لم أعرف بوجوده، ولم اقرأ له بيتا… إلا حين جاء مكتبنا في الظهرة.. صاحب البشرة السمراء والشعر الأسود الفاحم والابتسامة العريضة.
اشار والدي اليه بيده قائلا:
– هذا عمك لطفي عبد اللطيف… وكفى!
كان عليّ أن اتعرف عليه لوحدي..محطة انتظاره حتى يدخل مكتب والدي كان مكتبي… يجلس يدردش معي، فأكتشفت شاعريته.. إنه الشاعر.. ملء العين والبصر، يجلس أمامي بتواضع الشعراء…
كان خطه غير خط الآخرين.. “عشت في تونس فترة صباي وشبابي… والخط هو من أثره”.
من أصول مصراتية، والده شيخ يعلم القرآن وجده لأمه أستاذ في جامعة الزيتونة.. تتلمذ عليهما وتعلم القرآن والفقه وأصول اللغة العربية.. اقتفى عمي لطفي خطوات والده في البداية ودرّس القرآن الكريم واللغة العربية متنقلا من قرية إلى أخرى حتى وصل واحة الجغبوب وهناك اقترن بزهرة من الواحة وانجب منها إيمان وخالد.. عمل بدائرة أملاك مصراتة ثم انتقل للعمل في الإذاعة التي أحبها وتفنن في إعداد برامجها..
لكن السندباد سرعان ماعاود ترحاله، عمل لفترة طويلة في السلك الدبلوماسي وأسس المركز الثقافي الليبي بتونس اوائل السبعينيات واقترن بزوجة أخرى من تونس وانجب منها بنات اربعة.. يتقن الفرنسية قراءة وكتابة، لكن اتقانه للعربية يجعله يجلس على عرشها دون منازع.. ” اثنان يا ابنتي لا يبزهما أحد في اللغة العربية.. عمك لطفي عبد اللطيف، وعمك عبد الصمد دعدوش” كان ابي رحمه الله يعترف لي بذلك..
تنافس لطفي عبد اللطيف ووالدي رحمهما الله في ماراثون إبداعي بين في فترة التسعينيات. كان والدي يكتب القصة تلو الاخرى، وعبد اللطيف القصيدة تلو الاخرى… يتنافسان في الابداع وما أجمل ذلك.. كنت شاهدة، أرى عملاقين في القصة والشعر يتبارزان بأخلاق وبهاء ومحبة بذات الادوات .. الكلم!
يأتي عبد اللطيف وفي يده وريقات “اي فور” بيضاء منقوشة عليها ابيات شعره بخطه المميز، يقرأه بصوت جهوري على والدي..
قراءات في كف سندبادة…
” لعلي أخر من سوف يقرأ كفك هذا
وشعرك ذاك
وآخر من سوف يهمس للقرط في أذنيك:
تنح قليلا،
لكي لا تشارك في الانتهاك
وأهمس من بعد ذلك سر اهتمامي
وسر التأخر في الاشتباك”
وفي مقطع آخر يصدح وهو ممسك بأوراقه المنقوشة بحبره الأزرق الخافت…
” ترى هل يكتفي ليل بقمر واحد يأفل
وليلات بلا أقمار…
ألا يا أيها النطق الذي
لم يعرف الأفواه جاوبني
فقلبي كله أوتار
حديث كلها الأصوات
والصمت انتباه يرقب الأسرار”
ثم يبدأ والدي في قراءة قصة ياسماء صبي الماء…
أستاذ كامل… غير العنوان ” ياسمي صبي المي” … استجاب والدي لإقتراح صديقه وغيّر العنوان…
روح التنافس الجميلة خلقت اجمل قصائد لطفي عبد اللطيف، واعذب قصص كامل المقهور…
يدخنان معا بشراهة، ويحضران معا الامسيات الشعرية والمنتديات الثقافية. سافر مع أبي إلى مصراتة عن طريق البر عديد المرات واكتشفا معا شعراء وكتاب وتشكيليين فكان الدنقلي والرقيعي شاعرا المحكي وكان كاتب القصة القصيرة، كاتب السيناريو.. يكتشفونهم، ويناقشونهم ويشجعونهم ويسدون لهم النصح ويحتضنونهم كأبنائهم.
