محمد صدقي ذهني
رحلة ممتعة في كتاب شائق للأستاذ علي باني بعنوان (هذا أنا) من إصدارات دار الكتب الوطنية. من واقع العنوان ومقدمة الكتاب نحن أمام سيرة ذاتية من نوع مغاير يصر صاحبها على أنه في كتابتها لم يضع ‘في رسغه قيدا زمنيا’ ويؤكد أنه لم يتقيد ‘بكلاسيكية وحدة المحتوي والاستنتاج’ ويحمل القارئ ‘مشقة’ إيجاد ما يربط بين أجزائها المتناثرة! مهلا أيها القارئ، إياك أن تقع في أحابيل الكاتب، فان سيرته الذاتية محبوكة السبك بدقة هندسية وليست عشوائية كما يريدنا أن نصدق. في الواقع هي شذرات حياة تنتظم في عقد فريد!
واسطة العقد الفريد، بدون أدنى شك، هي شخصية ‘الطيب’ الانسان البسيط شديد التعقيد في آن واحد. في أكثر من خمسين صفحة يرسم الكاتب بفرشاة عريضة خمس عشرة وجها من وجوه الطيب العديدة والمتناقضة المزدانة دوما بعشرات الأمثال الشعبية، بوتقات من الحكمة وصور للحياة نفاذة. لا أذكر فيما قرأت وصفا أدق وصورة أصدق للإنسان العادي، تصوير جميل يذهب بذاكرتنا إلى ‘طيب’ ما خاص بنا له أثر في حياتنا ربما حتى بدون ان نعي. حديث المؤلف عن عمه الطيب، هو أيضا حديث عن حياته هو بداية من يوم أن كفكف دموعه بإهدائه حقيبة في يومه الدراسي الأول، إلى يوم أن وافاه الأجل المحتوم. قصة حب جميلة والفصل الأخير بعنوان الطيب مودعا مؤثر جدا والغريب أن المؤلف ساءل نفسه ‘ لماذا لا يكتب شيئا يصور عمه ‘الطيب’ ميتاً’؟ ويختم الفصل: “ليتك عشت فقط لتقرأ هذه الكلمات”.
تخرج من رفقة العم ‘الطيب’ وعبق جوها الهادئ ما زال في الجو لنواجه زوبعة من الأفكار والعواطف تنتظم في فصل جديد تحت عنوان ‘بوح’ لا تخلو من استعراض بدون تبجح لعضلات الكاتب الفكرية واللغوية. بداية، تواجهك بمجموعة من الثنائيات: قمحة وإلا شعيرة، سبع وإلا ضبع، وحادي بادي، وقد وجدت نفسي مع الكاتب في غزله بالشعير فانا بيني وبين خبزة الشعير الصاعد لتوه عبقها من التنور القابع في وسط حوش العيلة’ حب لا ينقضي. هنا أيضا نجد في هذا الفصل خمسة عشر مقالة تتناول مواضيع عدة تعكس في داخلها شيئا من حياة الكاتب في طفولته أو سنين دراسته والأساتذة الأوائل الذين تركوا أثرا في تكوينه وهو يذكرهم بكل الحب والوفاء. شدني تعبير ‘من علمني حرفا صرت له كلمة’. القارئ مضطر أن يقرأ المقالة بإمعان حتى يظفر بدلالتها عن حياته أو جزء منها، مما يسبغ عليها عفويه متعمدة بعيدة عن التقريرية. لهذه الطريقة ميزة أخري فيما أرى، وهي وضع جزئيات حياة الكاتب ضمن إطار عام من معطيات اللحظة.
ومع وصول الفصل قبل الأخير تحت عنوان ‘العقل’، الذي يحتل أكثر من 60% من صفحات الكتاب، ينزوي حديث الوجدان والبوح والروح في ركن قصي؛ نقلة من انسام طرية إلى بوادر ‘قبلي’ تختفي معها الطراوة! عشرات من كتابات المؤلف عبر السنين جمعها على اعتبار أنها في مجموعها تفصح عن بعض من شخصيته وجانب من ‘أناهُ’! هذا الفصل، رغم جفافه النسبي، حافل بمقالات ممتعة بأسلوبها المركز وتنوع موضوعاتها، تبدأ عادة بفكرة تبدو بسيطة يمطها الكاتب بمهارة ويتوسع في مناحيها وكثيرا ما يفاجأ القارئ بنهاية غير متوقعة؛ استعراض عقلي لطيف! مثَلُ هذا مقالة قصيرة بعنوان ‘تفاحة’ تبدأ بقصة تفاحة نيوتن الشهيرة ودخولها للتاريخ مرة ثانية بعد قصتها مع آدم وحواء. ودخولها مجال الطب وتأكيد أهميتها لصحية لمن يتناولها يوما بعد يوم. ويتبين من الحديث أن عاشقا ليبيا نزلت عليه هو الآخر ‘من السما’ تفاحة حدد يوم وقوعها بيوم ‘الأربحا’ وخلد الواقعة شعرا! وإذا كان متيمنا الليبي وقع في أحابيل تفاحة بشرية، فإن ملايين البشر تسربت إلى دمائهم كمخدر تفاحة ‘مقضومة’ من صنع خيال شاب من أب سوري اسمه ‘جوبز’.
يطول الحديث، ولكن مجمله أني استمتعت بقراءة الكتاب وسعدت به هدية كريمة من صاحبه، وفي يقيني أنه صور جزءا هاما من حياة وإن تغلب فيه العقل على من سواه، ولعل الكاتب يفسح يوما ما للقلب مجال الحديث وننعم عندها بكتاب جديد.