تلكأت رجلاه، شخص ببصره في الظلام اللامتناهي ليتأكد من وحدته في الشارع الفسيح.. تحامل على نفسه وحباتُ المطر تَّساقط بقوة لتصفعه.. أدرك بسرعة أنه نسي ارتداء معطفه، ضم ذراعيه حول صدره وأحنى رأسه.. داخله حاور خارجه.
– شتاءات وأنت كما أنت!!.
حدج أعماقه بنظرة تائه، اجهد بقوله:
– وما كان توقعك ؟!.
تسارعت خطواته التي كانت بطيئة، كان كلما رفع بصره يغمض عينيه تفادياً لتسلل سهام الغيث إليهما… البيت بعيد، الجوع يقرصه.. جمع قواه، حفز نفسه لغياهب الظلمات، ومضى محاذراً كي لا تبتلعه الحفر التي موهتها السيول.
دفعة واحدة انبثق مخزون ذاكرته… فقذف به لزمن الكُتاب والشيخ ينبهه ومن معه من تلاميذ بعصاة طويلة، يصوب الخطأ ويشكر الصواب… تنطط بذاكرته داخل سور المدرسة فلاحت نصائح معلمه من بعيد.
أسدل جفنيه فولى الماضي هرباً من الحاضر وتمتم لنفسه :
– عبثاً ضاعت سنوات دراستي.
وقف تحت عمود الإنارة الوحيد الذي يتدلى منه مصباح معتم، أسند ظهره على العمود، لم يعد بوسعه مواصلة المسير.
غزاه إحساس كمن مات قبل أن يولد وكأنه شجرة سلبت أوراقها الخضراء بفعل رياح الخريف ولم يبق منها سوى عظم مجرد من الحياة.
من وراء نظارته السميكة تسلل إليه حزن وألم كبيران، فأطرق قائلاً وهو يغالب أحزانه وآلامه:
– رأيت، وسمعت ما كانوا يرددونه على مسامع الجميع.
– قالوا والعهدة على الراوي بأننا سنتوظف حال تخرجنا.
دس يمناه في جيبه يلتمس الدفء فيما يسراه يداري بها المطر عنه، ارتجف من البرد وصدر عنه صوت:
– يا لسذاجتي وحمقي !!.
ارتفع صوت المؤذن من جامع المغاربة (الله أكبر… الله أكبر) طمأنينة تلبست نفسه عقب سماعه للصوت العذب فردد:
– صدقَ الحق… صدقَ الحق.
تلاعبت رياح الليل به، كأنه يصارع شخص … لكم عمود الإنارة، فانبعث منه ضوء باهر، وضرب على رأسه… طارت نظارته لتقع أشلاءًً متناثرة في ظُلمةِ الليلِ…
6/9/2002