عندما دخلت، كان كل شيء مرتب، الكراسي في مكانها، والنوافذ في مكانها، المكيفات، وسلة القمامة، كل شيء، حتى الأطباء والممرضات كانوا جميعهم في أماكنهم.
جلست حيث طلبت مني موظفة الاستقبال، أشعرتني رائحة المطهر بأمان طارئ، أنا – بحسب هذه الرائحة – لن أصاب بالعدوى، رحت أتأمل الممرضات “والممرضين”، لم يكونوا كالممرضات ولا كالممرضين، كانوا يمشون بخفة كأنهم مخلوقات غير أرضية، ينظرون في وجوه بعضهم بإبتسامة لا تنتظر المقابل، كانوا ينظرون إلي بنفس الابتسامة، لم أجد في ابتسامتهم: “ماذا تفعل هنا أيها الـ .. ؟” كلا، هذه الجملة لم تكن ضمن معاني ابتساماتهم، كانوا يبتسمون بحنان حقيقي، هذا أخافني، خفت أن يكون المرضى قد سيطروا على المستشفى، و بدؤوا يلعبون علي لعبة مجنونة.
نظرت خلفي، كنت أجلس وورائي الواجهة الزجاجية للمستشفى، نفس السيارات، نفس المارة، ونفس الأتربة، الأتربة بالذات، إنها دليل حاسم على أنني مازلت هنا.
بدأت استمتع بمشاهدة رجل تحاصره زوبعة ترابية، كان يضرب بيديه في الهواء، محاولا الدفاع عن نفسه. لماذا تكثر الزوابع الترابية في الربيع؟ هذا ما كان يشغلني حين قاطعني صوت صديقي خالد.
– أحمد ..
نظرت إليه، صدمني ما رأيت، كان خالد، ذلك الفتى الرائع، ولكن بيدين مقيدتين، محاطا بممرضين مبتسمين. تأملته باندهاش، بينما تكلم الممرض.
– كان علينا أن نقيده، إننا لا نعرف متى يعبر عن جنونه.
ابتسمت ابتسامة حمقاء، هممت بقول شيء إلا أن الممرض تدخل.
– لم يحن وقت المجاملات بعد، تعال معنا.
مشيت وراءهم وأنا ألوم نفسي. لم أقابل صديق طفولتي كما يفعل الأصدقاء، لقد ترددت وخفت.
دخلنا إلى غرفة صغيرة. توقف الممرضان بالقرب من الباب، لم يكن في الغرفة شيء سوى شوطين من الكراسي المتقابلة، بينهما مسافة تقارب المترين. قبل أن أتكلم، قاطعني الممرض:
– إذا تحرك بشكل مفاجئ، اركض، أنت تركض ونحن نتكفل بالباقي.
نظر إلي خالد وهو يبتسم من أعماق قلبه، ثم سألني: هل تراني مجنونا؟
– كلا، أبدا، ولكنك في مستشفى المجانين.
– نعم، وبجدارة.
– كيف؟ أنت خالد، أنت أكثرنا تفوقا وذكاءً وجسارةً.
ضحك بطريقة لا تخلو من جنون:
– لقد قلت لهم ذلك، كلا، لم أقل جسارة، فلا داعي لأن أبالغ في مجاملة نفسي، لكنهم لم يقتنعوا، هل تشهد ضدي؟
– تقصد معك.
– نعم، معي … أنا وأنت فقط.
شعرت بارتباك خانق، و لم أعرف كيف أتعامل مع صديقي القديم، ولكنه أنقذني عندما سألني:
– لماذا جئت؟
أجبته مباشرة، فهذا سؤالٌ حفظت إجابته:
– لقد اشتقت إليك، وجئت لنتذكر أيامنا معا.