كتب عنه والدي في كتابه ” نصوص” تحت عنوان “لطفي عبد اللطيف.. الشاعر”
” يصدر لطفي عبد اللطيف شعره من انتمائه إلى تراث حضاري عريق، من جهة، ونوازع دينية تقربه أكثر فأكثر من الصوفيين، من جهة أخرى…… وبقدر ما تأخذه الرغبة في التجديد، تشده ثقافته التراثية، إلى عدم التردي في الخروج عن القواعد التي حافظت على عراقتها، وتماسكها، والتي زادها الإسلام رسوخا، وبهجة، واستقرت في الأعماق بصدق، فحافظت بالتالي عن ثقافتنا وهويتنا”.
كان لطفي عبد اللطيف يداوم الجلوس في فندق الصفوة، شاعر وسط مريديه، يملك ثمن السيجارة وفنجان القهوة لكنه لم يملك بيتا لا في طرابلس ولا في مصراته… يملك ناصية اللغة ودفق الكلمات وعنفوان الشعراء وجمع من مجايليه ومتابعيه.. لكنه بلا اهل… تفرق الجمع ببعد المسافات مابين الشرق والغرب، بينما اختار السندباد طرابلس ليغرس فيها أزهار شعره ويتزوج للمرة الثالثة من كميلة بريدان الصحفية النشطة التي احتوت الزمن الفاصل بينهما كما مدت اليه بجذعها ليتكأ عليه ويستريح…
كتب عبد اللطيف برامج اذاعية مسموعة، لكنه ايضا ارتجل بعضها بلهجة ليبية محببة وشكل مع الاذاعية ثريا محمد ثنائيا اذاعيا متميزا.. ارتبط بوشائج صداقة مع عائلة حقيق العائلة الفنية التي ساهمت مساهمة فعالة في اثراء الحياة الثقافية في ليبيا وكان قريبا من الهادي حقيق ولا عجب في ذلك فقد جمعهما التراث والامثال الشعبية والفن… كان عبد اللطيف عازفا على العود، يأخذ بعود والدي، يزيح الغلاف الذي يتدثر به، يضبط أوتاره، ثم يحرك اصابعه ويدندن وهو يحتضنه، بينما والدي مشغول بين اوراقه ومذكراته وكتبه.
حين رحل والدي رثاه لطفي عبد اللطيف بشعر القاه في ذكرى تأبينه برابطة الكتاب والادباء وهو يجهش بالبكاء
يقول… تحت عنوان “محطاتك الثكلى”:
من بين قبرين المرافي والمدن
في الشرق أو في الغرب
أو من حيث ما …
كانت طرابلسُ الوطنْ.
تستقبلُ الشاطيء، ولم تبحرْ
-سوى فينا-
فهل نحنُ السفنُ؟
نشتاقها، نَـنْـأى، نناجيها
تَحِنْ …
ما أقدرَ البُعُد الذي يلغي مسافاتٍ
ويُنْسيكَ الزمنْ!
أمساً، غداً، حيناً من الدهر اطمأنّ
من بين فصلين، الشتا والصيفُ
ريحانٌ، أغاريدٌ وأعشاشٌ
وسلوانٌ، وَمَنّ
في القصة الأولى
طرابلسُ الكِسا كانت …
وفي الأخرى طرابلسُ الكفنْ
ثكلى محطاتٌ
ومكتوبٌ على الحلمِ الحَزَنْ
مازلت أستحضر طلته عليّ في مكتبي قبل ان يدلف إلى مكتب والدي ويستريح على الكرسي الجلد البني.. ارى ابتسامته غير المكتملة.. حذاؤه الابيض..قميصه يسترخي فوق بنطاله، سيارته البيجو البيضاء وهي تتكأ على رصيف الشارع المتفرع من شارع خالد بن الوليد في الظهرة..
كانت أول وآخر زيارتي له قبل ايام من رحيله عن هذه الدنيا، في بيت لا يملكه.. كانت كميلة زوجته تسهر على راحته.. حكينا وضحكنا وذرفنا بعضا من الدموع.. ودعته على أمل لقاء قريب.. لم يحن.. رحل السندباد لكن هذه المرة إلى الأبد.
عزة كامل المقهور
17. 10. 2014