قصة

تجليات رجل تافه

الحياة لا تعبر شارعنا

 

كنت أفكر في حواري مع الرجل التافه، ذلك الرجل الجالس بجواري، أما هو فكان يتأمل الناس، وابتسامة لا تكاد تظهر، تتسرب من بين شفتيه

فكرت في قصة حدثت معي قبل أيام قليلة، وكنت أقاوم رغبة جامحة في سردها عليه، ولكنني لم استطع، قررت أن أرويها له:

ـ لقد حدثت معي حادثة، لعلك تستطيع تفسيرها

التفت نحوي متحمسا

ـ نعم، حدثني

بدأت أسرد قصتي بكثير من الطلاقة، كأنني أمام شخص أعرفه منذ سنين :

*

لم أكن يوما من مرتادي (الشوكة)، ولم أكن متعاطفا مع مرتاديها، وإن كنت أتفهم تحايلهم المنطقي، على اللامنطق الذي يعيشون فيه.

قبل أسبوع، تغيرت كل معاييري في تقييم هؤلاء الشباب، لا أعني تقييمهم أخلاقيا، فهذا لا يعنيني، لكنني أعني تقييمهم معرفيا، إن جاز هكذا تعبير.

بدأت الحكاية قبل أسبوع، عندما كنت خارجا كعادتي في الصباح الباكر، متجها إلى عملٍ أحاول أن أُجمِّل به وجه بطالتي، كانت الساعة السادسة والنصف صباحا، وعند هذه الساعة، يصعب أن تشاهد مرتادي الشوكة، لأنهم في الغالب لم يناموا إلا منذ ساعتين، أو ثلاث ساعات، وحتى الذين تصادف وناموا مبكرا، لن تجدهم، فهم الآن يجهزون أنفسهم لارتياد شوكات المدارس الثانوية، وليس شوكة شارعنا المجدب.

حسنا، ما حدث قبل أسبوع أنني خرجت كعادتي، لم يكن ثمة ما يدعو للريبة، كل شيء على حاله، وشارعنا كما كان بالأمس، بل كما كان منذ سنة، كلا، إنه كما كان منذ قرون، الشيء الوحيد الغريب هو أن الدوام قد بدأ مبكرا، في شوكة شارعنا، فعندما وصلت إليها كانت مكتظة بالشباب، وبأعمار مختلفة، تبدأ بالمراهقين ولا تنتهي باليائسين، كان تجمعا مثاليا، لو لم يكن في شوكة شارعنا لاعتقدت أن مظاهرة ما، ستنطلق من هنا.

كانوا مهذبين بشكل مريب، يترقبون، كأن معجزة ما على وشك الحدوث، لم يكونوا متعرقين، أعني أنهم لم يكونوا محاطين بسحابة من الروائح النفاثة، كعادتنا، كانت تفوح من معظمهم رائحة مزيلات العرق نصف الفاسدة، مكونة خلطة لا يمكن لمرتاد الشوكة أن يعترض عليها، أو أن يفكر في تجاوزها، إنه يكتفي بوضعها على جسده، لا لشيء، إلا ليرفع عن ذلك الجسد مسئولية إيذاء الآخرين، ويرميها على عاتق (المزيل)، في حقيقة الأمر، هذا ما أفعله أنا أيضا.

في ذلك اليوم، كنت أعرف تماما أنني أفوت حدثا مهما وأنا أغادر المكان متجاوزا شوكتنا، أعني شوكة شارعنا، ولكنني لم آخذ الحدث على محمل الجد، فقلما يحدث في شارعنا ما هو جدي، حتى إذا حدث أمر جدي، فإنه يتحول بعد مجموعة من التدخلات غير المنطقية إلى حدث ساخر، فكاهي، وفي الغالب، إلى حدث أحمق بامتياز

غادرت المكان، ونسيت كل شيء، لكنني في صباح اليوم التالي تذكرت، كلا، لم أتذكر، لأن ما حدث بالأمس كان يحدث الآن، لم أتذكر، وقعت على نفس المشهد، ولكن بإلحاح هذه المرة، وبوضوح لا يترك مجالا لتجاهله، كان عدد الشباب أكبر، وتباين أعمارهم أوسع، ورائحة المزيل أكثر خبثا، كانوا جميعا أكثر تأدبا، كأنهم فقدوا ذاكرتهم، أو كأن خبلا محببا قد أصابهم.

