تقع مقبرة سيدي خريبيش على مرتفع صخري يطل على شاطئ البحر ويعد اعلى موقع في المدينة تتوسطه بناية عالية تشبه البرج وهي تستعمل خزانا للمياه وتعلوها منارة خاصة بارشاد السفن تظل تضئ وتنطفئ طوال الليل باستمرار وتحيط بهذه البناية اضرحة الاولياء الثلاثة الشهيرة التي تؤمها النساء في ايام الجمع حيث تفتح ابواب المقبرة للزيارة… ومن هذه المقبرة العالية كانت المدينة تبدو وكانها شبه جزيرة يحيطها البحر شمالا ومستنقعات السلماني وجليانا جنوبا وغربا وتبرز معالمها التي تجمع بين القديم والحديث في عدم اتساق.. معالمها المتمثلة في المسجد العتيق بقبته الخضراء ومأذنته القصيرة ومسجد ابي قلاز بقبته البيضاء ومأذنته الصغيرة ثم الكتدرائية الضخمة ذات القنتين الكبيرتين وبقية المقابر المنتشرة هنا وهناك… وعندما كنا صغارا اعتدنا ان نتجمع كل اصيل في زقاق خريبيش ثم نتسلق جدران المقبرة المنخفضة ونقفز الى داخلها حيث نتجه الى الخربة الشرقية وهي ساحة صغيرة خالية من القبور كنا نتخذها ملعبا لكرة
(الشخير) وغيرها من الالعاب التي كنا نمارسها ايام الطفولة اذ كانت مدينتنا خالية من ساحات اللعب.. ورغم اننا كنا حفاة فاننا لم نكن نعبا بشظايا الزجاج والاحجار المدببة وعلب الطماطم الفارغة ذات الاطراف التي تشبه حد الموسى وكل القاذورات التي يلقيها سكان البيوت الملاصقة للمقبرة في تلك الخربة.. كنا نلعب احيانا الى وقت متأخر واذا حدث ان جرحت قدم احدنا كان يبول عليها ويستأنف اللعب.. كان البول يعد مطهرا للجروح وبلسما شافيا لها كما كنا نعتقد ايام الطفولة.
وفي ايام الربيع حيث كانت المقبرة تكتسي حلة خضراء سندسية من النباتات البرية المختلفة وتتوسطها ازهار عباد الشمس بلونها الاصفر الفاقع.. كنا نحتفل بالربيع على عادتنا فتعد لنا العمة امنة جارتنا خيوط الربيع وهي خيوط من الصوف الملون كانت تقوم بفتلها وتضع لكل منا خيطا في رقبته على هيئة عقد بعد ان توصينا بان لا نصطاد طيور (امسيسي) لانها من طيور الجنة وصيدها حرام وان من يصطادها يدخل النار…. ثم تعد لنا امهاتنا بيضا مسلوقا يصبغه بالوان حمراء وخضراء واذا لم يجدن ثمن الصباغ كنا يطبخن معه قشور البصل بنيا قاتما وعند ذلك نذهب الى المقبرة حيث نجلس على الدكة امام ضريح سيدي غازي ونتبارى في نقر البيض ببعضه ومن تنكسر بيضته يتنازل عنها لصاحب البيضة الصلبة ثم يتوسط الحاضرون بين المتبارين ويرجعون البيضة المهشمة لصاحبها ويأكل كل واحد بيضته ثم ننطلق وراء اسراب الفراشات الملونة، وصدى ضحكاتنا يدوي في اعماق المقبرة الساكنة.
فأذا حل الصيف وارتفعت درجة الحرارة في ايامه الفائضة، خرجت الزواحف والحشرات من جحورها وظلت تجوس بين اشجار الصبار الكثيفة واعود النباتات والاعشاب اليابسة وكنا نعمد الى مطاردتها بين المقابر فنجري خلف الابراص والخنافس والعقارب الصغيرة ونرميها بالحجارة في فظاظة بالغة حتى نجهز عليها… اما اسراب النمل فلم نكن نعمد الى ايذائها لا سيما اذا وجدناها قريبا من اضرحة الاولياء…
لاننا كنا نشفق عليها ونبتهج لمرآها وهي تقوم بجمع مؤونة الشتاء وتكدح في اصرار لتخزينها ومواجهة قسوة الشتاء بها.
