المقالة

لحظة ترجل التاريخ

 

في أعماقي استيقظ وعد بالعودة إلى البيت, ملوحة عيناي لشمس جديدة, تشرق على رمز كل المدن, تلك التي تفجرت يومها بالنهار، شمس كانت تهطل من أيدٍ، من قامات، من حلم، من جبين تغضّن طويلا بساعات الانتظار, من وجنتين سماويتين, عرفتا كثيرا دلائل الخوف, من شراع امتشق أخيرا الهواء, وأبحر نحو مرساته, تلك الشمس الطالعة من خوف الكلام, صيّرته يومها انسجاما, هي ذاتها, تلك الطالعة من المساحات القاحلة, صوب أعماق فسيحة تعيد تشكيل نفسها ثانية.

كنت أراقب الأغنية, في تسارع خطوات الثوار تصير نبضات, في أولئك الزاحفون من أقاصي الشرق, من تلال الجبل الغربي, من سهول الوسط, يأتون في الميعاد, لعملية فجر عروس البحر, بعيونهم المثقلة بالأحلام, تكتسح الخوف والترويع, أراقب الأغنية في هتافاتهم التي تجمع الأناشيد, وتدخل في سباقات تنشغل بالوصول إلى قلب باب العزيزية.

كان الليل يومها يترنح على الطريق, ينشغل بدواره اليائس, ينزاح مذعورا للمتسللين من أطراف طرابلس ومن وسطها, يحملون دمهم, روائحهم, بكائهم, للذين يدّخرون حكايا المطاردات, فوق الكباري وهم يرفعون علم الاستقلال القديم, أو يضرمون النار في صور العقيد, يبتلعون قصص الملاحقة للإيدي التي خاطت الأعلام, وجهّزت ألوان الطلاء, لرسم علم الاستقلال على الطرق السريعة بمداخل العاصمة, ليلتحموا بأولئك المتسللين لبواباتها الثلاث من كل المدن, والمتسللين من البحر, كما انشغل كثيرا بالذين تركوا جانباً كل ذلك الوجع, وتجاهلوا نقاط التفتيش كل 50 مترا, يسافرون في الاسبوع مرة أو اثنتين إلى تونس, ليكتبوا لنا شيئا, أو يرسلون ما وثّقوه لشهور الاحتلال والتعتيم, يسلكون ممرات اللاعودة, رافضين التفكير في معسكرات الاعتقال, والساحات يُجرّون إليها للهتاف والتهليل, غير عابئين برشقات الرصاص, وحراب المرتزقة, وفوهات المدافع, يرتدون وجوههم وحدها, ويراهنون على الله وحده.

بوغتت الشوارع الشاحبة في طرابلس, حين حدث كل شيء, كما لو أن شيئاً لم يحدث, بوغتت بذلك الألم الكبير, حين بدا يومها أنه قد تخدّر, بوغتت بتلك القلوب, ما عادت تحفل بأحزان البارحة, ومآسي البارحة, ومنذ دهور, بوغتت بتلك الأيدي المجدولة لثوار ليبيا من كل صوب, ومن اجتماع الحرائق بدمهم المحرور، ومن اجتمار الأصابع، بوغتت بهم, يذهبون في أقل من يومين, لأبعد من نهاية الطريق, يدخلون باب العزيزية, يقتحمون حصونه المنيعة, يجوسون بالمكان لتطهيره, زنقة زنقة, شبر شبر, بيت بيت, دار دار, فرد فرد, يطاردون ظل ذلك الجرذ اللائذ بالحفر, حريصون على رفع الحجارة والبحث تحتها, يطرقون أبواب الخزائن عله يجيب, يعبثون في صندوق ثيابه المضحكة, تقلّب أصابعهم النحيلة ألبومات الصور, ومسابح العقيق, يلتقطون الصور في خيمته البدوية, يتراشقون بوسائدها, حين بوغتت الشوارع الشاحبة يومها بالتاريخ, التاريخ الحابس أنفاسه, يترجل في ساحات طرابلس, يراقب الجموع تهدر, تستعيد مصيرها, عيناه لا تكفان عن الاتساع, وهو يحملق في أولئك الذين يستعيدون الشمس التي اختطفت منهم, قبل أن يقرر أخيراً أن يحيّيهم, فيرفع قبعته المصنوعة من مُخمل, ملوحاً لهم بعصا الخيزران في يده, ويبستم.

وأنا! في أعماقي يستيقظ وعد بالعودة إلى البيت, ملوحة عيناي لشمس جديدة, عيناي المتلفتتان للخلف أبداً, تشرفان الآن على حقل من السوسن, تحلمان بدوالي العنب, تتسلق سور البيت من جديد, تحضتن زغباً حاراً، تفتح النافذة على مواسم الربيع وحدها, لتملأ فمي بالزهور, بعد أن امتلأ طويلا بالدم و,أشعر أنني حرة, كما خلقت إرادتي أول مرة.

21.10.2011

مقالات ذات علاقة

مُقترح مبدئي للاحتفاء وللتوثيق، وأرشفة التاريخ النسوي الليبي (*)

فاطمة غندور

جميعا عند الجدار الأخير

عمر الكدي

مايجري الآن هو استفزاز للشارع الليبي

عزة رجب

اترك تعليق