حيدر عبدالرحيم الشويلي
(شعت عيناه بلهيب الحب،فقال:
أتيتني كشلال دافئ،بملابس بيضاء،
بيدك رغيف خبز أسمر،أعطيتني إياه،
قلت بعدما ابتسمت بدلال:
(لم أرتو منك بعد)
«علي السباعي – إيقاعات الزمن الراقص»
منذُ القراءةُ الأولى لــ:- قافلة العطش* المجموعة الأنيقة التي سحرتني الصورة الفنية واللقطات الابداعية الكثيفة، لأنها لا تدع حيزاً للقارئ كي يلتقط أنفاسه، لاعتمادها لغة شعرية وإيقاعية في آن، كما تعتمد التقطيع البارع إلى مشاهدٍ متلاحقة، وتتمتعُ القاصة سناء كامل الشعلان بقدرة على تتبع أدق خلجات النفس البشرية.
وترتكز الكتابة القصصية او السردية الناجحة اللافتة للأنظار على ثلاث محاور أساسية يمنحها فيض الإبداع ، يتمثل أولها في أنتصاف الخبرات الجمالية والغرائبية بحياة الآخرين وتحويلها إلى تجربة ذاتية كأنها وقعت للقاصة نفسها، وثانيها كفاءة تغطية هذه الوقائع بفضاء واسع من التخّيل الرائق الذي يحيلها وهي مشاكلة للحياة إلى نمط متفرد لم يعهده منها من قبل وذلك عبر توظيف تقنيات السرد وآلياته الساحرة وتحريك الشخوص بتوزيع الأدوار لضبط الإيقاع الموسيقي للنص ، ثالثها أننا لانرى كل ذلك الإ عبر المنظومة الكرستالية للغة التي يتعين عليها أن تكون شفيفة وثمينة مصفاة في نفس الوقت، سردياً وتعبيرياً بإنخطافة واحدة للقاصة.
سناء الشعلان تتراوح في منجزها بشكل عام بين هذه الأقطاب الثلاثة فتتكثف لغتها القصصية بأكثر مما يطيق السرد عادة وترتقي فضاءاتها التخيلية أحياناً بما لا يقوى على مقاومة ريح الواقع ، وتقيم الشيء في ومع وبجنسه، هكذا تقيم القصة في ومع وبالسرد، والانسان يقيم في اللغة ومعها وبها، والعاشق مع معشوقة وبه وفيه، انه العشق ، حلم المريدين العاشقين الذي وقفوا حياتهم من اجل تلك اللحظة في قافلة العطش – لحظة النور، البهي والابدي ، فهل لحظة الكشف عن الحقيقة بمعناها السردي، هي ذاتها لحظة الكشف عن قصة، فالتحقيق الصحفي موجود سلفاً، انها هناك، في اللوح المحفوظ للقصة القصيرة ولاتتنزل على صاحبها الإ على مراحل امينة لاستحقاقاته تلك، ونتيجة لجهد ورحلة شاقة ذاتية تقوم بها القاصة من أجل استمالة المعشوق/السرد للتفرد به، اذن الرحلة هي نفس الرحلة: إيروس الحب، عاشقُ ومعشوق ورحلة تبدأ إلى الصحراء العربية ٍ((ارتحلت على جمل أورق مع جماعةٍ من الطّوارق صوب قوم شاليفة، كان الطالب رجب هو مقصدها، وفي طريق مقصدها لم تنسى أن تستمتع بحُداء رجال الطّوارق الذّين يتغنون بصحرائهم ، كانت أعينهم السّفير الوحيد بينهم وبين نسائهم الممشوقات القوام، السّمر البشرة ، الجميلات العيون، عرفت كلّ واحد منهم من عينيه؛ إذ إنّ أحدهم لايميط لثامه أبداً، في حين تسفر عن وجوههنّ المشرّبة بحُمرة شمس الواحات)).«ص64»مستعينين بصبر لايلين وقوة على تحمل ما لا يتحمله غيرهم من البشر في هذه الصحراء الشاسعة ، فإن عجينا خاصاً صنع منه هذا الشعب وسراً كبيراً يخفيه الطّوارق خلف لثام لايفارق الرجل منهم طيلة حياته ، عشق الصحراء غير محدود وترحال دائم وقوافل العطشى مستمرة ، حتى وان حلوا بالمدن فإنهم لايلبثوا أن يتركوها مولين بوجوههم شطر الصحراء الواسعة(ماأجملالظمأ في بحيرة العشق)«ص12»فتكون نهايتها تترنم على انشودة الانتصار للعشق.(كان مسموحاً للقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن ارادت ، لكن الويل لمن يرتوي في سِفر العطش الأكبر)«ص14»قالالفراء: العشقنبتلزج،وسُمّىالعشقالذييكونفيالإنسانلِلصُوقهِبالقلب.
