فى تسعة اغسطس 1965 كان قد مر ربع قرن على تاْسيس الجيش الليبى. كان نواته الاولى الجيش السنوسى.. الانطلاق والبداية فى الكيلو تسعة غربى القاهرة باتجاه الطريق الصحراوى الذى يربطها بالاسكندرية. حماس والتحاق ومشاركة واسهام فى العمليات الحربية مع الحلفاء داخل المناطق الشرقية من ليبيا.
ذلك الصيف.. 1965 كان لاهبا بعض الشىْ فى جوانبه. انقلب بومدين على بن بله واودعه بمشاركة بوتفليقة بعيدا فى الصحراء الكبرى. احرقت ابار البترول جنوب البريقة بفعل محلى وتدبير خارجى مجاور. اعتقل سيد قطب ومعالم فى الطريق والكثير من الاخوان. ووصل فى يونيو ديفيد نيو سوم سفيرا لاْمريكا فى ليبيا وصدر قانون البترول الذى ضمن للخزينة الليبية عوائد كثيرة وشرع فى تنفيذ مشروع ادريس للاسكان فى البلاد كافة. وشاركت ليبيا ببعثة كبيرة فى الدورة الرياضية العربية الرابعة فى القاهرة واختيرت خلالها مكانا لاقامة الخامسة فى صيف 1969.. لكنها لم تتم. حصل التغير والانقلاب. لم تغب ليبيا عن الدورات السابقة.. الاولى فى الاسكندرية 1953 والثانية فى بيروت 1957 والثالثة فى الدار البيضاء 1961. كانت ليبيا حاضرة دائما بشبابها وعطائها فى كل شى.. فى الداخل والخارج. قلت.. كانت!
فى هذه الاجواء.. ذلك الصيف الوقاد اللاهب منذ خمسين عاما.. يوم الاثنين 9 اغسطس 1965 تخرجت الدفعة السابعة من الكلية العسكرية الملكية فى بو عطنى ببنغازى. سكان بنغازى بعضهم ينصرف تلك العشية الى عمله فى سوق الجريد والظلام والفندق والتركه. وبعضهم فى القاهرة وشقق الاسكندرية. واخرون على شاطىْ جليانة والشابى وقاريونس. وبعضهم يتكىْ على نواصى الشوارع والازقة. والحياة تمضى هنا وهناك.
فى ساحة الكلية.. حفل ومدعوين.. وطوابير وموسيقى.. واستعراض واداء لقسم غليظ امام الله والاشهاد والتاريخ لكنه لم يوف. الدفعه كان قوامها سبعة واربعون ضابطا منحوا رتبة ملازم ثان فى الجيش. وكان شخص اسمه معمر القذافى فى التسلسل رقم (21) ضمن تلك الدفعة.
خمسون عاما طويلة.. عريضة. الان باْيامها ولياليها.. وشموسها واقمارها.. وظلامها وانوارها.. واحيائها وامواتها.. وحراكها وضجيجها.. وتغيراتها وتقلباتها. ايام واعوام شكلت الخمسين بتمامها. حدث ماحدث وتطور العالم وتخلف بعضه. خمسون مرت على هذه الدفعه كان فيها شخص اسمه معمر القذافى لايعرفه فى الغالب احد. مجهول وغير واضح فى الصورة. بعيدا عن كل شىْ. لكنه مع بعض من زملائه الخريجين الذين عينوا فى الوحدات العسكرية على امتداد الجيش كانوا شكلوا (تنظيمهم) العسكرى السرى داخل اسوار الكلية البعيدة عن اضواء المدينة والقابعة خلف اشجار النم والطريق الوحيد المتهالك الذى يصل الى بنينا حيث المطار وبعض المساكن والحوانيت ومحطة القطار.
هذا الشخص المجهول غير الواضح فى الصورة تلك الايام سوى لمعارفه عن قرب واولئك الزملاء رفاق الدفعه. راْوا فيه الشاب البدوى البسيط القادم من الخيمة الحالم بعبد الناصر والقومية. وكان لهم مثلا وقدوة وقديسا.. يصلى ويصوم ويعد للتغيير فى ليبيا فانقادوا وراءه بكل حماس. كان الثورة والتغيير والحلم فى نظرهم.
