخص عاماً كاملاً، بل تخص تغيير جذري في حياتها كلها .
ماذا سيكون موقفها الآن…، لو راجعت خطيبها في أمر عودتها إلى مدرستها القديمة ، فإنه لن يوافق حتماً، لأنه، وبكل بساطة لم ينس بعد تلك المشاكل والمواجهات التي صادفته حين بادر إلى نقلها ، وجعلته يتوسل لهذا، ويجامل ذاك، ويتملق هذا، ويتشابك مع ذاك، حتى كتب الله أخيراً النقل.
وإن حدث ووافق، فإنه، حتماً سيطالبها بالسبب الذي جعلها تغير رأيها في ثلاثة أشهر فقط، فهل ستخلق له أسباباً قد تجرها إلى قصص لها أول وليس لها آخر، أم تكون صادقة وتخبره بتوقعات (كارمن) وهي تعرف مسبقاً رأيه في مثل تلك البرامج، سيتهمها بالسذاجة ونقص العقل والدين، وسيسخر من شهادة الليسانس التي شنقتها في صدر البيت تتبختر على الداخلين والخارجين ، وربما ستطال انتقاداته اللاذعة حتى التربية التي كونت شخصيتها.
حانت منها إلتفاتة إلى الساعة المعلقة على الجدار، فرأتها تشير إلى قرب الثامنة والنصف، لم يبق على موعد الحصة الثانية (حصتها) غير دقائق معدودة.
– عشر دقائق، كافية لارتداء ملابس العمل، والتقاط دفتر التحضير، والقفز في خطوات قليلة إلى المدرسة القريبة من المنزل في خطواتها القليلة إلى المدرسة، كانت تفكر، كيف ستعود لمدرستها الأولى، وتتراجع عن قرار تغيير مكان العمل،وهل سيوافق خطيبها، ووالدها ومديرها، وموظفي المؤتمر الشعبي للمنطقة،والمسئولين في التعليم، و…و… وتحسرت على أيامها في المدرسة الجديدة، فقد كانت أفضل بكثير من السابقة، تعرفت على العديد من المدرسات الجدد اللاتي كن يعاملنها بمنتهى الاحترام، كما أن الإدارة كانت متعاونة معها إلى أبعد الحدود، والشيء الأكثر إيلاماً أنها أحبت تلاميذها إلى أقصى حد، …..ليت (كارمن) تغير رأيها وتتراجع عن توقعاتها المشئومة، ليت الأيام تعود إلى الخلف، ليت (كارمن) قد عجلت في الإعلان عن توقعاتها للعام الميلادي الجديد قبل هذا الوقت بكثير، لو أنها كانت معها على اتصال، لاستشارتها في الأمر قبل أن تبادر إلى التنفيذ، الغلطة غلطتها، فلو أنها سجلت موقع كارمن الإلكتروني، أو حتى رقم هاتفها الخاص، أو صندوقها البريدي، لبعثت تستشيرها قبل أن تقدم على أي خطوة، وبالتالي تتجنب الوقوع في المشاكل.
لم تنتبه إلى نفسها إلا حين قال المدير، وهو يستقبلها عند الباب الخارجي، وكأنه قد توقع حضورها أو ربما استبطأه :
– خير يا أبلة فاطمة، لماذا تأخرت ؟
– أنا تأخرت ؟!!
– أجل، الحصة الثانية شارفت على الانتهاء!
– حقاً !؟
قالت ذلك وهي تنظر إلى ساعة يدها، وتستغرب كيف أن عقارب الساعة قد قفزت في سرعة أذهلتها إلى التاسعة….صدقت كارمن…هاهي أول المشاكل، فالمدير الذي ظل طوال الأشهر الماضية يحترمها لتفانيها في العمل، وحفاظها على المواعيد، هاهو يسجل أول نقط سلبية ضدها،ويبدأ حربه ضدها بملامح عابسة،و زفرة غاضبة… اعتذرت، ومضت بكل ما تستطيع من سرعة وهي تتساءل عن سر نظرة الاستغراب الممزوج بالسخرية والتي لمحتها في عيني مديرها، حين مضت من أمامه.
صعدت إلى الدور الثاني من المبنى المدرسي، بعد أن خربشت اسمها في دفتر الحضور اليومي، دلفت إلى الفصل، فوجدت الأولاد يجلسون في هدوء، ينتظرونها كعادتهم، ويهبون لتحيتها حال دخولها الفصل.
لقد أحبت هؤلاء الأطفال، منذ الأسبوع الأول في مدرستها، في عيونهم ذكاء، وفي أسئلتهم رغبة شديدة في المعرفة، وفي ملامحهم البراءة والحنان، وهم، مقارنة بالفتيات، أكثر طاعة وخجلاً، واحتراماً للجنس الناعم.
لو أن كارمن تعيد النظر فيما قالته هذا الصباح، لو أنها تغير أقوالها وتتركها تواصل المسيرة مع هؤلاء الأطفال الذين أشبعوا غريزة الأمومة عندها، وأصبحت تحبهم كأولاد لها، وتتشوق إلى لقاءهم كل يوم، لو…لو.
انتبهت إلى طرق على باب الفصل، وحين ألتفتت، التقت عينيها بعيني الأستاذ المشرف على النظام في الدور الثاني والذي بادر بالقول:
– عفوا! أبلة فاطمة…لقد جذبتني فوضى تلاميذك من مكتبي، فاعتقدت أنهم بدون معلم.
