مرّت أربع سنوات على رحيل الأديب الدكتور علي فهمي خشيم، الذي يعدّ أحد الرموز الأدبية في ليبيا والوطن العربي، بسبب حضوره الفعال في المشهد الثقافي الليبي والعربي والعالمي، وإثرائه الحياة الثقافية بعشرات المؤلفات في مجال اللغة، والفلسفة، والتصوف، والتاريخ، والترجمة، والأدب، والصحافة، والمسرح.
الدكتور علي فهمي خشيم، أديب ليبي له حضوره الفعال في المشهد الثقافي الليبي والعربي والعالمي، من خلال مؤلفاته المتنوعة في صنوف المعرفة كافة، خاصة فيما يتعلق باللغة العربية واللهجات، ناهيك عن حضوره الفاعل على رأس عدة مؤسسات ثقافية محلية وإقليمية ودولية، كترؤوسه لرابطة الأدباء الليبيين، ولمجمع اللغة العربية في ليبيا، ولمجلة “لا” ومجلة “قورينا”، ولعضويته في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأيضاً لعمله في الجهاز التنفيذي لمنظمة اليونسكو في باريس وغيرها، كل كتاباته المنشورة دار نقاش وجدل حولها، لاحتوائها على رؤى واجتهادات، لا يرضى عنها البعض، كرؤيته لمسألة الأمازيغ، وأصل الفراعنة، ولكثير من المسائل المتعلقة باللغة وباللهجة.
إثراء المشهد الثقافي
يقول الدكتور عبد الله مليطان، وهو أنطولوجي “وجودي” ليبي تخصص في الشأن الثقافي، ومن المقربين من الدكتور خشيم إلى آخر أيامه، والمتخصصين في منجزه الثقافي في حديث لـ “الشارقة 24”: “الدكتور علي فهمي خشيم، قامة من القامات الأدبية الليبية، وعلامة فارقة من علامات العطاء العلمي الجاد، اتفقت معه أو اختلفت، لكن لا أحد ممن يعي قيمة الجهد والعطاء العلمي يختلف حوله”.
ويضيف الدكتور مليطان الذي بدأ مرهقاً، بسبب المشكلات والانقسامات التي تعيشها ليبيا في الوقت الراهن، “أتحدث عن علي فهمي خشيم، أو خشيم، هكذا بلا نعوت وتوصيف وتصنيف، ليس بالطبع تقليلاً من قدره ومقامه وقيمته، لكن لأنه هامة عالية كعلي فهمي خشيم، ليست في حاجة لتقدمها، بما تقدم به الآخرين، ممن يحملون أعلى الشهادات ولا شاهد لهم، لا مقالة ولا بحث ولا دراسة، بل ولا حتى كتاب في أي شيء يذكرنا بهم، فالمعرفة لا تعرف ولا تفسر، ولا تحتاج لبيان، والشاهد على ذلك مصنفات معرفية غير قليلة تركها وراءه بتنوع مساراتها من المقالة الأدبية، والرواية، والترجمة، والدراسة التاريخية الجادة، والبحوث الفكرية والفلسفية التي تأسر القارئ في أفكارها، ومضامينها، وطريقة عرضها، والاجتهادات اللغوية التي تجاوزت التقليدية، لترتقي بمضامين أبعد في فضاء اللغة ومقارناتها مع جذورها وأصولها، ناهيك عن تلك السيرة التي عرض من خلالها ما حدث بلغة جذابة، وبوقائعها كما هي نابضة بالروح والحياة التي عاشها، وله فيها بصمة وأثر”.
وحول الأثر الذي خلفه رحيل خشيم، وقبله التليسي، وقبله النيهوم، واختلاف خشيم عن غيره من الأدباء الليبيين يقول مليطان: “لم تعقم ليبيا عن إنجاب الرموز، والعلامات الفاعلة، والمؤثرة في الحياة، لكن علي فهمي خشيم له من التميز ما يتفرد به عن كثير من معاصريه من قامات ليبيا، وهاماتها التي حق لنا أن نفخر بالانتماء إلى الوطن الذي أنجبها، إنه آخر جيل الموسوعيين العرب بلا منازع، وشغله له خصوصيته وتميزه عن بقية زملائه الآخرين.
