بوابة الوسط
يعيش التشكيلي الليبي المقيم في أستراليا محمد أبوميس في خضم حالة تلاقح قاري حدثت منذ أزمان سحيقة، قبل أن تنفصل القارات عن بعض في الانفجار الكوني العظيم، تجلى في فن الصحراء، وبالتحديد الصخري منه، كائنات خرافية أسطورية، كائنات حقيقية لم تنقرض بسبب الزمن وتقلباته، لكن حدث لها تغيرٌ في الهيئة والحجم فقط، عربات، أدوات تحتاجها المعيشة اليومية، حياة برمتها منذ تكوُّن الوجود وإلى الآن نراها منقوشة على الصخر، متحدية عوامل التعرية، لا تزول، من نقشها فنان حقيقي أراد من خلالها التعبير عن خلوده، هذا هو الفن.. محاولة جادة للخلود.. محاولة للهرب من العدم.
لكن الهرب هيهات، من أمام عالم جديد له امتدادات في عالمه الليبي القديم، خاصة الصحراء منه، فمثلما عايش الودان والغزال والجمل والثعابين والسحالي والذئاب في ليبيا وعبَّر عنها في لوحاته شكلًا ومعنى، ها هو يكتشف حيوانًا جديدًا (الكنغر)، له خصوصيات فريدة، خاصة الجراب الطبيعي الذي يضع فيه الكنغر صغيره ويركض به. هذا الجراب بمثابة الوطن الذي يولد معه، والذي يساعده على التمرد ومواجهة ظروف الطبيعة، إلى أن يكبر.
محمد أبوميس، تشكيلي ليبي، يدرس الفن في أستراليا منذ سنوات، وقبلها في عواصم أوروبية وأميركية أخرى، يشارك بكثافة وجدية في الحراك التشكيلي العالمي، آخرها البينالي السنوي لمدينة مولبورن، والمقام في البيت أو القصر التاريخي لبلدية (ديربن)…بمشاركة 135 فنانًا من مختلف جنسيات العالم، وقد تم اختيار لوحته (talk to the local تحدث إلى المحليين – لوحة الكنغر) لتتصدر الباحة الأهم في المكان. وحاليًا يعد لمعرض كبير للوحاته سيستضيفه الغاليري الخاص بالمتحف الإسلامي، حيث اشترطت اللجنة المنظمة أن يكون العمل متكاملاً فنيًّا وأن يحمل شيئًا من الهوية الأسترالية، التي شعر بها الفنان أنها ليبية أيضًا من خلال تلاقح القارات القديم والبيئة المشتركة بين أفريقيا وأستراليا، الصحراء مثلاً.
حول اهتمامه بالهوية ومنح اللوحة اسمًا يوحي بأن ثمة خطأ تاريخيًّا اُرتُكب في حق السكان الحقيقيين يقول أبوميس: «لوحتي الكنغر بعنوان التحدث إلى المحليين أو حوار مع المحليين. أردت من خلالها إرسال نوع من التلميح أو الإسقاط السياسي المعبِّر عن نزعة الأستراليين البيض وعبر التاريخ في تهميش المحليين».
سألت أبوميس برأيك.. كيف هو الوطن ومَا الوطن ومَن الذي يؤويه الوطن داخل الكيس ومَن يركض بالآخر في هذا الزمان؟ «الكنغر وطن في وطن يموت ويولد من جديد ووطنه فيه، وبيته وخيمته وشقته أمامه».
ويضيف: «مفهوم البيت والوطن ومفهوم الإحساس بالمكان والزمن، كل هذا بالنسبة لي ساهم في تحريك مفهوم الانتماء بمفهومه المعاصر.. ولعب الاغتراب بمفهومه المعقد الدور الرئيسي في تأسيس الأطر الفنية والفكرية وكذلك الفلسفية والتنظيرية التي ومن خلالها قد يسودني الاعتقاد بأن نوعًا من النضج أخذ يُصيغ هويتي وبطاقتي الفنية، وبالتالي الاقتراب من هويتي الإنسانية وليست المكانية الفطرية.. باختصار هي نقلة لاكتساب وتأسيس هوية لا تقيدها أي حدود جغرافية».
وقال: «أنتمى إلى كل الأمكنة، وكل الأمكنة هي أنا.. مرسمي هو وطني، ووطني هو مرسمي.. هنا وهناك، هناك وهنا»، متابعًا: «وطني الفني الجديد هو أستراليا، التجربة الأسترالية أضافت لي الكثير؛ سحر المكان – طبقات التاريخ القديم والمعاصر – التنوع في تركيبة المجتمع الأسترالي – فنون (الأبوروجنينل أو الأندجنوس) السكان الأصليون – فن الأستراليين البيض – تاريخ الهجرات كل ذلك كان له أثرٌ كبيرٌ على تجربتي وهويتي الفنية الراهنة».
وحول هل ثمة صراعٌ ليس بالضرورة سياسيًّا ولو مبطنًّا بين الأستراليين البيض والسكان المحليين يقول أبوميس: «نعم يوجد صراعٌ ولكنه خفي، القصة تاريخيا ارتبطت بمفهوم الهوية والانتماء.. أخبرني العديد من الأصدقاء الذين سبقوني إلى هذا البلد من سنوات طويلة بشدة حساسية هذا الموضوع، إلا في حالة واحدة عندما يريد الأسترالي الأبيض استحضار تاريخ بلده ولأن البلد وليدٌ وجديدٌ لا مجال له إلا أن يكون على استعداد لاحتضان نشاطات وثقافات السكان الأصليين».
* حسنًا.. من خلال معايشتك لهم.. هل يعتبر المحليون الأستراليون محتلين أم أن هناك اندماجًا وتعايشًا؟
– نعم هو احتلال: يقال إنه تمت إبادة عشرين مليونًا، وكذلك هي الفضيحة التاريخية بما يُعرف بـ«الجيل المسروق». بالرغم من كل هذا التطور والتحضر، فإنهم يفضِّلون العيش على حدود وهوامش هذه النقلة، حتى أنه بالكاد تقابل أحدًا منهم على مدى فترة زمنية طويلة ومن هنا جاءت فكرة اللوحة وعنونتها بالتحدث للمحليين. الأصليون يعشون بعيدًا عن المدن الكبرى يفضلون الصحاري ومن وُجد للعيش في المدن الكبرى (مدن البيض) تجده وقد أدمن على الكحوليات – يبتسم أبوميس – ويضيف: «الاندماج فقط في عملية النكاح غير المشروع (بعيدًا عن مفهوم الأسرة والحياة الزوجية)، هذا التناسل يُنتِج في العادة منحرفين ومتمردين عادة تكون الصبغة الجينية الأصلية أقوى من نظيرتها البيضاء الوافدة. الأصل أقوى خصوبة من الصورة».
وأوضح بالقول: «معروف أن الفنان دائمًا يحن إلى الأصل، إلى المادة الخام التي خلقت منها الدهشة، ومن هنا نادرًا ما نجد فنانًا حقيقيًّا متعاطفًا مع المستعمرين، الفن يدافع عن الضعفاء عن المهمشين عن الهشاشة التي لم يخترها صاحبها وفُرضت عليه بطريقة أو بأخرى».
في حديثنا عن الفن التشكيلي الليبي وموقعه عربيًّا وعالميًّا قال بوميس: «للأسف لا وجود له كصورة شاملة أو بالأحرى كمدرسة فنية ليبية، ربما هناك محاولات فردية جادة لو تقاربت من بعضها ستكون كفيلة لترسيم ملامح ودلالات لمدرستنا التشكيلية على غرار المدرسة التونسية والمغربية».
وعن دراسته وهل ثمة خيانة للفن من أجل الدراسة وتنفيذ ما يطلبه من معايير موضوعية لغرض النجاح أو الوفاء له من خلال إطلاق العنان للخيال بكل حرية متمردًا على أية ضوابط أو أحكام مسبقة، قال: «في الحالة الأولى أشعر وكأنني وُضعت في صندوق…(نعم هي الضوابط)، إلا أنني نجحت في إقناع المشرفين الخاصين بي بعد عمليات تهجين فنية جعلت من الثقة بيننا تأخذ مراحل متقدمة مما نتج عنها كسب بعض المساحة والبراح للتوسع من حدود ذلك الصندوق، أما في الحالة الثانية فالرسم كذلك لا ينفصل عن عملية البحث، الفرق هو أنك المشرف على نفسك عندها فقط تتسع حدود التجربة والمتعة».
وبتأمل معظم لوحاته نراها وكأنها بحر من الزيت مضطرم يحول الملامح إلى تموجات مضيئة، نظرة واحدة لا تكفي لتلم بالعمل، عليك أن تسبح صحبة بصرك وقلبك وروحك في لجة الزيت الملونة، التي غالبًا ما تكون لونًا واحدًا وتدرجاته ارتفاعًا وانخفاضًا، شرقًا وغربًا، وعمقًا وكأنك سترى في بؤرة الدوامة ثقبًا يفضي إلى سر العالم.. لماذا الزيت؟
أعاد الفرشاة إلى إناء فخاري مملوء بسائل ما وقال: أحب وأحسن التعامل مع كل الخامات (زيت وأكريلك ومائي وحبر)، لوحاتي هي مزيجٌ من كل ذلك، لكن معظم الشغل بالزيت لأنى أعتبره الجنس السامي من بين كل تلك الخامات الفنية، الحس الناتج عن مزيجه فوق سطح اللوحة ربما يقترن بعملية ممارسة الجنس مباشرة دون أي موانع، بالإضافة إلى أنه مُعمر ولا يتأثر بالعوامل الطبيعية بسهولة. إنه لون الخلود.
أبوميس في سطور:
محمد أبوميس أصيل مدينة طرابلس (سوق الجمعة- شط الهنشير) مواليد (1970)، أخذه الترحال من خلال الدراسة عبر محطات متنوعة منها (أنجلترا وأميركا وأخيرًا أستراليا).
– بكالوريوس فنون جميلة (1994) – كلية الفنون، طرابلس.
– ماجستير فنون (2004) – جامعة مانشستر متروبوليتن- إنجلترا.
– دكتوراه فلسفة فنون (2014) – جامعة مالببرون الملكية (RMIT)- أستراليا.
له العديد من المعارض المحلية والخارجية.. محليًّا وخارجيًّا.