دحرج إليها كلماته الملطخة بالسخرية، ورحل دون أن ينتظر إجابة…صدقت كارمن، هاهم تلاميذها قد تغيروا، لقد حركت الكواكب غرائزهم المشاكسة، وسلوكهم العدواني،بلا أدنى شك، فهاهم يتبرءون من براءتهم وهدوءهم السابق،ويرمون بعضهم بقطع الطباشير،والطائرات الورقية التي مزقوا كراساتهم أشلاءً لصنعها، ويضرب بعضهم البعض،أو يتهامسون ثم يكتمون ضحكاتهم بأكف أيديهم، وكأنهم يخجلون أو ربما يخافون التصريح بها علانية، كل ذلك دون أن يعيروا وجودها أي تقدير.
دخل رجل إلى الفصل، بدت ملامحه مألوفة، حثت ذاكرتها، أين رأته من قبل، ربما كان أحد المدرسين معها في المدرسة، الذين لم تختلط بهم أو حتى تفكر في معرفة أسمائهم، تنفيذاً لتعليمات خطيبها، نظر إليها ملياً،ثم تساءل:
– أبلة فاطمة ؟!
– نعم ؟!
ودون أن يزيد كلمة،أو يُعرف بنفسه، أو حتى يصرح بما جاء من أجله، دخل الفصل، وأختار الركن القصي فيه، وجلس على درج متهالك، وأخرج قلماً، وبدأ يخربش على أوراق أمامه، تساءلت في حيرة، لماذا تجرأ هذا الرجل وأقتحم خلوتها مع تلاميذها،استبعدت أن يكون أحد أولياء الأمور،أو أن يكون أحد مدرسي المدرسة، صدقت كارمن، فها هو رجل غريب، ربما يكون مجنوناً،أو به حالة ما، سيخلق لها مشكلة أو ربما فضيحة.
وبرقت في ذهنها فكرة أرعبتها، أتراه يكون موجة المادة ؟…نظرت إليه ملياً ، بل هو بعينه، نفس الهيئة، نفس الملامح،نفس ربطة العنق الصفراء المنقطة المثيرة للبصر والسخرية اختياره للركن القصي ذاته، حنحنته قبل الكلام ذاتها، لقد كان هنا منذ شهر تقريباً، وأعجب كثيراً بمجهودها مع التلاميذ، وطريقتها الرائعة في توضيح الدروس وتقريبها لفهم التلاميذ، وأكثر شيء شكرها عليه حينها، ومنحها تقدير الامتياز بعده، هو دفتر التحضير، فقد كان منسقاً منظماً، خطه واضح، ومحتواه شامل ودقيق.
– أين دفتر التحضير؟
تساءلت في نفسها، بعد أن قرأت في شفتيه أنه يسأل عنه ،بحثت في كل مكان لكنها لم تعثر له على أثر، تنحنحن المفتش، ثم قال وهو يلملم أوراقه ويهم بمغادرة الفصل :
– يا أبلة، أنت لم تحضري دفتر التحضير، ولم تعط درساً اليوم، ولا حتى كتبت عنواناً أو تاريخ اليوم على السبورة، أو لنقل عوضاً عن ذلك كله لم تنظفي السبورة من خربشات التلاميذ وتعليقاتهم المتمردة…الأولاد في حالة فوضى وأنت في حالة يرثى لها.
قال ذلك وهو يرميها بنظرة ذكرتها بنظرات المدير والمشرف والتلاميذ، وغادر الفصل…صدقت كارمن… ها هي المشاكل تتوالى تباعاً، والنفوس تتغير تجاهها بدون أسباب.
قرع الجرس، فنزلت الدرج مسرعة، فتعثرت عند الدرجة الأولى وكادت أن تسقط أمام حشد من المدرسين كانت تراهم منذ أول يوم لها في المدرسة واقفين أمام حجرة المدرسين،ولم تذكر يوماً أنها رأتهم أخلوا المكان أو غيروه أو حتى نقص عددهم، وكأنهم قد نبتوا هناك، حمدت ربها على السلامة، فالسقوط في أعينهم سيكون موضوعاً جديداً يتندرون به في مجالسهم، لابد أن النجوم قد رأفت بحالها، وأعفتها من أزمة جديدة، ولكن، ما سر هذه الغمزات التي سرت بينهم حال مرورها بالقرب منهم، لماذا اتسعت عيونهم في اندهاش وكأنهم يرونها بعد طول غياب ؟…ولماذا لوي بعضهم فمه في ابتسامة ساخرة، فيما نكس آخرون رؤوسهم، وكأنهم يخشون انكشاف سرهم….صدقت كارمن..حتى هؤلاء المدرسين الذين لم تتعرف حتى على أسمائهم، قد سلوا سيف الحرب في وجهها، ولابد أن كل منهم سيعد تقريراً يضمنه ملفاً يطرحون قضاياه في أوقات فراغهم.
عرجت على مكتب الأخصائية النفسية، صديقتها المقربة، ستكوم عندها همومها التي داهمتها كسيل العرم في خلال ساعات قليلة،، ما إن دخلت، حتى حدجتها الأخصائية بنظرة، أمتزج فيها الخوف بالدهشة بالسخرية بالشفقة ، بادرتها قائلة،وهي تكاد تصرخ من الدهشة :
– ماذا حدث لك ؟
– ماذا؟
– هل أنت بخير ؟ هل تشكين من علة ما ؟
– لا أبداً…أنا بخير…
– لماذا تأتين إلى المدرسة بصندل الحمام ؟
نظرت إلى قدميها، فرأت أصابعها تسترق النظر من خلال الفتحة الأمامية لصندل الحمام، ذو الحجم الكبير واللون الوردي القاتم
انهارت على الكرسي خلفها تضحك في هستيرية ، الآن فهمت سر تلك النظرات التي ظلت تطاردها منذ الصباح، روت لصديقتها ما حدث، فهزت هذه الأخيرة رأسها وقالت في أسف :
– بريئة هي الكواكب.