لم أكلف نفسي عناء سؤالهم، ليس لأني لا أهتم، ولكن لأنني أعتبر البشر مخلوقات لا ينبغي الاختلاط بها، إلا في حالات الضرورة القصوى، وهذا ـ طبعا ـ يرجع إلى عُقد خاصة بي.

غادرت المكان متجاهلا كل شيء، حتى تساؤلاتي عن سبب هذا (الترقي)، هذا (التسامي) الجماعي، تجاهلتها، كأنها لم تكن أبدا.

استمر ذلك المشهد الصباحي في التشكل يوميا بطريقة غرائبية، تؤدي إلى نتيجة لا يمكنني تجاهلها، وهي أن علي أن أتتبع نهايته، أن أعرف أين يصب كل هذا اللطف و الوداعة، وكل هذا العطر النفاذ، قررت في أحد الصباحات أن أتوقف في الشوكة، وأترقب مع جمهرة المترقبين، كان يمكن لوقوفي مع أولئك الشباب أن يجذب انتباههم، ليس لأهمية شخصي، ولكن لفرادة أن يقف شخص غريب الأطوار ـ مثلي ـ معهم، ويشاركهم شوكتهم، وقد كنت قبل ذلك أمر بالشوكة ولا ألقي حتى تحية مجانية عليهم، بل أكتفي بالمرور، هكذا .. كأن شيئا لم يحدث.

كان يمكن لوقوفي ـ في ظروف عادية ـ أن يكون مدعاة لتساؤلهم، أو لعتابهم، لسخريتهم، أو غضبهم، ولكن ذلك لم يحدث، أقصى ما قدموه لي، أنهم لم يشعروا بوجودي، ولا أخفي أن ذلك أراحني، وفقا لنظرية أن البشر مخلوقات ينبغي تجنبها، وقفت في مكان محايد، ورحت أنتظر حدوث المعجزة.

مرت ربع ساعة أو أقل قليلا، وبعدها حدثت المعجزة، بل جاءت، جاءت على رجلين، بدأت تقترب نحونا، قادمة من بداية الشارع، وكلما اقتربت زاد تهامس الشباب فيما بينهم، ولكن دون إثارةٍ لجلبةٍ أو فوضى، كانوا يتناجون، وكانت هي تقترب، أما أنا فكنت مشدوها بهذه المعجزة التي تمشي على رجلين.

اقتربت، ثم اقتربت أكثر، صارت أمامنا تماما، حل سكون رهيب، ظننت أنه السكون الذي يسبق العاصفة، لم يكن هنالك أية عاصفة، وإنما هبت علينا جميعا نسمة باردة تحمل كلماتها، بعد أن حلتها بابتسامة منعشة

“قود مورنينق إفري بدي”

جاوبها الفصل المدرسي الذي انتميت إليه للتو

” قود مورنينق”، وبعضهم أكمل ” إفري بدي”

كانوا جميعا يتسابقون على الرد أولا، كأن كل واحد منهم يريد أن يثبت لنفسه، وربما لها، أنها خصته بالتحية، ولم تدخل بقيتنا في تحيتها إلا مجاملة ورقة تليق بأمثالها، أما أنا فلم أتجرأ على رد التحية، ذلك لأنني جديد، لم يتسنَ لي الوقت بعد لتكوين وهمي الخاص حول هذه المعجزة التي حلت بشارعنا.

