<1>
وأنت تثقبُ الظلمةَ بعينٍ خائفةٍ وخيالٍ مهجور ،
ثمة شهقة هسيس تتخفّى . كأنك أعمى يا ابن مخيلتي
اقتف دخان محبتك واطرد لغو الريح عن قصيدتك التالية
ودع الكلمة الوحيدة تنتظر .
الكلمة الصغيرة الناعمة ،التي تتبعها آيات النور ،
الشبيهة بكتل سابحة في سديم يسافر .
الكلمة الهابطة من علو أزرق بشعر مبلول .
الكلمة الجريئة وهي تصهل من بعيد .
الكلمة التي نجمة طليقة ترفرف عيدا على مدارج الوحشة ،
عصافير حرة في سماء مطمئنة ،
قوس قزح يزهو بكريستال محبته .
الكلمة ، المديح للنار جالبة المطر ، المديح للألفة التي واءمت بيننا ، وبين كل ملح ، وماء قليل يتكاثر ..
لكل واحد يتعدّد ، الكلمة أبجدية خطف .
الكلمة التي انفصمت عراها بين المعاني
وتفتّح بريق شهوتها عاليا .. حيث الأسماء تشير إلى
برتقال المسارب الحارة / برتقال الشموس الثملة
بلاغة النشوة .
الكلمة ذاتها ، تتشرد حين تلبّي نداء حرف مجهول النسب
الكلمة السخية وهي تقدم أفضل ما لديها
من عصائر ورضاب ونجوم ،
التي تُركت غفلا بين الخرائب ستُدلي بأوصاف مفسديها..
التي أقوى من أن يقهرها نزيفٌ أو تهزمها فاجعة ،
دعها تنتظر .
<2>
أول كلمة ذات مغزى سمعتها في برلين
هي ” ميته “، تعني الوسط ..
لهذا توسّط جدرانك الستة مغمورا بالوساوس
ستوقظك البروق ابنة السماوات الشقيقة .
لأن الكلمة المجلجلة تترك فراغا بعد الحرب
ستتشرد الدلالات وتتشابك في دروبها الأسرار
الكلمة التي بلا شكل ،
تغدو شكلا من عبور إلى آخر
التي بلا نسب ، تصنع ملاحم من فتوحات المحبين ..
سنتبعها واثقين من فخامة إعجازنا .
الكلمة التي بلا صوت ، لها أعياد ومآذن وألعاب وعطل،
ومسرات تقتحم فصول الأسرى /
كأنك أعمى حين لا ترى الجمال يتمرد
ربما تعتعتك سيولُ الظلامِ فغدوت صلباً كالمجاعات .
دعها تنتظر.
الكلمة المشعة كحبيبتك
الكلمة التي لا شيء ، وكل شيء
ستمجّد عذوبة رفقتها وأنت تخمد موجوعا في الظل القصيّ
الكلمة بآفاق زرقاء يتاخمها ضباب شبق
لا قوانين
لا طواطم تحدّ صدرها
تأتي هكذا دونما إشارات .
الكلمة الراسخة في العشق
بذرة نار ، وعواصم مطر
الكلمة : توق المنبوذ / ثوب المستوحش ،
سكن الشتات من المعاني الضالة ..
ووطن العابر صديق البراري .
الكلمة القادحة
دعها تنتظر
ستبرق دفقة سحرها لتخترق سماء الهواتف .
< 3 >
يا أشقاء النثر وحراس البيان
بأية قوارض كانت الحكمة تتمزقِ لتغدو نهبا لجيوش الزمهرير .
ولماذا كلما حطّت يمامةٌ شاردةٌ تهجرُ الدلالاتُ فولاذَها
ألهذا الحدّ ، الكلمةُ ضرورةٌ لنموّ الرياحِ وهجرة الطيور وتداول المعرفة
تكتسحُ أبوابَ الحاميات ليقتحم جنودُها خزائنَ المجهول .
الكلمة حلقة مفاتيح ..وسهام وجد
القوية الضاربة ، الإعجاز نفيرها .
الكلمة التي لها فمٌ يشير ، وعيونٌ تعتقُ الظلالَ في صحراء النور
لها يدٌ ،أصابعها من خجلٍ وحليب .
الكلمةُ : حمالةُ شوق ،تحتفي بعودة غيومها لجهات السؤال
جوابةُ غيب ، من باب بن غشير الى كاتنزارو لا أسماء تكفيها
دعها تنتظر .
< 4 >
دعها ربيعا آخر حتى تستردّ تاجها المسروق
فما أبهى الكلمة التي تقود اليقين إلى ضفاف القلق .
أعني الكلمة نذر المعرفة التي كأنها رؤوس الشك
التي طفل يتشبث بحلمة الروح .
فزّاعة نظر،
شبح محطات مجهولة ،
مراكب ريح ،
جبل من حكايات وحنين ،
خروج من ثرثرة الزوبعة إلى كثافة الماء .
الكلمة التي تنطلق بثبات موجة نار
خلاصة ألم وفتنة .
التي تخون فراغا في جدار اللغة لتكمّلني وأنا أومئ إليك
التي تعيد كتابة الحواس بحبر الندرة
تشكل خرائط تيه وتزيح ورما من ترهات الجسد ، حتى أراك
وأنت ترسمين قيامتي ، فأشتهيك معزولة عن قدر الجواري .
الكلمة النظيفة ،الحزينة ، الغاضبة
محض كلمة تترك بحرا طيبا
أو كوخا يطير بخفة على حافة سحب خضراء ،
أو تلوّح بحياء
إلى امرأة نضرة وجريئة وكاذبة
كأي عاشقة تقع في شراك الحب .
الكلمة : حقول ألغام في ممرات الغواية
كمائن خفة تراود الضالين بأحلامهم
فارفع قصيدتك الآن
ودعها تنتظر .
< 5 >
الكلمة الخفيفة ، النزقة ، الضحوك ، المدللة :
حينا ، هي مِشْيةُ ملكة ..
حينا،تنتزعُ المعاني من رؤوس أموالها ،
وتقترح قلقا يتقلّب على هبوب الأسرى .
رأيت رعاياها يتسكعون في شوارع الكتب ،
فقهاء يتربّصون طير البراهين .
رأيت السجون تضج بصرخات نفيرهم ..
السدنة بأحذيتهم الحدباء الذين سرّحوا بأسماء مبتورة ،
وأحلام ذاوية بلا أبواب /
الذين خرجوا بظلمتهم …
ولم يعثروا على قلوب حفروها على لحاء الوطن .
كنت هناك في الجبل الأخضر حين خيّم بؤسنا .
كانت محض وعود من خزف ثرثار تلوّن المرعى ..
كان جدي يصلي لأجل أن تغدو الكلمة عناوين جنّة .
طارت أسراب من حمام فوق القصور التي ليست لنا ..
كنت شاتئا ورثّا وحزينا من الداخل ..
تذكرت خيانة الطين وهجرة اللعب .
مرت مدنٌ عاريةٌ وأبواقٌ صاخبةٌ وشاحناتُ جنودٍ وأمّهاتُ جوع ..
والكلمة غير الكلمة التي ابتكرنا معاجم أجنحتها ،
عندما كنا نسخر ضاحكين من طوابير الخبز في
الصباحات التائهة :
أرتال كالحة من الصمت تتقدم ببطء ماكر في العراء البارد
عند هضاب (المرج ) التي صنع الزلزال نصف حكاياتها المارقة ..
المرج التي شهدت بعض ترهات صباي .. مرت دونما ضجة
المرج التي أيام بلا مخابئ وعطر وحبيبات.
محض كلمة متصدّعة تدور بين الفصائل المنتشرة خلف الأسلاك الشائكة تبحث عن معنى .
كان الجنود يُظهرون حماقة أكثر بلادة من حكاية
(غرقَ حمارُ الشيخِ في العقبة ) ..
ربما لأنك أيها الشاعر تنبذ الكلمة الجامحة بأصواتها المختنقة
التي بلا غيوم ، ونوافذ وقناديل .
الكلمة التي يطعمونها لجراء النحاة ،
و تكره الفقه الذي يتنطّع بقداسة الموتى
وينمّطُ السماءَ والسفرَ والأمنيات .
لكن الكلمة الخليلة تظل مُرحّبا بها قبل التدوين وبعد التكوين .
الكلمة التي تهبّ حارة ،لا تعير احتراما للقوانين البلهاء
لا تلتفت أبداً للغو المشعوذين المهرة
إنها ترنو لنمو الغيوم وتصنع أجنحة واثقة .
الكلمة ذات الوشم
التي تدربت على صقل جموحها في زنازين الثكنات القصية
الكلمة المهملة والشاردة في معلقات معتقلة طيلة الدهر
ذات الشرفات المشعّة ،
والرسائل المخبأة كقرابين
التي لا تمحى
تذكرك بعاشقة أو مدينة نسيتها
تذكرك من جديد بأنك ذئب في الثالثة والخمسين
تذكرك بسيدي عبد الجليل وزوربا ومفتاح العمّاري
تفتنك مرة أخرى بحياة مخبأة داخل صندوق
في قاع بئر أو قصيدة نائمة ..
ببكاء عند الفجر في برلين الباردة
هنا حيث ينتسب الوجع إلى سلالة الديناصورات
خلف الجدران العتيقة لمستشفى( شارتيه )الشبيه بكنيسة تحتضر
حيث كل غياب بهيئة كلمة فاتنة تطرق باب الروح
دعها أيها الكهل قليلا ريثما تغادر بلاغة عزلتك
دعها تنتظر .