خشيم وإنسانية العلماء
وتحدث الدكتور مليطان عن معرفته وعلاقته بخشيم علمياً وإنسانياً، قائلاً: “مع الدكتور خشيم، لست سوى تلميذ صغير، تشرفت بمعرفته، ومن ثم بصحبته، وبعد ذلك بصداقته الدائمة، رغم فارق القيمة والمقام، والعمر بالطبع فهو يكبر والدي بعام، وفي مقام الوالد تذوب الفوارق، وأكرر القول مع الدكتور خشيم، ما كنت إلا تلميذاً يتفيأ ظلاله العلمية والمعرفية”.
ويضيف: “وقد علمني – رحمة الله عليه – أن قيمتك فيما تنتج، ومقامك فيما تبدع، وقامتك في أن تكون دون الجميع لتسمو وتكبر في أعين الناس جميعاً، وهو بقامته وعلو همته وهامته، لم يكابر في أن يقرأ أي شيء، ولأي أحد، لأنه كان يؤمن بأن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها التقطها، وكان واثقاً من نفسه، ومن قدرته على الفعل أيضاً”.
أخلاقه في القيادة
أما عن المسؤوليات القيادية التي تقلدها خشيم، وعن أخلاقياته مع الكتّاب الشباب والجدد، فيعلق مليطان قائلاً: “لم يكن يسعى إلى المنابر بل هي التي غيرت من نواميسها، لتأتيه طواعية متأملة صعوده، لأنها تعرف أنه حين يعتليها يزيدها ألقاً وتوهجاً وبريقاً، كان يقدم من هو دونه لتلتقيه الصحف والقنوات، ليظل هو من ورائه يشجعه، ويدفع به لاقتحام الأضواء، خشيم لا يحسد ولا يبغض، بل يعتز بمن يتفوق من بني وطنه.
مفهوم التصوف لدى خشيم
من محور آخر، تحدث لنا مليطان عن علاقة الدكتور خشيم بالشيخ الصوفي أحمد الزروق الذي أعد خشيم حوله رسالته الجامعية مشيراً: “سر اهتمامه بزروق الفاسي دفين مصراتة، راجع إلى مشروعه العلمي أساساً الذي انبرى من خلاله للكشف عن الوجه الحقيقي لبعض القضايا والشخصيات الجدلية، مثل ما عمد من خلال دراسته عن فكر المعتزلة من خلال كتابيه “النزعة العقلية في تفكير المعتزلة” و”الجبائيان أبوعلي وأبو هاشم”.
لهذا السبب كانت دراسته عن الصوفي أحمد زروق الذي ظل لسنوات طويلة ينظر إليه كصاحب طريقة صوفية، له أتباع ومريدون يرددون، وينشدون أوراده دون تبصر برؤيته للحياة، ونظراته وتأملاته وحكمه التي ترتقي بمعنى ومفهوم التصوف، بعيداً عن الدروشة والتمسح بالأعتاب، حيث حقق جانباً من سيرته التي دونها في كتابه “الكناش”، وأيضاً كتاب “الإعانة” الذي كشف بتحقيقه له عن جانب مهم من فكر زروق الصوفي العالم المتأمل في الحياة، الأمر ذاته ينطبق على اهتمامه بلسان الأمازيغ الذي حاول من خلاله الكشف عن جذور هذا اللسان، ومقارنته باللغات العروبية، وهو الاهتمام الذي فتح عليه أبواب ونوافد من النقد الذي تجاوزت حد الجدل العلمي لتتخذ مسارات أخرى”.
وصيته
من المعروف أن الراحل خشيم توفي في ألمانيا في 9 يونيو /حزيران 2011 م، حيث كان الصراع بين نظام القذافي وثوار فبراير على أشده، لكن لم يتم دفنه في مقبرة الهاني التي يرقد فيها أفراد من أسرة القذافي كوالده وأمه، وكذلك كاتبان مهمان رحلا قبل خشيم هما الشاعر علي صدقي عبد القادر والأديب خليفة التليسي، حول سبب عدم دفنه في مقبرة شهداء الهاني يسرد الدكتور مليطان الحكاية قائلاً:
“نعم لم يُدفن في مقبرة شهداء الهاني، وذلك راجع إلى وصيته شخصياً بأن يدفن في مصراتة، وبمقبرة الزروق تحديداً، والتي تبعد كثيراً عن مقبرة عائلته، رغم أن النظام الدكتاتوري كان قد أعد مراسم خاصة لدفنه في مقبرة شهداء الهاني، من أجل أن يستثمر ذلك لصالحه، في ظل تلك الظروف التي كانت تمر بها مصراتة حينها، حيث كانت تدك بالجراد والهاوزر، وقد حاول النظام كثيراً في منع جثمانه من الوصول إلى مصراتة عبر البحر ليدفن حسب وصيته، لكن إصرار نجله هاني – عليه رحمات الله – وزوجته السيدة حليمة، وأسرته، على تنفيذ وصية الراحل، ووقوفهم ضد توظيف مراسم جنازته لصالح النظام، كانت أقوى من محاولات النظام مما حقق للراحل أمنيته في أن يرقد جثمانه بجانب رفات شيخه زروق الذي أحب فكره، وشغف بالبحث في تراثه.
غيابه المؤثر
الجدير بالذكر أن الدكتور خشيم، لو كان حياً وبصحته، لن يكون من الطبقة المثقفة الصامتة أو النازحة إلى خارج الوطن، وقد عرف عنه مواجهته للسلطة الديكتاتورية بالمنطق والعقل والشجاعة التي توفرها الكلمة وبلاغتها، ذات مرّة كان الأدباء مجتمعين مع أحد رموز اللجان الثورية المعروفين بعنفهم الثوري وعنجهيتهم، وصار هذا المسؤول يتحدث عن الثقافة والأدب والفن بما يليق معتبراً، أي شيء خارج الثورة والكتاب الأخضر باطل، وكان الأدباء صامتين، لكن الدكتور خشيم وقف، ووبخه بطريقة أدبية، حيث تكلم عن الثقافة، ورسالتها وعن الكلمة وقوتها، وعن قضايا أدبية جعلت ذلك الرمز يتوقف ويلتزم حدوده”.
ذكريات صغيرة
لا شك أننا فقدنا الدكتور خشيم كمثقف وكإنسان، وهو الشخصية الأدبية الكبيرة التي فتحت ذراعيها لكل المبدعين، كل نشاط ينظمه يقف عليه بنفسه، ويحول كل المشاركين إلى طاقة موجبة، أنا شخصياً كلما كنت أسافر إلى طرابلس من بنغازي في الصباح الباكر، كنت أذهب من المطار إلى مكتب الدكتور خشيم مباشرة، حيث أجده يطالع الكتب الضخمة في المكتبة ويرتشف القهوة، هذا الأمر قبل الثامنة صباحاً، فكان يرحب بي، وأقول له لدي شغل ثقافي في طرابلس، أريد إقامة يوم أو يومين وفندق، وأيضاً تذكرة سفر كي أعود إلى بنغازي، حقيقة لم يقل لي في أي مرة لا يوجد لدينا ميزانية أو إمكانات أو أي عذر يخرج لك به لصوص المال العام، إنما يبتسم ويقول حاضر، نحن هنا في خدمة الثقافة، اذهب إلى خالد، خالد هذا شاب يشغل منصب مدير العلاقات العامة، ليتم لي الأمر.
آخر مرّة قابلت فيها الدكتور خشيم كانت في نهاية العام 2010، أحضرت له بعض إصداراتي، ووجدت معه صديقه الدكتور محمد وريث، عندما أردت أن أخرج عدت، وأخرجت الموبايل، لألتقط له صورة ككل مرّة، أشار لي أن أتوقف، ولا أصوّر، قلت له إذن صورتك في القلب، قال نعم، وليس صورتي فقط.
ودعت خشيم ووريث وخرجت، وقامت ثورة فبراير، وعلمت أن الراحل خشيم في رحلة علاج، وكنت قد استغربت كيف لم يركب موجة ثورة فبراير أو يتصدر حراكها، وهذا إن حدث أمر مهم، لا أدري كيف مات سريعاً هكذا…! ربما رأى ليبيا الوطن تموت، ففضل أن يسبقها إلى هناك!
____________________________
نشر بالشارقة 24