واذا جاء الخريف وهبت الرياح الشمالية الباردة حلت بالمقبرة اسراب السمان التي كنا نجدها تحط على الاسلاك والاعمدة الممتدة على طول جدران المقبرة فنعمد الى رميها بالحجارة الدقيقة الدقيقة بواسطة (المقاليع) وكانت طيور السمان تفر هاربة عبر المقبرة الشاسعة وتحط على الاعمدة البعيدة ونظل نجري خلفها حتى يدركنا التعب ونعود نجلر ارجلنا في اعياء.. اما الشتاء فقد كان هو الفصل الوحيد الذي يجبرنا على ترك اللعب في تلك المقبرة المهجورة لعدم وجود اماكن نحتمي بها من المطر والرياح العاصفة ولهذا كنا نضطر الى الابتعاد عن اماكن لهونا المفضلة مرغمين، كانت هذه حالتنا على مدار العام وتعاقب الفصول، وكلما حل الشتاء بزمهريره وحال بيننا وبين اللعب في المقبرة احزننا ذلك وظللنا نتطلع بشوق الى شمس الربيع وزهوره.
وذات يوم وبينما كنا نستعد لاستقبال الربيع كعادتنا اذ حل بالمقبرة رجل غريب رايناه عند الاصيل يقف امام ضريح سيدي جمعة القائم في اعلى مكان بالمقبرة كان كهلا نحيفا طويل القامة يرتدي جبة مغربية فضفاضة وعمامة بيضاء يلفها حول راسه وذقنه وتبرز منها لحيته السوداء الكثة… كان يقفمنتصبا بين المقابر العثمانية ذات الشواهد المرمرية العالية ويبدووكانه احد الموتى قد خرج من القبر بكفنه وكان يمسك بيده سبحة. وذكرنا منظره ونحن نطل من وراء جدران المقبرة بما كان اهلنا يحدثونا عنه ذكرنا بصورة ظلت عالقة بافكارنا منذ بدأنا ندب على سطح الارض ونخرج الى الشوارع.. صورة (الزعلوك) الذي يخطف الاطفال الذين لها اختام في كف ايديهم ثم يقوم بذبحهم كقرابين على (المطالب) الكنوز الموجودة بالمقابر، والتي لا تنفتح الا اذا اهرق على اعتابها دم طفل يحمل في كف يده شارة الخاتم كان اجدادنا يحذروننا ويقولون لنا ان (الزعاليك) لا هم لهم الاالبحث عن الكنوز المخبأة في باطن الارض وحرق البخور وتلاوة الطلاسم والرموز وتسخير الجن في الوصول الى الكنوز واستخراج الذهب من اعماقها وظللنانتفرس في اكف ايدينا لنرى ان كانت بها علامة الخاتم التي يبحث عنها (الزعاليك) فإذا قيل لاحدنا على سبيل المزاح يدك بها خاتم انضلع قلبه من شدة الفزع.
كامنت ثمة افكار موروثة تسيطر على مشاعرنا، افكار تتمثل في الخرافات التي كنا نسمعها من اجدادنا عن الزعاليك واعمالهم الخارقة… وكانت هذه الافكار هي التي بعثت في قلوبنا الصغيرة الخوف، وزاد من حدة تأثيرها في ذلك اليوم ونحن نرهف السمع ونحدق في ذلك الغريب من وراء جدران المقبرة. واخذ ظلام الغروب يتكاثف وبدا الرجل الغريب يتحول الى شبح يقف منتصبا دون حراك وسط سكون المقبرة المظلمة…. وماتت قطة سوداء وهي تقفز على سطح احد البيوت المجاورة للمقبرة وبحركة لا ارادية قفزنا بسرعة من جدار المقبرة الى الشارع وانطلقنا نركض عبر الشوارع الخلفية من شدة الهلع حتى وصلنا بيوتنا لاهثين… وكانت احلامنا تلك الليلة كلها مزعجة…ولم نعد الى الاقتراب من المقبرة حتى جاء يوم الجمعة وحضر سي عبد الله الخفير وقام بفتح ابوابها للزيارة المعتادة.. واقتربنا منه بحذر وتوجس وسألناه….
– سي عبد الله وين الزعلوك اللي كان في الجبانة.
– وضحك سي عبد الله وهو يضغط على طاقيته الحمراء حتى تصل الى اذنيه كعادته واجاب:
– هذا مش زعلوك هذا مروكي ماشي لبر الحجاج.
– ليش يقعد في الجبانة.
– ما هو ما عندشوين يبات مسكين.
– عدا والا ما زال قاعد.
– عدا… عدا.. سافر للحج على كرعيه.
– ماهو الحج بعيد يا سي عبد الله
– سافر و خلاص كان تفهموا.
واستدار سي عبد الله ومضى الى داخل المقبرة في خطى بطيئة وبيده السلاسل والاقفال التي يستعملها في قفل الابواب.
وتطلعنا الى ساحة اللعب المعتادة فرأينا سربا من طيور ( امبسيسي ) تحط على اغصان اشجار ( الطرفاية ) العتيقة.
__________________________
الرواد ع 6 س 3 يونيو 1967