أجابني متسائلا:
– وهل نعرف بعضنا؟
تجمدت للحظة، ثم بدأت أهز رأسي لعلي أسقط منه ردا مناسبا، أما هو فعاد إلى الضحك المجنون، و بدأ يضرب رجليه في الأرض، ويردد:
– أخيرا، أنا مجنون محترف، حتى حكة صدق هذا.
“حكة” كان لقبي في المدرسة الثانوية التي درست فيها أنا وخالد، ارتحت، فهو الآن يمازحني، تذكرت على الفور شخصيته العابثة، تلك الشخصية التي كانت تخلق من كل كلمة نقولها نكتة مبهجة، كنا ننبهر من خياله الواسع، وذهنه المتوقد، أجبته مسرورا.
– مازلت تتذكر، كانت أياما رائعة.
– كانت تفاهة …تفوه.
تحرك حركة مفاجئة، فتحركت بدوري، وهممت بالركض، تهيأ الممرضان للانقضاض عليه، ولكنه اتكأ من جديد على مقعده وهو يتمتم:
– ارحل، لا يمكنك أن تكون صديقي، أنت تخاف مني، كما لو كنت أجربا.
اجبته مباشرة ودون تفكير:
– وهل نعرف بعضنا؟
نظر إلي مشدوها، ثم ابتسم، وهو يتكلم بوقار مخيف.
– نعم، أنت على حق، يمكنك أن تخاف. هيا تكلم، قل كل ما تريده، اغضب، اصرخ، افعل ما تشاء. لن أسمح لهم بضربك أبدا.
كنت مشوشا تماما، ولكنني تماسكت وبدأت أتحدث بثقة ادعيتها، ولكنني لم أتقنها:
– لقد أخبرني حميد أنك في المستشفى، أذهلني الخبر، لم أصدق أبدا، أخبرَني عن سبب دخولك المستشفى.
قاطعني:
– وعن السبب … جئت تسألني؟
أجبته وقد تحمست فجأة:
– نعم !
– ولم تشتق إلي، ولا إلى أيامنا معا.
– كلا.
اندلقت وراء أسلوبه الواثق، وأجبته بصراحة مبتذلة، ولكنه لم يتأثر، أخذ ينظر في الفراغ، واسترسل يسكب ذاكرته في حجري.
– بعد أن تخرجت من الجامعة، وقفت في الفراغ، أنا كما تعرف. هل تعرف؟ لا أدري …انقضت خمس سنوات لم أكن أفعل فيها شيئا، لا شيء أبداً، صدقني، لقد تذوقت طعم الفراغ بلساني هذا.
أخرج لسانه وأمسكه بيده وأخذ يهزه، كان جادا، حازما، ومجنونا تماما. لم أتحرك.
– في أحد الأيام خرجت إلى الشارع ركبت حافلة واتجهت إلى (الفندق) كنت غير واثق مما أريده ولكنني كنت أشعر باقترابي من مبتغاي، سرت كأبله في الشوارع لا أرى شيئا سوى عقلي، أقسم أنني في تلك اللحظات كنت داخل عقلي، لقد كان عقلي يودعني، استضافني داخله لساعتين كاملتين، كانت تلك أروع لحظات حياتي، وبعدها أظن أنني غادرته تماما.
سألته بفضول طفل:
– كيف؟!!
– لقد انتبهت إلى نفسي وأنا أصرخ هائجا كثور، كنت أشتم كل شيء، كل شيء حرموا علينا أن نذكره دون تبجيل، كنت أشتمه بأقذع الألفاظ، حاولت أن أتحكم فيما يخرج من فمي ولكنني لم أستطع، كان لساني يتدحرج من قمة جبل شاهق، امتلأت نفسي بالكثير من الغرابة، وصرت أطلق ضحكات صارخة مروعة أفصل بها كل موجة من الشتائم عن الموجة التي تليها، كان الناس ينظرون إلي، وكنت أنظر إلى نفسي، ودهشتي ضائعة في مكان ما، بين روحي ووجهي، كان يزداد جنوني غرابة وتزداد شتائمي سخونة وقبحا، بدأ الناس يهربون خوفا من مجرد سماعهم لكلماتي، كنت أنظر إليهم وأفكر، استخدمت الشيء الذي كان في يوم من الأيام عقلي، تساءلت إن كانوا سيذهبون لغسل آذنهم وإزالة ما علق فيها من شتائم لكي لا يُقبض عليهم، أرضاني أن تنعم المدينة بيوم من الآذان غير القذرة، فأطلقت ضحكة جديدة، كنت أشتم وأفكر ثم أضحك.
نظر إلي وسألني بشغف:
– هل يجوز أن أسمي ما كنت أفعله تفكيرا، هل يمكن للمجانين أن يفكروا؟
أجبته بانزعاج:
– لا أدري، أكمل.
أطاعني، كما لو كنت أباه الذي مات منذ عشرين سنة.
– رأيت سيارة شرطة تقف بالقرب مني، لقد وصلت للتو، ونزل منها أربعة رجال هزيلين، انحنيت، والتقطت حجرا كبيراً، رجمت رجال الشرطة وسيارتهم، تحطم زجاج السيارة .. عندها فقط علا صراخ الجمهور وبدؤوا يشتمونني، ثم هجموا علي وأخذوا يضربونني بكل وحشية، إنك تعرف ما الذي يحدث عندما تجتمع الضواري على فريسة ضعيفة، لا يمكنها أن تدافع عن نفسها.
نظر إلي ثانية وسألني.
– هل تعرف، أم أنك حمار؟
اجبته بضيق:
– نعم، نعم، أكمل.
– ضربوني كبهيمة، ثم وضعوني في (الشنطة) وطاروا بي إلى مركز الشرطة، وهناك كان الضرب أقل حدة، لم يكن إلا تعبيرا عرضيا عن السيطرة، لم يكن جنوني أنا هو المقصود بإهاناتهم هذه المرة،كان المقصود جنونهم الخاص، عقدهم الخاصة التي تحتاج إلى الإرواء، لقد تقبلت ذلك كشهيد، لم يزعجني إلا شتائمهم غير المثقفة، كانت شتائم غبية بشكل جارح، كانت بدائية، حيوانية وجاهلة، لقد جرحتني، اسمع، أؤكد لك أنهم لو وجهوا هذه الشتائم إلى حجر لتفتت من هول الفراغ.
– ماذا حدث بعد ذلك؟
اجابني وهو يسترخي:
– صفعت النقيب، أو الضابط … لا أدري.
– غير معقول!
– أقسم لك، اسأله إن كنت لا تصدقني.
– لماذا؟ لماذا صفعته؟
– لا أدري، لم أصدق وجهه، كان مخيفا بشكل مزعج، أردت أن أتخلص من وجهه، وأن أرى ما تحته.
أجبته بسخرية لم أستطع مقاومتها:
– وهل رأيت ما تحته؟!
– نعم، بعد أن ضربني على رأسي بدباسة أو خرامة.
صمت قليلا ثم أكمل:
– نزلت الدماء من رأسي، ونزل هو بعد ذلك من وجهه، أشفق علي، وطلب منهم أن يعرضوني على طبيب مختص، رفضت الطبيب مختص وطلبت طبيبا آخر ولكنهم لم يسمعوا.
– ماذا حدث بعدها؟
أجابني بتذمر:
– لا شيء، جئت أنت.
– هل رأوا أنك مجنون؟
– نعم، كنت أريد السجن ولكنهم رفضوا، ورموا بي في هذا المكان المكتظ.
استمر مخاطبا نفسه:
– لقد انجرفت كثيرا، كان علي أن أتوقف في الوقت المناسب.
بدأ الوقت ينفد، والزيارة تقترب من نهايتها، أردت أن أعرف بشكل نهائي إن كان مجنونا، سألته بحذر:
– هل تعرف لماذا فعلت ذلك؟ هل أردته؟ هل خططت له؟
صمت قليلا ثم تكلم بطريقة ذكرتني به”
– حسنا، سأعترف لك بشيء لم أقله لأحد، كنت في الليلة التي سبقت ذلك اليوم، اليوم الذي فقدت فيه عقلي، كنت قد رأيت حلما، كلا، ليس حلما ولكن نبوءة، فكرة، تحولت بسبب بشاعتها إلى حقيقة، عشتها، وجعلتني مستعدا تماما لما عقبها من جنون.
تساءلت من أعماقي:
– ما هي هذه الفكرة؟
– كنت أنا، أنا في ذلك الوقت، وأنا آخر أكبر مني بثلاثين أو أربعين عاما، كان أنا الصغير يصرخ في وجه أنا الكبير “لماذا أهدرتني؟ لماذا لم تدافع عني؟”، كان يهزه ويلطمه على وجهه، وكان الشيخ يبكي كطفل.
صمت قليلا ثم استمر ..
– لقد شعرت برعب شديد، كيف يمكنني أن أتحمل حجم الندم الذي سوف أشعر به، بعد ثلاثين عام.
لم أفهم، وكنت أخشى أن ينتهي وقتنا، تدخلت:
– أي ندم؟ على ماذا تندم؟!
– على شبابي، على سنوات عمري الحقيقية، هل أنت أحمق، ألا تعلم أن الإنسان يعيش عشرين عاما من العمر الحقيقي والبقية مقدمات وخواتيم.
– ولكن ما دخل هذا بما حدث بعدها؟
– أردت أن أمنح الشيخ جوابا قويا، مبررا مفحما، لكي يرد على ذلك الشاب الوغد، أن يقول له “لم يكن الأمر بيدي لقد كنت مسجونا، مكبلا، هم من ضيعك ولست أنا”.
لم أتكلم، كنت أنظر إلى خالد، وكان ينظر إلي كأبله ليبي أصيل.
قاطع أحد الممرضين تأملاتنا:
– انتهى وقت الزيارة.
نهضت، تحركت خطوات قليلة نحو الباب، لم أرفع عيني عنه، هو أيضا لم يرفع عينيه عن الفراغ الذي كُنته، سألته:
– لماذا اخترت تلك الطريقة لدخول السجن؟
أجابني وهو لا يكاد يشعر بوجودي:
– لم اختر شيئا، كان الأمر أشبه بحلم لم أصحو منه إلا في مركز الشرطة.
– لماذا ضربت الشرطي، إذن؟
– أردت عقوبة غليظة، سجنا انفراديا، أردت زنزانة امتلكها، غرفة لا يشاركني فيها أحد.
– لكنك لم تحصل عليها.
ابتسم، ولم يعد راغبا في الحديث معي.
خرجت .. غادرت المستشفى وأنا أقلب فكرة واحدة في رأسي، “ما الذي سأمنحه لشيخي، كي يدافع عن نفسه، أمام ذلك الشاب الوغد؟؟”
تعليق واحد
أبله .. إذ حقّق تماماً نبوءة ذاك الشيخ !
هل كان خالد ( جباناً ) إلى الحد الذي جعله يتحامق لألا يزج بنفسه في موضع المُقصّر أمام نفسه المسقبلية , أم أن ظروف الحياة حقاً في بيئتنا الليبية تذيق الشباب علقم الفراغ والوحدة والعطالة والألم إلى الحدّ الذي تغدو فيه الأرواح أبخس من الذباب ..
شعرتُ بحاجته الملحة للعُزلة والهرب .. شعرتُ بمأساته في أن يتحوّل همّ طموحه إلى زنزانة .. علّه يرتاح!
أما ما مسّني شخصياً فهو هذا الشطر ..
“الإنسان يعيش عشرين عاما من العمر الحقيقي والبقية مقدمات وخواتيم.”
شكراً.