ولو لاحظنا في المجموعة الموسومة «قافلة العطش» أن الخطاب السردي يحتفي بالشخوص والأبطال، سواء كانوا رجالاً ان نساء يكرهون فضاء الصحراء، ذات المناخ المتلون لأنه فضاء قاس جداً يخنق تطلعاتهم ورغباتهم المتأججة، ففي القصة العاشرة «تحقيق صحفي» تعبّر بطلة القصة عن كراهيتها الشديدة لهذا الفضاء قائلة:- (هي تكره الصحراء ، لأنها تشبه قسوة حياتها ، أنّها مضطرة إلى أن تتجشم رحلة طويلة في صحراء لاتعرف نهاية ، وتبتلع الآهات والرغبات)«ص62» والعطش عطش الجسد الإنثوي والذكري للحب والمدخل الاهم لممارسة الجنس، ممارسة هذا الجسد تعني الممارسة الطبيعية ومايتبعها من حقوق وعلى رأسها الجنس من خلال العلاقة الحياتية الجنس، والحب ،ولو دققنا جيداً نرى أن المبدعة الشعلان دخلت عالم الدفاع عن المرأة، حقها المطلق في ممارسة نفسها وجميع الحقوق والواجبات ،فإنْ لم تتوفر هذه الحرية في المدن والامصار البعيدة سعت إليها جاهدة في عالم الصحراء الإفريقية.
فوجدت ضالتها في افريقيا، في جنوب النيجر إلى أرض تيغمار، هناك حيث لمتصل المدنية وبقيت الحياة خامة طبيعية، تجد المرأة حريتها الكاملة في الجنس وإختيار الزوج وتطليقه إنْ أحبت سواه حتى لوكان أحدأفراد قبيلتها وقبيلة زوجها (الطوارق). فنجد مبدعتنا سناء الشعلان بإعتبارها صاحبة صوت القاص والضمير المتكلم وصاحبة التجارب الاستكشافية والسياحية في انحاء العالم، تتمنى لو كانت واحدة من نساء الطوارق، واحدة من نساء قبيلة الطالب رجب الرجل لطيب صاحب القلب الكبير،أنهّا تتوق لتلك الحياة البسيطة الخالية من الملوثات الاجتماعية المتمدنة المفعمة بالحب والصدق على فطرتهم، فطرتهم البيضاء المكشوفة بلا خطوطولا قيود.
إن تعامل القاصة مع الأمكنة، والاهتمام بالطّوارق ليس تعاملاً خارجياً سطحياً كما فعل كثير من المبدعين شرقا وغرباً، وإنما هو تعامل مَسَ شغاف القلب،ومازج أعماق المشاعر وأدقها، وحَرَكَ خلجات النفس وأرقها؛ يبدو ذلك من خلال العنوان الذي اختارته لهذه المجموعة (قافلة العطش)؛ فهناك عشق، وهناك ظمأ، وحين يكون العشق قويا يكون الظمأ أقوى، وحين يكون العشق دائماً يكون الظمأ أدوم، ومن ثم استمرارية الارتباط بالمعشوق، واستمرارية الحاجة إلى الإرواء، وحين يكون تحقيق غاية الإرواء أمرا غير ممكن، فإن الظمأ، أو العطش، سيستمر، وتظل – من ثم – المشاعر متأججة والأعماق تغلي بحب سرمدي، والقاصة وهي تستحضر هذا التاريخ، أو لنقُل: هذا الجزء من تاريخ الطوارق، لا يفصله أبداً عن ذاته، ولعل هذا هو السبب في هذه الحرارة الوجدانية المفرطة التي ظلت ملازمة لكل كلمة من كلمات النصوص القصصية الستة عشر التي تتألف منها هذه القصة الرائعة، متلبسة ذلك الصدق الذي لا يخطئه حس القارئ المتأني،و الباحث أو الناقد الذي غايته استجلاء الوقائع، وتلمس الحقائق كما هي؛ فإن هذه القصة تمثل عندي تطوراً مسترعياً للنظر ؛فالكلمات غاية في الرقة والشفافية والوضوح مستوية أكمل ما يكون الاستواء، مقدودة كأنها حبات عقد منظوم، موقعة توقيعاً رائقاً تتناغم فيها الحروف تناغمًا يضفي عليها من ألوان الموسيقى السردية مايجعلها محببة لدى القارئ المتذوق، الباحث عن جمال الكلمة وعذوبتها وسحرها وانسجامها، إن العطش ليتسرب إلى الذات ويسكنها فتتقمصه ليستعر لهيب العشق الحارق، ويحلُجنوناً علىالعاقل ليستلهم حياة الطوارق، ويحكي عن تجربة العشق والشوق في أوج حضارة متغلغلة في مسارب الذات، وانتصار وجودها في خضم اكتساح الآخرالطارقي.ومن خلال هذه الأسطورة الواقعية الأحداث، أعترف أنني بقدر ما تلذذت بمقاطعه، تعذبت في سبر أغواره، ويجد الدارس نفسه،وأجدني محتاراً وهو يختار النصوص التي يريد أن يغمس فيها براعته، فكل نص، بل كل سطر، يعتبر تحفة فنية تستحق الوقوف لتأمل صورها والسفر في فنها الجميل الساحر.
___________________________________________________________________
*قافلة العطش: مجموعة قصصية صادرة للقاصة الأردنية د. سناء الشعلان.