بعد اربع سنوات صاروا جميعا فى السلطة.. اثنى عشر ضابطا شابا واضحوا يكونون (مجلس قيادة الثورة) تاْسوا بعبد الناصر وتاْثروا به اضافة الى رفيقهم وقديسهم وايقونتهم. واعلنوا الحرية والاشتراكية والوحدة!!
ثم انقلبت الامور وتداعت. صار الحلم شيئا اخر. وتفرط العقد. وصار الرفيق والقديس مخلوقا اخر حارت البرية فيه. وراح من راح ومضى من مضى. ثم ازمات وكوارث.. جرت مصائب على الوطن الى اليوم بفعل ذلك اليوم منذ خمسين سنة وذلك الرجل الثعلب.. القديس الغامض. لم يرعوى. لم يسمع النصح. لم يستفد من التجارب. صار الوطن جماهيرية وصارت الجموع قطيعا. واصبحت ليبيا مملكة خاصة للقديس خريج الدفعه السابعة فى بوعطنى.. فى تلك العشية منذ خمسين سنة.
لم يخطر على بال ليبيا ان يحدث فيها انقلاب عسكرى وتغيير بهذا الشكل. كانت الامور تتجه اجمالا نحو الافضل رغم السلبيات والاخطاء. ولعل التغيير المرتقب كان سيحصل امنا وهادئا مع الوقت بتقدم الشباب الصفوف والتصدى للمسؤولية. الوطن كان ينهض ويتقدم وينمو شيئا فشيئا. لم يخطر الانقلاب فى كل الاحوال على بال احد. ومع ذلك علت الاصوات والهتافات والخطب والاناشيد والمظاهرات والمسيرات وتحمس الليبييون _ الا فيما ندر ممن توجسوا خيفة على مصير الوطن _ وابتهجوا ولم يذوقوا طعم النوم. ولم يكونوا قد عرفوا بعد ذلك القديس الغامض القابع خلف الصورة. هتفوا وصفقوا وبحت حناجرهم دون ان يعرفوا من قام بالتغيير. ظنون وشكوك. تصورات وتخيلات. ولكن حدث ماحدث.
ثم وصلوا الى النتائج بمرور الوقت والاعوام. كانت النتائج معروفة والحصاد مرا. المشاكل والازمات مع العالم وسلطة الشعب واللجان الثورية ومصائب الرشاوى والعمولات والفساد والقبلية والشللية.. والخوف الذى يضرب الاعماق. لم يكن ثمة منهج واضح. تخبط واستعلاء. ضاعت ليبيا بين ابنائها. وكلها نتائج لم يتم تفاديها او معالجة اسبابها فى الاساس.. الى ان وصلنا الى هنا.. حيث نحن الان.. واسواْ من ذلك.
اليوم بعد خمسين سنة.. بعد اربعة عقود من مرحلة القديس يتكرر الشىْ ذاته. يجتمع الارهاب والفساد ويلتقيان ضد الوطن والمواطن على نحو فات التصور والمعقول.. هل هى حافة الجنون يا الهى..؟
انقلاب مريع اخر فى الرؤى والمفاهيم. فى العقول والنفوس. نمو رهيب يزداد احترابا وحرابة وحقدا اسود مثل ريش الغراب. تخلف فى الفكر والثقافة والحوار والنخب وشبه القيادات.. الكذب والمبالغات.. والصدمة فى من يتصدر المشهد العجيب الغريب.
ليس هناك منهج. ليس هناك رؤية. ليس هناك انتماء. ليس هناك وطن. ليس هناك استناد على الجذور والاصول والتاريخ. ليس هناك رجال. ليس هناك ليس!!
خمسون عاما مضت. انقلاب لم يزل مستمرا ومتواصلا. زاد عدد القديسين والايقونات الصدئه. زاد الهم على القلوب. الكل يلعن القديس الغامض وفى داخله قديس مزيف اكثر غموضا وخبثا. هذا حاصل النتائج. هذا حاصل الجمع.. واحد زائد واحد يساوى اثنين. خرا واحد. فماذا تحمل الخمسون القادمات؟
ماذا ياليبيا.. يابلد القديسين الاشقياء؟!
_____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل