بوابة الوسط
”لازلنا نستعبد الطفل وندعي حريته“.. ”نحن لا نعرف كيف نربي ولا نعرف كيف نعلم“.. ”العلم يصنع ولا يعرب، هذا تزوير“.. ”جميعنا نعيش الجنس (في الظلام)، ظلام العقل قبل الجسد“.. ”هل باستطاعتنا قياس عقل الطفل بالمسطرة لنعرف نضجه من عدمه؟“
أمام جدران مكتبته ستقف، متأملًا رسومًا لقصة (بو خضير والأسد)، و(الغراب والعصافير) وغيرها من عوالم غابته السحرية وفضاءات الطفل وهو يعلن عن حضوره، برغم الأرفف الخالية، وكأنما هي امتداد لروح الكاتب الذي ظل مسكونًا بالقراءة والكتابة ومتشابكًا مع الأسئلة داخل وخارج قاموسه الطفلي، حتى وهو يتجاوز عقده الثامن، ولربما نجد ما يترجم هذا الشغف، في طلبه ذات صباح من الفتى بائع النظارات قائلًا: (اصلح لي العدسة يا بني، فأنا رجل ولدته أمه أمام كتاب)…
■ … ولكن أين وصلت رحلته مع أسئلته الطفلية، وكيف يرى مستقبل الطفولة من خلالها؟ قبل الإجابة، الكاتب والأديب يوسف الشريف، يقدم نفسه في حواري معه على النحو التالي:
– الطفولة هي الوجه الأخر والاسم الحقيقي ليوسف الشريف، وكما وصفني أحد الكتاب العرب الذي التقاني في زيارة له إلى ليبيا، بأني طفل كبير، ثم كرر الوصف كاتب عربي آخر بعد قراءته لنصوصي وتعرفه على أفكاري. وأقول صراحة إن الطفل لازال ساكنًا في داخلي بعناده واندفاعه، أنا باختصار شديد طفل، وهو سبب استمرار الكتابة عندي، لأن الطفولة تعني أن هناك غدًا أجمل، وشيء جديد سيحدث، وأشياء سنعيشها مستقبلا.
من زاوية أخرى الطفولة دفعتني إلى تحمل ضريبة الصراحة الصادمة، حتى أنني فكرت أحيانًا أن أغير من سلوكي فيما تبقى لي من هذه الرحلة، لانزعاج أصدقائي تجاه صراحتي المتحررة من عرف مجتمعي مفاده (أن ما على اللسان ليس بالضرورة أن يترجم ما في القلب)، خاصة مع الأصدقاء، لكنني أفعل العكس دائمًا، فصراحتي المطلقة لا أمارسها إلا معهم.
وبذا فالطفولة لا تستطيع إلا أن تكون صادقة مع أصدقائها، فليقبلني من يشاء وليرفضني من يشاء، صدقي الطفولي هو دستوري الوحيد الذي التزم به، وهو الذي يجعل الطفل يصر على تغيير العالم، الغريب أن الطفل بالإمكان تغيير سلوكه، لكنني طفل يرفض أن يتغير، والذي يجلس أمامك مجرد طفل رغم عمره الثمانيني، يتمنى أن آخر ما يرى في حياته قلم وكتاب.
الطفولة وبكل ما تتميز به من صدق وصراحة، كانت الروح في كل ما كتبت، ليس للأطفال فقط، بل للكبار أيضًا، لأن الطفولة حرية، وهذا ما عنيت به في قصص الكبار، وعلى قاعدتها أجيب عن أسئلتك.
■ كيف تبلورت كتابة أدب الطفل في ذهنك؟
– عندما تعرفت على نفسي، تعرفت على الطفولة بداخلي، على الطفل الذي ولدته أمه، كل ما مر يوم من عمره، اتسع نطاق الأسئلة لديه، ففي الوقت الذي كنت أقرأ فيه عيون الأدب العالمي، كان أقراني في زنقة الباز يلعبون (التيرة والبطشة)، وأحمل مع كتبي المنهجية كتابًا لا علاقة له بالمقرر المدرسي، أقرأه عندما يخرج الأطفال للاستراحة، لأبقى في الفصل مستمتعًا بمطالعته.
■ في اتجاهك لأدب الطفل هل حاولت الاستفادة من تجارب سبقتك في هذا المجال؟
– سؤالك لم يكن في محله.. لأنك لم تنتبه لكلامي عن الطفولة، عندما قلت لك بأني ولدت طفلًا، هذا الطفل قرأ كثيرًا، وكان لزامًا عليه عندما تكونت أدواته اللغوية، والعقلية، التعبير عن طفولته بشيء ما، فترجمها قصصًا، معاجم، برامج،حوارات، دون السؤال عن أي محاولات سابقة، أوالنظر لتجارب أخرى، أراد التعبير عن الطفل الذي ولد به وفيه، لكنه لم يسأل نفسه، سؤالك ربما ينطبق على كتاب بدأوا متأخرين في الكتابة للطفل، بل ومنهم من ألف روايات للأطفال دون إدراكه لذلك.
■ عندما قدمت مجموعتك الأولى للأطفال ألم ينتابك الاحساس بفشل التجربة؟
– هذا الاحساس لا ينتهي مع الكاتب، ويتجدد مع كل قصة يحاول فيها تفادي أخطائه السابقة في اللغة، بحكم صعوبة الكتابة للأطفال أكثر منها للكبار، فتعدد الفئات العمرية وما يوازيها من تنوع البيئات الحياتية لتلك الفئات على المستوى الاجتماعي والثقافي، واختلاف أسئلتها، يفرض عليك وضع تلك المعطيات ضمن المنظور العام لنصك القصصي، إلى درجة قررت فيها أحيانًا التوقف، إذ ليس بإمكاني تلبية احتياجات كل الفئات العمرية ببيئاتها المختلفة، وإذا سألتني هل أنا راضٍ عما كتبت من قصص، أجيبك بنعم، ولكنه لا يكفي، إذ لازلت أتوق لكتابة قصص أكثر حميمية وتعبيرًا عن الحس الطفولي، طريقة التعبير ستستمر، وكل أساليب الكتابة ستنتهي إلى أن تستنفذ نفسها أو يستنفذ الكاتب إمكانياته، وهنا عليه أن يكون صادقًا ويتوقف عن الكتابة، أويطور إمكانياته بالبحث عن طرق تعبير أخرى، وهو ما قادني لمحاولة الخروج من القالب التقليدي بالاتجاه لكتابة نمط جديد، لا يتجاوز النصف صفحة، لأنني توصلت إلى حقيقة لا يأخذ بها كتاب كثيرون، وهي ليس على القصة الطفلية (إلا في مرحلة عمرية متقدمة)، أن تقدم أحداثًا وشخصيات، فهي ليست معنية بالحكاية، ومن غير المنطقي استمرارها في تلك الصورة.
■ هل قصدت تفاعل الطفل مع النص بتولد الأسئلة لديه؟
– بل أكثر من ذلك، وهي ألا أكون وصيًا على عقله، وراويًا لحدث يقرؤه، أريده أن يقرأ أولًا، وإذا ما أثارت القصة دهشته، هنا سينتقل مباشرة للأسئلة كمحصلة لذلك، ماذا يعني هذا؟.. سأقدم مثالين لنماذج قصصية أسميتها (الكتابة الأخرى)، النص الأول يقول (سقطت حبة قمح، من سنبلتها، وسقطت قطرة ماء، من سحابتها، قالت قطرة الماء لحبة القمح، تعالي ننام في فراش واحد، فتدحرجت حبة القمح، حتى عانقت قطرة الماء، وناما معًا، بعد يوم أو يومين، بعد شهر أو شهرين، صارت حبة القمح سنبلة).
■ النص يتجاوز الحكاية ليثير السؤال في ذهن الطفل، كيف تحولت الحبة إلى سنبلة؟
– ذات الأسلوب في نص ثان يقول: ( خرج العصفور من بين جناحي أمه، وطار فوق الغابة الكبيرة، عندما تعب، حط على ضفة نهر صغير، جاء طير كبير، وقال هذا النهر لي، فطار حتى وجد نهرًا، فهبط وجلس على ضفة النهر الكبير، جاء طير كبير، وقال هذا النهر لي، عاد العصفور إلى جناح أمه، وقال: هذه أمي، وهذا الجناح لي). في كلا الحالتين يتجه النص إلى الخروج من دائرة المعرفة الجاهزة، إلى محفزات السؤال بحثًا عن السبب، وهي تجربة تنحو إلى استثارة العقل، وتحريك كوامن الاستفسارات في خياله وذهنه، وجعل الطفل هو الذي يقوم بمهمة الحكاية بدل الراوي.
■ ماهي فلسفتك في مشروع كتابتك لأدب الطفل؟
– مشروعي الأساسي هو إثارة الأسئلة، دون توقع إجابة، فما لا يعرفه اليوم سيعرفه غدًا، وإذا لم يفهم الطفل مدلولات النص من والديه، سيعرف ذلك من أصدقائه، يمكنك تسميتها بأسئلة الزمن المرحل أوالسؤال المفتوح، لهذا السبب، انتقلت من الزمن اللحظي الحكائي إلى المستقبلي في نماذج الكتابة الأخرى. كما يجب أن تتضمن رؤية أي كاتب في هذا المجال. الانطلاق من القاعدة الأساس،الحرية، تعليم الطفل كيف يكون حرًا، يناقش، يسأل، يجيب، يقدم أسلوبه الخاص في التعبير عن نفسه بلا تلقين أو خوف، أي رفع الوصاية عن عقله
■ هذا يقودنا للسؤال عن ملامح هذه الحرية؟
– بما أنني مسكون بروح الطفولة، فإن انحيازي لها هو انحياز لنفسي، والتزمت بها في كتاباتي، لكن ما صدمني خلال تجربتي، عدم فهم كتاب أدب الطفل على المستوى المحلي والعربي للطفولة كما ينبغي، برغم إصدار مئات الكتب،وإقامة عديد الندوات والمحاضرات عنها، على عكس ما رأيت في بلدان أوروبية قمت بزيارتها، سمعت وعاينت عن قرب أوجه العلاقة بينهم وبين أطفالهم، وهي نقيض علاقة العرب والليبيين مع أبنائهم.
نحن ترسخ لدينا انطباع أن الأوروبيين يسيئون تربية أولادهم، بتعليمهم أشياء سابقة لإدراكهم العقلي، وهنا مكمن خطئنا بتأجيل التربية إلى سن متأخرة، ففي حين وقف الأوروبيون في اكتشافاتهم لعوالم الطفل المبكرة، إلى تأثره بالموسيقى حتى أثناء فترة الحمل.ظللنا متمسكين بتأجيل أحقيته لهذا الادراك الى السنوات اللاحقة، والمؤسف انعكاس آرائنا السلبية تجاهه حتى في أمثالنا الشعبية، وأنا أسأل هؤلاء ما معنى حتى يتكون عقله..؟ هل باستطاعتنا قياس عقل الطفل بالمسطرة لنعرف نضجه من عدمه..؟ سيجيبون بالقول: (حتى يصل عمره لسن الرابعة عشر)، ولماذا الرابعة عشر؟ الخلاصة أننا ظلمنا الطفولة برغم ادعائنا لحبها، نحن كاذبون بامتياز، الاعتراف بعقل الطفل مؤجل، إضافة لرفضنا أن عقله يتطور، ويفكر كما نفكر.
قمت بزيارة ميدانية لأحدى المدارس، والتقيت بطلاب من السنة الخامسة والسادسة في التعليم الأساسي، بعدد لا يتجاوز الخمسة عشر تلميذًا، وبحضور المعلمات، وقد كانت المفاجأة في استغرابهن من قدرة التلاميذ على تبادل وجهات النظر خصوصًا عندما طلبت منهم اختيار موضوع ما للنقاش، فاختار أحدهم موضوع الحرية، ووضع ذلك علامة تعجب كبيرة لدى إحدى المدرسات، وقررت أن تسألني بعد تردد، كيف للتلاميذ إدراك هذه المعاني؟ فأجبتها بأنهم يعلمون التلميذ الكتابة عن عيد الأضحى، أو مناسبات قومية، ودينية وبشكل نمطي مكرر، ولا تتركون لهم هامش اتخاذ القرار في موضوعات يختارونها بأنفسهم، أنتم تحتكرون حق التلميذ في التعبير.
■ قرأت منذ أيام كتابًا عن الفلسفة والطفولة لأحد الكتاب الغربيين، أورد أمثلة، تتجاوز أسلوب المجادلة والمحاورة، الى مراقبة أنماط الطفل السلوكية بتجارب حية، أكدت علاقته بالفلسفة، ونحن لا نعترف بهذا شكلًا ومضمونًا. تعني أننا بقينا في مرحلة التنظيرولم نخرج منها؟
– نعم، وأنا أيضًا سقطت في هذه الهوة. ثم اكتشفت خطئي لاحقًا وتجاوزته، وأعود لأضيف أن إغفالنا لتطور عقل الطفل، يتصل بتجاهلنا لحقوقه التي أشرت إليها في محاضرة بعنوان (الطفل الليبي في الدستور الليبي)، يمكن اختزالها مضمونًا في عنوان واحد، (غياب حقوق الطفل فيما يتعلق بالحرية)، إذ لا زلنا نستعبده بحب مرضي، وكأنه دمية نفعل بها ما نشاء.
■ في ورقتك تلك، نوهت إلى القصور في تطبيق القوانين بالخصوص؟
– لنتساءل أولًا، هل يستلزم وجود قوانين خاصة بالطفل، للحفاظ على حقوقه؟ لنفترض أنه لا توجد قوانين، في البلدان الأخرى القوانين كانت نتاجًا لحياة الناس، ولم يكونوا هم نتاجًا لها في ثقافتهم وسلوكياتهم، منطق الحق الطبيعي يعارض وجود القانون أساسًا، هل تعرف لماذا؟ لأنه يلزمني بالحفاظ على حقوق الطفل. ولماذا يلزمني؟ هذا يعني غياب حريته للأسف، لذا كان لزامًا سن قوانين تكفل له حقوقه المغيبة.
ربما أشير الى القانون الذي صدر في عهد النظام السابق، والذي لو قدر له أن يصبح حقيقة لتحول الى رمز من رموز حرية الطفل في ليبيا ’ لأنه يؤكد على حق الطفل من أب غير ليبي وأم ليبية في حيازة جواز سفر ليبي، ولأنه لم يطبق بقي الطفل في مربع الهوية الضائعة.
لذلك لازلت أتساءل عن غياب حقوقه، خصوصاً في الوقت الراهن الذي تجاوز تهميش حقوقه الى تهميش حقوق الليبيين جميعًا، وقد نوهت في ورقتي على جملة من الحقوق وهي (حق الجنسية لكل من يولد لأب ليبي أو أم ليبية، حق التعليم وهو إلزامي في مرحلة التعليم الأساس، وفي الضمان الاجتماعي والصحي، وحقه في سكن مناسب وحياة كريمة، إضافة الى تجريم العقاب البدني في البيت والمدرسة والمجتمع،كذلك الحصول على المعرفة دون عوائق مادية أومعنوية، وحماية الطفل وتوفير كافة الظروف الملائمة لتنمية ملكاته وقدراته، كما يجرم عمل الأطفال الذين هم دون سن الثامنة عشرة، وتكفل الدولة حق الطفل في استخدام كل منجز علمي له علاقة بحاجته المعرفية، وتكفل له أيضًا التعبير عن آرائه بكل حرية، وحق المشاركة في القرارات المتعلقة به).
وبالإشارة إلى ما ذكرته في النقاط السابقة أتوقف عند بعض تلك الحقوق والتي من ضمنها حرية الطفل في الاطلاع على المعلومات والوصول إليها، واذا ما أخدنا الدول الأوروبية بالقياس نجدها تضع شروطًا للطفل لكي يصل الى المعلومات، غير أننا منعناه من الوصول إليها بشكل مطلق.
الأوربيون وضعوا حاجزًا أمام المعلومة في قالب تغلب عليه النصيحة، كأن تشير قناة أو موقع إلكتروني أن البرنامج أوالمسلسل كذا، لايجوز مشاهدته لمن هم دون الخامسة عشر، منطقهم يتأسس على الثقة في الطفل أو ولي أمره، فيما نظل نحن متجاهلين ثقتنا تجاهه.
وبشكل عام الطفل في ليبيا لا يتاح له الوصول الى المعلومات بطريقة حرة يفرضه عليه تفكيره وعقله وسلوكه، فلازلنا نحدد له الخطأ والصواب، السيئ والجيد. ومن ضمن حقوقه الضائعة اتخاد القرارات داخل محيطه العائلي، والتي نمارس مصادرة أحقية رأيه أو وجهة نظره بالخصوص، بدأ بالأكل وانتهاء بالحذاء، وربما تبرر ذلك بعدم قدرته على الاختيار؟ أقول لك بأنه قادر على ذلك، لكننا نمنعه باختيارنا لما يناسب ذوقنا لا ذوقه، نحن باختصار نمارس امتلاك لعبة اسمها طفولة.
أنت أشرت في سؤال سابق إلى القوانين التي تحمي الطفل، لكنك لم تسألني عند مغزى رفع سن الطفولة الى الثامنة عشر؟ والإجابة هي لتأكيد مسؤولية الدولة عن الطفولة. وأتساءل أيضًا عن أحقيته في التعليم، وأدعي أنني متابع للعملية التعليمية، وأشاهد ما يطرأ عليها من تخلف فكري، المناهج عندنا تعتمد بقرار وتلغى بقرار ولك أن تطلع على مناهج العلوم الإنسانية، كالتاريخ، الجغرافيا، والأدب، والتربية الإسلامية.
في أوروبا يعلن عن مسابقة لأفضل نص مدرسي للمرحلة المعنية، وعندما يختارون الكتاب يراجع كل سنتين، ثم يلغى بعد أربع سنوات، لأن النص المكتوب سيواجه أسئلة جديدة ليس بالإمكان، كتابة ملحق لها.
تصور أن حفيدي يدرس في السنة السادسة ولا يعرف كيف يرسم خريطة ليبيا، ولا يعرف تاريخ ليبيا، في مقابل معرفته بالتاريخ التركي (العثمانيون والدولة العثمانية)، وهذا لايعني اعتراضي على عدم معرفة الطفل لتاريخ العالم، ولكن قبل أن تعرف الغابة عليك أن تعرف الشجرة، لقد استولت على مناهجنا افكار ليست منا، لاهي دينية حقيقية ولا هي ليبية.
■ عن أي مرحلة تتحدث، النظام السابق أم المشهد الحالي؟
– ما أعنيه هو الوقت الحالي، نحن نعاني أزمة تخلف تعليمي، وهذه كارثة كبرى، فلكي تعرف أمة عليك أن تتعرف على تعليمها، وإذا أردت معرفة أمة عليك التعرف على طفولتها.
■ أين يكمن الخلل برأيك في السلطة أم الهيكل الإداري؟
– لا توجد دولة للأسف لكي نقوم الوضع بشكل علمي، وعلى الرغم من وجود حكومة ورئيس أوحكومتين، فحقوق الإنسان ضائعة والطفل بصورة مضاعفة، لأننا لم نعترف بحقوقه في مراحل التعليم الأساسي، فهناك أطفال مشردون، وآخرون خارج المدارس، إضافة إلى وجود مدارس لا تتوافر فيها شروط المؤسسة التعليمية، ولعلي أذهب الى أبعد من ذلك بالقول إن الطفولة هي الغائب الوحيد عن حياتنا.
■ وأين دورك أنت ككاتب لأدب الطفل ومهتم بقضاياه؟
– بعيدًا عن السؤال في ماديته، أزعم أنني أول من قدم كتابًا مجانًا للأطفال، وأنت تجلس الآن في مكتبة خاوية الأرفف، ذهبت كتبها بالإضافة لأدوات تعليمية، وعلمية الى أطفال دون مقابل، مع العلم أني أشتريتها بدمي وبالعملة الصعبة، الحديث عن نفسي في الطفولة مهمة من تعنيه الطفولة.
■ وهذا يضعنا أمام السؤال عن أعداد مكتبة الطفل،بليبيا؟
– لا توجد مكتبة متفردة في كتب الطفل، وإن وجدت فالطابع التجاري هوالمسيطر، أستطيع القول أن مكتبتي هي الوحيدة المعنية بتقديم المعرفة للطفل، ولو انتبهت الى عنوانها لوجدت عنوانًا آخر يقول (من أجل عقل حر)، وهذا يرجع بنا الى ما ذكرته في البداية، عن أننا لازلنا نستعبد هذا العقل . وأضيف بأنني الكاتب العربي الوحيد الذي قدم أربعة معاجم كاملة للأطفال، ولم ينتبه إليها أحد، آخرها معجم (المختار في اللغة والعلوم)، والذي أخذ من جهدي الجسدي والنفسي والعقلي سنوات عديدة.
وجهت سؤالًا خلال المدة الماضية لوزير التعليم بحكومة الوفاق،مرفقًا بصورة للمعجم، قلت له: ألم تسمع بهذا الكتاب؟ لماذا لا يكون رفيق التلميذ…؟ وعندما أشار بعض الأصدقاء للوزير بأنني وجهت له هذا السؤال أجابهم بقوله: نحن نفكر بتكريمه، هل أنا أحتاج هذا التكريم، تكريمي الحقيقي أن يكون صديق التلميذ والمعلم في المرحلة التعليمية الأساسية.
إن معجم (المختار في اللغة والعلوم)، تكمن أهميته في اقتران اللغة بالعلم، لايمكن فصل اللغة عن علومها، ولذلك قرأت الجديد في كل العلوم باللغة الإنجليزية، وحرصت على ترجمة ونقل مفردة المنجز العلمي كما هو الى اللغة العربية، وهنا يجب أن ننتبه إلى أننا أمة لم تصنع شيئًا منذ زمن قديم، فنحن ننقل مالم نصنعه ثم نطلق عليه أسما،هذه جناية على حقيقته، أي كما لو أنني أخذت طفلًا من أبيه وأعطيته اسمي ولقبي، فمثلًا الكومبيوتر ليس له علاقة بالحاسب الآلي، هذا خطأ.
■ هل أفهم من كلامك عدم اقتناعك باشتغال معاجم اللغة العربية على تعريب المفردة الأجنبية؟
– أنا لا أعترف بما يسمونه التعريب، الميكروفون مثلًا ليس ناقلًا للصوت، أصنع ما شئت ثم سمه كما تشاء، العلم يصنع ولا يعرب، هذا تزوير.
■ ماهي المعايير التي تتوافر في المترجم فيما يتعلق بالطفل، لكي ينقل مادة من لغتها الأم الى اللغة الأخرى؟
– المسألة أخذت طابعًا تجاريًا، وذلك عندما تقوم شركة ما بالاتصال بأحد المترجمين، لكتابة قاموس قد لا يكون مراعيًا في مادته لحاجيات الطفل في مراحله العمرية المختلفة، ثم يباع لمدرسة يتم الاتفاق معها مسبقًا على عدد معين من النسخ، ثم تتقاسم الشركة والمترجم فيما بعد عائد المبيعات، لذلك أصبحت الكتابة للطفولة تجارة، وحتى على مستوى البرامج نرى الشركات في سباق محموم لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح.
■ خصصت فصلًا عن الثقافة الجنسية في كتابك (دراسات في الطفولة)، كيف كانت ردود الأفعال تجاهها؟
– لعلها الدراسة الأولى في المكتبة الليبية، التربية الجنسية جزء مهم من التربية الاجتماعية الشاملة، ولأنها الأولى فقد قوبلت بكلمات (هذا موش وقته) و(عيب)، و(باين عليك فاضي)، ولأن ردة الفعل كانت بهذه الصورة، فقد كتبت أنها للمستقبل. الكتابة عن الجنس من المحرمات الكبرى عندنا، والاعتراف بالتأثير الخطير ليس من شاغلنا، جميعنا وبلا استثناء نحن نعيش الجنس (في الظلام)، ظلام العقل قبل ظلام الجسد.. لذلك فالجريمة الجنسية (المسكوت عنها) موجودة وقد تهيأ لي معرفة بعض منها.
■ أشرت الى البعدين العلمي والثقافي في الثقافة الجنسية، أيهما يلتصق أكثر بمسألة التحريم؟
– ثقافي بالدرجة الأولى، والذي يختزل في داخله المسألة الدينية والاجتماعية والتربوية.
■ ماهي مبررات تأجيل الثقافة الجنسية من وجهة نظر المتخصصين؟
– عندما نوهت بصراحة الى وجوب تعليمها للطفل قبل إدراكه لها كرموز لما أبعد من حقيقتها وتأثيراتها السالبة والموجبة، أجابوني بوجوب وصول الطفل لسن الرابعة عشر، ليدرك ما يشاهد، وقد قلت لأحد الذين اعترضوا على ذلك، اذا تأجلت هذه الثقافة إلى سن الإدراك، لن يكون لها تأثير، لأن الطفل وصل الى سن الرابعة عشر وعرف ما يريد، وأصبح عاقلًا مغادرًا للطفولة، لذلك من الضروري أن يكون تعليمه سابقًا لذلك، وهذا ما فعله الأوروبيون عندما وضعوها في أولى سلم المراحل العمرية للطفل، وقدموا له كل شئ بطريقة تشريحية، وقد صادف وجودي في انجلترا في إحدى السنوات، وشاهدت برنامجًا عن الثقافة الجنسية، يتلخص في إحضارهم مجموعة من الأطفال، تتراوح أعمارهم ما بين السنة الثالثة والسادسة، وتطوعت إحدى السيدات الحوامل لتكون درسًا لهم، كانت المشاهد حقيقية، وتم عرضه على الأطفال ليشاهدوا عملية ميلاد الطفل منذ بدأ الطلق حتى قطع المشيمة، كانوا مشدوهين مما رأوا. وإذا ما تعلمها الطفل في هذه المرحلة، هل نصدمه بهذه الثقافة ونتحمل تبعاتها أم نؤجلها إلى أن يتعلم المجتمع؟ ومتى يتعلم المجتمع؟ وهو السؤال الأصعب. الثقافة الجنسية هي النصف المخفي قسرًا وهو الأهم في جسم الإنسان، كونه مرتبطًا بشخصيته وبحياته وبعلاقته المختلفة، وعمومًا التربية الجنسية غائبة في كل المجتمعات العربية، فلسنا وحدنا في هذا الهم.