المقالة

غـياب ثـقافة الحـوار .. الأسـبـاب والأبـعــاد

 

كل نشاط إنساني ينشد هدفاً لابد أن يتأسس على التفاعل بين عناصره لكي يحقق الغايات المرجوة منه. والثقافة بلا شك هي نشاط وفضاء شامل تتلاقى وتتفاعل فيه الأفكار والآراء وأشكال التعبير المتعددة بصورها التوافقية أو التعارضية، بدرجة مطلقة أو نسبية، من أجل تشكيل الهوية الخاصة بتاريخ وحاضر ومستقبل الوطن … أي وطن. ومثلما تختلف الأوطان في أنظمة حكمها ومؤسساتها الحكومية فإن الثقافات قد تتفاوت في المقومات التي تبنى عليها والخصائص الوطنية المميزة لها.

وما نلمسه في مشهدنا الثقافي الليبي هو غياب أحد العناصر المهمة في حركية الفعل الثقافي وتفاعلاته واستمراريته، وقدرته الديناميكية على إفراز وتنقيح الأفكار والآراء التي من شأنها التواصل في الموضوع وعبر الزمن، ألا وهو عنصر (اختلاف) و(حوار) الآخر مع ما ينتجه هذا المشهد الثقافي من نصوص وأعمال أدبية وشعرية وفنية وغيرها من الأجناس الإبداعية الأخرى. ومرد أو سبب ذلك وشيوعه لا يبدو ظهوره آنياً في حياتنا، بل هو تراكمي ومتداخل بين الفردي الخاص، والمنهج التربوي الاجتماعي العام منذ أمد بعيد.

وعند بداية التعاطي مع قضية غياب الحوار في ثقافتنا، لابد من التوقف لتحليل مفردة الحوار لغوياً لمعرفة ما ينطوي عليه مدلولها اللفظي وأبعاد معانيها الأوسع. فالحوار يمكن وصفه بتبادل وتجاوب الرأي بين مرسل ومستقبل. فالمرسل هو صاحب المنتوج الفكري الإبداعي، والمستقبل هو المتلقي المستهدف بهذا المنتوج. أما ساحة الحوار فهي الفضاء التفاعلي الذي يولد التأثير المتبادل بين طرفي المعادلة الحوارية عبر أنواع التواصل المتعددة، المباشرة أو غير المباشرة، مرئية أو مسموعةً أو مكتوبةً. كما يمكن النظر إلى ساحة الحوار على أنها المؤشر الذي يوجه بوصلة العمل المنتج نحو مدايات أبعد، فيغوص فيه ويتجول في ثنايا أركانه ويستنطق بعض عناصره، ويحلل أدواته الفنية، ويزود المبدع ذاته ببعض الملاحظات التي ترصد مسلكه وفكرة موضوعه وتتابع تطورها، وتبعث إشارات تتكامل مع بنية النص الإبداعي، وتوجهه بحيادية موضوعية من أجل الوصول به إلى محطة أرقى ومرتبة أفضل.

وطبعاً ليس شرطاً أن يكون هذا الحوار بين المتلقي والمرسل توافقياً أو تعارضياً على الدوام، لأن درجة القبول والاستحسان للمنتوج الإبداعي تتوقف على عدة عناصر مثل أسس الخلفية الفكرية والبيئة العامة التي ولد وترعرع فيها النص الإبداعي أو استمد منه موضوعه، والإطار والوعاء الزمني الذي أطلق فيه، والفضاء الجغرافي أو المكاني الذي تحددت معالمه فيه وأبرزت أثاره، بالإضافة إلى إمكانيات وأدوات المرسل المبدع في التعبير عن أفكاره والتواصل مع محيطه، وفي الجانب المقابل قدرات المتلقي المستقبل على استيعاب وفهم مضمون وأهداف ورسالة النص المنتج بلغته وأسلوبه.

وإذا كان (التوافق) بين طرفي معادلة الحوار يولد غالباً قبولاً واستحساناً وسكوناً، والذي ربما يمثل اعترافاً أو اعتقاداً بتحقق أو إنجاز الهدف الذي حددته خطة مسار العملية الإبداعية، فإنه على النقيض من ذلك يأتي (الاختلاف) مثيراً لقضايا تبعث في المنتوج الإبداعي روح الاستمرارية والتواصل والحركة المتجددة والفاعلة من خلال إطلاقها مجموعة من التساؤلات ذات العلاقة بموضوع المنتوج، وسعيها المضنى في البحث والتوصل لإجابات مرضية ومقنعة لها.

ولا شك أنه من اشتراطات تفعيل ثقافة الاختلاف والحوار في أي مجتمع هو وجود بيئة متكاملة للتنشئة التربوية والتعليمية، وفضاء عملي يتيح فرص التعبير والتعبير العكسي أو المضاد، ويفسح المجال لحرية إطلاق الرأي والرأي الآخر، وذلك لبعث ديناميكية فاعلة في أركان الفكر والأدب ونمو وازدهار بنى المجتمع كافة. فتربية النشء التي تعتمد في أساسها على الأسرة ومناخ البيت العائلي هي من يزرع بذور الحوار الأولى في سلوك الطفل ويرسخها في تصرفات كل المراحل العمرية التالية، ليأتي بعدها دور المؤسسات التعليمية الوطنية في تنمية ورعاية وتأهيل هذه البذور بالمهارات الفنية المختلفة، وصقلها بالعلوم والآداب والتجارب والخبرات السابقة والأفكار النيرة، وإطلاقها في أجواء تنافسية ترتقي بالفرد والمجتمع على حد سواء، ثم يأتي دور دوائر المجتمع بجميع أطيافها لدعم التطبيق العملي لهذه الرؤى والأفكار، وترسيخ الإيمان بأن طرحها لا ينقص من مكانة الفرد أو المجتمع بين الأمم الأخرى، بل بالعكس فهو يزيدها تفاعلا وحصانة ورقياً وتقدماً واحتراماً في الداخل والخارج.

إن الثقافة لا تزدهر إلا بالحوار الذي يستمد فاعليته من حرية الجهر بالرأي والرأي الأخر، ولا يتعزز إلا باحترام حق الاختلاف وفق المباديء والأصول المهنية والمعايير والتوابث الأخلاقية والدينية. فمن الناحية الدينية يتأسس الدين الإسلامي على منطق الحوار المستنير مع الآخر منطلقاُ من نداءاته ودعواته المتكررة (تعالوا)، (أدعو)، (هاتوا) غايته تفعيل محرك العقل الإنساني، واستخدام موازين المنطق الفطري للبحث في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وترتيب الحياة الفردية، وسن التعاملات الاجتماعية، وفق الإطار والمنهج الإسلامي الشمولي العام. إن الإسلام يؤكد ويعترف بأن الأمم تطرح ثقافاتها المتعددة بمفاهيمها ومصطلحاتها الخاصة، ومن خلال التحاور معها يتعزز تواجده في أدبيات وثقافات تلك الأمم عبر علاقات مد جسور الحوار حول مفاهيم الكون والحياة والموت من المنظور وبالمضمون الإسلامي ومرجعيته وتوابثه العقائدية التي يتمسك بها وتحددها النصوص الربانية والتعاليم النبوية.

أما الناحية الفكرية فلابد أن تتركز على معرفة مفاهيم الحوار وإشكالياته وأغراضه حتى يتسنى الإقرار بأهميته وضرورة اعتماده لبنة أساسية في سلوك الفرد وسياسة المجتمع معاً. فالحوار لابد أن يقوم على قوة أدلته وبراهينه وحججه، وصدق ونبل غاياته ومراميه التي تعبر عنها كل التساؤلات المشروعة التي يطلقها بعلانية، وسعيه الحثيث في البحث عن إجابات لها، ولو نسبية، وأحياناً يجهر معترفاً بعجز أو قصور الخطاب الثقافي حين يفتقد القدرة على تلبية حاجات ورغبات المتلقي وإجابة تساؤلاته المشروعة التي يطرحها.

إن أهم مقومات الحوار هو أن يؤمن (الجميع) بضرورته، وبحتمية (الاختلاف) في كل شيء، بداية من فرضيات ومكونات الواقع القائم، إلى مشروعية أحلام المستقبل الواعد، ثم الحق في اختيار النهج أو الطرق المشروعة، على تعددها، كوسيلة لنقد الواقع وترميمه وتصحيحه، أو تجاوزه وتغييره لتحقيق تطلعات أفضل. كما يجب أن يدرك (الجميع) بأن الحوار هو الأب الروحي والأساسي لفتح كل أبواب المبادرات المبدعة والخلاقة اللازمة لتطور منظومة المجتمع ومواكبته عالم الآخرين الذين يتقدمون عليه في مسيرة الحياة.

إن غياب الحوار القادر على إفراز أصوات عديدة ومتنوعة في معزوفة السيمفونية الطبيعية للحياة، وسيادة آحادية النمط واللون والنغم والصوت الواحد وهيمنته في تلك المعزوفة عوضاً عن ذلك، يفقد المجتمع تنوعه الطبيعي ليصبح الاستبداد هو العنوان الدائم لمكوناته، والصورة القاتمة لكل أوجهه، بداية من استبداد الأب حين ينعت أولاده الذين يختلفون معه في الرأي بأنهم (قليلي التربية)، واستبداد مدرس الفصل حين يظهر الحزم والقسوة والغلظة مع تلاميذه الذين يكثرون مناقشته والتحاور معه، فيصنفهم على أنهم (مشاغبين)، إلى استبداد المسؤول الإداري حين يتشبت رافضاً كل مشروع تطويري يتأسس على حوار حداثي تنويري، يفوق قدراته التقليدية المتواضعة، ومستوى إمكانياته الفكرية المحدودة غير القادرة على استيعابه نتيجة تقوقعه في أفكاره القديمة البالية، الموصدة لكل أبواب الحوار والنقاش الجاد.

أما غياب ثقافة الحوار والاختلاف عن حياتنا الأدبية بشكل محدد، فيجب النظر إليه كنتيجة تراكمية لجملة من الأسباب التربوية والاجتماعية، التي أدت للأسف إلى إفراز سلبيات خطيرة، من بينها انعدام تأثير المثقف في محيطه الاجتماعي، وبذلك صارت الثقافة في واد ومسيرة المجتمع في طريق بعيد جداً عن منارات القناديل الثقافية التي تشع الأنوار، وتضيء الدروب، وتنير العقول، وتتولى قيادة الجموع، وقد انعكس هذا الأثر بصورة كارثية ظاهرة في جل شؤون المجتمع ووصم تفكير وسلوكيات معظم أفراده بالعصبية وعدم القدرة على تحمل الرأي المخالف الآخر أو حتى قبول منطق التحاور معه ومناقشته لتصحيحه أو تفنيده.

وما يجب البحث فيه في هذا الجانب، هو التناقض الذي يظهر بجلاء في شخص المثقف الذي يفترض أن موقعه الثقافي يؤهله لأن يكون معتنقاً ومؤمناً بمباديء الحوار وحق الاختلاف في كل ممارساته، وإبراز هذا السلوك والاعتزاز به، سواء عند تناول زملائه لإبداعاته المختلفة وتوجيه النقد الموضوعي لما ينتجه من أعمال، أو مشاركاته هو شخصياً في دراسة ونقد أعمال المبدعين الآخرين، فللأسف نجد أن المثقف في مجتمعنا لا يكون غالباً راضياً عن مستوى لغة التحاور والتعاطي مع أعماله وإبداعاته، ولا يحتمل النقود التي تتعرض لها مهما كانت موضوعية وحيادية وصادقة فنياً، بل يظل يراها ويعتبرها نعوتاً تمسه شخصياً، وتقلل من قيمته الإنسانية، فتتحول نظرته النقدية إلى مشاعر غرضية شخصية معاكسة، أكثر منها فنية موضوعية تجاه النص الإبداعي. أليست هذه إحدى نتائج غياب ثقافة الحوار عن حياتنا الأدبية؟

والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تتم معالجة هذا الخلل في مجتمعنا؟

البداية يجب أن تنطلق من رفع درجة الوعي لدى الأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية في مسألة التربية، ثم إعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات، واعتماد نظريات التعليم الحديثة التي تتأسس على أسلوب التفكير والحوار والنقد الجماعي تحت مظلة عمل الفريق ((Team Work، الذي يحفز المشارك على اطلاق افكاره ومبادراته، وعدم الركون إلى الإصغاء المطبق والاكتفاء بدور المتلقي السلبي.

أما برمجة تنظيم وتفعيل المناشط الثقافية المتعددة التي تتيح الفرصة لإبراز دور المثقف وإسهاماته فهو الأسلوب الذي يذيب الجليد المتراكم في الوسط الثقافي، ويفتح أبوابه لاستنشاق نسائمه بحرية، وإثر ذلك سيصبح الوسط قادراً على خلق وإطلاق المبادرات والمناشط المتعددة من ندوات، ومؤتمرات، ولقاءات فكرية ونقدية، وأمسيات وقراءات شعرية وقصصية، ومعارض فنية، ومسرحيات، ومسابقات وغيرها. وهذا هو الفضاء العملي الذي يولد وينمو فيه الحوار، وتنقيح الأراء والأفكار وتبادلها مع جميع أطياف المجتمع الذي لابد بدوره أن يكفل حرية التعبير لجميع أفراده بالتساوي ويحدد سقفها، مع توفير مناخات آمنة لإعلان الرأي والرأي الآخر بما يتماشى مع سياسات وأدبيات وتطلعات المجتمع.

27.01.2011

مقالات ذات علاقة

مجتمع أصحاب الكلاب اللطيفة

المشرف العام

بناء الدول يحتاج الى رجال دولة

خالد الجربوعي

الميكيافيللي والأمير

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق