قصة

أبـــي

حلمت أن أبي مات.

في ساحة السجن بعد عشرة سنوات من الاعتقال، عند لحظة إطلاق سراحي أخبرني أخي أن أبي مات.

الخبز بحاجة الملح كي يكون خبزا، عاش في مدينة تلفها السباخ وعمل خبازا.    قال أن صناعة كهذه يتقنها أهل المدن، فتمكن منها وأتقنها علي يد ايطالي.

عند فم الفرن يضع دائما زجاجة نبيذه، كلما دفع بطرحة جديدة للفرن أخذ جرعة من مرضعته كما يحب أن يكني الزجاجة. كلما شرب قدرا من النبيذ خرج من بيت النار إلي خارج المخبز كي يتجرع هواء باردا، بين الهواء والنار يقضي ليله وبين النبيذ والخبز يعيش يومه. عند الفجر تنضج أكلة اليوم، يغرف منها قدرا مناسبا يضعه في صحن، ثم يغادر المخبز قاطعا الأمتار القليلة التي تفصله عن بيته،عاريا من منتصفه الأعلى، حاسر الرأس، حاملا الصحن، وبقوة يلج باب البيت،يتجه إلي سريري، يقتلعني من سباتي -علي عجل- كي أكل مما طبخ، اعتدت أن يفاجئني بطبخة جديدة في كل مرة.

علي يد الايطالي معلمه فهم الدرس؛ الخباز الجيد عليه أن يتعلم الطبخ فكل ما له علاقة بالبطن بحاجة لبعضه،لذا أجاد اختيار الدقيق وغربلته ثم عجنه وتخميره حتى تحويله إلي أرغفة، من نيئ إلي طازج واكب عمله في اجتهاد مثابر وبين.

لا عليك الخبز الطازج حقا أخذ وقته في التخمير بعد سبك عجينته، والنار الهادئة تجعل أرضية الفرن التي من طين تحتفظ بحرارتها، فالأرغفة كما كل شيء تحتاج الدفء كي تنضج، وفي العجلة الحريق.

أعد أكلة اليوم بتؤدة معتادة؛ شكل من عجينة الدقيق ما يشبه رغيفا، حشاه بقطع اللحم والطماطم والفلفل الحار والثوم والزيتون وقليل من زيته، كان قد عجن الدقيق بماء العنب أو النبيذ، أودع رغيفه هذا عند مدخل الفرن ثم تركه ينضج …دلق في فمه الزجاجة، أفرغ نصفها في جوفه، وشرب القليل من ماء الفلفل الحار – المسير – كميزة، أخذ في إخراج الأرغفة الطازجة من الفرن ؛الطرحة الثانية جهزت ولم يبق سوى أن تودع في بيت المخبز، حيث يطاولها التحول من عجين نيئ إلي أرغفة طازجة.

فارع القامة وببشرته النبيذية وطوله كما جن النار يقف عند الفرن. مصارع متوثب حتى لا تأخذه غفلة فتحصد جنون النار ما زرع، لو ترك الفلاح السنابل سيلتهمها القيظ، لقد عمل في صباه خماسا أي من يحصل علي الخمس مما يحصد من القمح أو الشعير، ووجب عليه عندئذ أن يقتلع خمسه من أيدي القيظ الخناس؛ ما يقبض الروح في غفلة.الخماس ورايس البحر والسائس كل منهم الوقت في جرابه، وإن كانت الغفلة علي طرفة عين، لكن رايس الفرن يلعب بالنار، لهذا عنده الخمر سبيل لليقظة؛ تؤجج فيه الرغبة للمعاركة، وإن تشعل في الجوف النار فإنها تشعل أيضا الروح وتحفز الجسد الذي تنتشر فيه جيوش العنب الحية، وتغلب جيوش النار ما تأكل بعضها كي تحيا،ولهذا لا تخذه سنة من نوم و لا داعب الوسن عينيه،جعل من النار زوجة طيعة ومن الليل النادل.

بعد أن يشبع البيت من طعامه يعود بإبريق من الشاي الأخضر إلي الفرن، يتهامس الخبازون بأن قطع الصفا والمروة كل فجر ليس لله، في البيت امرأتان، في الرأس جنون الخمر تتلاعب بجسد ثور صهرته نار موقدة. لا أحد يجرؤ: لو سمع الرايس همهمات في هذا لصابهم الهلع،يكتفون بالصمت في حسرة ويرتشف من ليس لهم في الخمر الشاي الأخضر. لكن منادميه منهم كثيرا ما ألقوا بنكات حول أنه يبذل جهدا خارقا بين زوجتين ونار، وأن منهم العزب من بمستطاعه تقديم يد العون، لحظتها يكون من نطق بذلك مأسورا في قبضة ثور هائج يدنو بفريسته أين بيت النار، لا يفكه من أسره ودنوه من السعير إلا ضحكة الرايس؛ من اندفع إلي الفرن فقد نضجت الطرحة الثانية وحان قطافها.

لا وقت للجد مع النار لا بد من اللعب؛ قال الرايس وهو يهم بالراحة بعد أن خمدت النار، عندها أخذ العامل المختص في إضافة الحطب،وبدأ أخر علي دراجة نقل الحمولة الأولي من خبز اليوم ليتم توزيعها علي محلات الزبائن.أما بقية العاملين الذين ينتظرون الإحماء الأخير للفرن فدخلوا – كالعادة – في لعبة المصارعة وهم جميعا نصف عراة أما الرايس هو الحكم.

ساد هدؤ أخر الليل أول النهار في المخبز بعد أن بدأت حركة موزع الخبز ونهض الشارع من نومه، في هذه اللحظات يأخذ الخبازون في ترك المخبز بعد أن تكون الطرحة الثانية تدخل الفرن لتخرج ناضجة، أول المغادرين العجان ويتبعه البقية أما الرايس فهو أخر المغادرين من الصنايعية كما يكنى صناع الرغيف، حين يطمئن علي أحوال شغل تلك الليلة يقطع الامتار التي بين المخبز وبيته بتثاقل من ترك حبيبا بداعى الارهاق، من بيت النار إلي السرير ليغرق فيه وقد غمس خبزه في نبيذه وانهكه شغل يومه.

عند بدء نومه يفيق البيت كنت استعد للذهاب الي المدرسة فيما أمي تعد الافطار وكذا زوجة أبي التي تعد ابنتها للذهاب الي المدرسة. واذا كان في المخبز الجن هو في السرير الميت و الغائب دائما عن البيت الذي يضايقه بتفاصيل مرهقة و لا تنتهي ؛ أفاق يوم أمس في أول النوم علي عراك وصراخ يحفظه عن ظهر قلب: الزوجتان مختلفتان علي لا شيء كما كان يقدر أمورهما، لأن النوم يغالبه لم يهتم لكن علي غير العادة تمكن منه العراك الذي ظنه سيهدأ مع لا مبالاته، نهض مندفعا إلي وسط البيت حيث يضع بعض حاجياته في مخزن استل حبلا، تسلل إلي حيث زوجتيه مباغتا، انكمشتا المرأتان كل منهما هربت نحو الأخرى أمام هجومه الكاسر، داهمهما بقوة ولفهما بالحبل وربطهما معا حتى لم يتمكنا من الحراك.

دون أن ينبس خرج صافعا خلفه باب البيت.

الوقت قارب الظهيرة حين عدت مبكرا، المدرس كالعادة يغيب يوم الخميس لأنه يسكن في بلدة قمينس البعيدة عن المدينة،هذا يسرني وتمنيت كثيرا أن يتغيب يوم السبت أيضا حتى تطول فترة الراحة. مندفعا في سرور دخلت لأجد أمي وزوجة أبي في شكيمة واحدة زاد سروري تصورت أني سيد المكان، فكرت أنه فور عودة أختي سأربطها هي أيضا …

أخذت زوجة أبي في إغوائي بعد أن فشل تهديد أمي، لقد اشترطت الحصول علي المكافأة مقدما كي أفك أسرهما: حلوة ديك. فككت الحبل وخرجت كحارس؛ وجب علي ساعة قدوم أبي العودة مسرعا وربطهما.

مقالات ذات علاقة

الصمَـامَة

محمد النعاس

مرارة

أسماء مصطفى

عـمي الهاشـمي

عزة المقهور

اترك تعليق