كانت شابة إنجليزية، لا يبدو أنها عاشت قبل اليوم، لا يمكن، إنها في غاية الوضوح، وفي قمة التحقق، إنها شيء جديد، فكرة جديدة، عالم مدهش من الاحتمالات، كانت تلبس ثيابا رياضية، وتمارس رياضة الصباح التي نسمع عنها، وأظنها كانت تعرف ما يعنيه لنا مرورها من شارعنا، فلقد أبطأت وتلكأت، وكنا نحن واضحين، متحققين بشكل ما، متأثرين بما تشيعه فينا من بدايات.

عندما توارت عن أنظارنا، خيمت على رؤوسنا لحظة صمت، كانت كأنها الدهر، ثم تفرق الشباب بعدها صامتين وحالمين.

في اليوم التالي، لم استطع أن أغادر الشوكة قبل أن أرد على تحية الصباح، كنت أتحجج بأشياء كثيرة ـ لكي لا يهتز وقاري ـ فقط من أجل أن أتوقف قليلا، لأسمعها تقول

” قود مورننق “

ولأجيبها أنا

” قود مورننق، جوليا، سارا، ديانا” أو أياً كان اسمها

مرت، وتكرر المشهد، لم أرد على تحيتها، أحدهم رد عليها مغامرا بمستقبله معها

ـ قود مورننق، حياتي

عاتبه الجميع بعدما غادرت، وهددوا بطرده إن هو كرر هذه الوقاحة

في اليوم الثالث، وقفنا وانتظرنا، كان موعد عبورها لكنها لم تأتِ، تذمر الشباب، تخاصموا واكتأبوا، غادرتُ المكان مكتئبا أنا الآخر، شعرت كأنني خسرت نصف العالم، وإذا لم تأتِ غدا فإنني سأخسر نصفه الآخر

عندما كان الغد …لم تأتِ، أخبرنا أحدهم أنها سافرت، لقد كانت في فريق علمي ما وغادرت قبل يومين، انتهى كل شيء، لم يعد هنالك مبرر لتعمر الشوكة بالحياة في هذا الوقت المبكر من كل يوم، انفض الشباب، بعضهم غادر إلى منزله، وبعضهم اتجه إلى أقرب مدرسة ثانوية للبنات

نسيتُ تلك الشابة الإفرنجية، أو كدت أفعل، ولكن أحدهم، أظنه أحد دراويشها، أعادها إلي بكل حضورها، عندما استوقفني في أحد الصباحات التالية لحادث اختفاءها، كان على قدر من التعليم، عاطل، ومدمن على الحشيش، هذا ما أعرفه عنه، سألني بشكل مباشر:

ـ أنت تحتقرنا لوقوفنا في الشوكات

الحقيقة أنني لم أحتقر شيئا في حياتي، كما أنني لم أبالغ في احترام الأشياء، ولولا معاناتي من الوقار، وكسلي المزمن، وامتلائي باللاجدوي، وشيء من العقد الأخرى، لوقفت معهم، لا ألوي على شيء.

كان علي أن أجيبه بحنكة وذكاء:

ـ كلا، إطلاقا، إنني انطوائي قليلا، فقط

ـ لماذا وقفت تتفرج عليها معنا، إذن

كان يتحاشى أن يذكرها صراحة، وهذا أشعرني أنه أغرق في الوهم، أجبته بحذر شديد:

ـ فضول، مجرد فضول

ـ وهل عرفت لماذا نقف في الشوكة؟

ـ لا أدري، لم أفكر في ذلك أبدا

أكمل دون أن يهتم بجوابي:

ـ إننا نفعل ذلك لنحظى بقدر من الحياة، فالحياة لا تعبر شارعنا

عند هذه الجملة، توقفت عن متابعة ما يقوله الشاب، وأخذت أفكر، فكرت فيها كثيرا، وتأملتها كثيرا، وحتى هذه اللحظة مازالت أرددها في نفسي

“الحياة لا تعبر شارعنا”

لتذكرني بتلك الشابة الإنجليزية، وبشابة أخرى، لا تريد عبور شارعنا.

مقالات ذات علاقة

الأثرياء يتسولون أيضًا

المشرف العام

برقٌ آخر

محمد دربي

مَن يفترس الذئاب؟!

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق