الشاعر_محمد الفيتوري
قراءات

الحالات النفسية للشاعر محمد الفيتوري وأثرها في حياته وشعره

ربما من الصعوبة لي ولغيري أن يلخص في مقال واحد مسيرة ابداعية طويلة من العطاء المتواصل والمستمر، بدأت مع ستينات القرن الماضي لتقترب من الخمسين عاما ، لشاعر بقيمة محمد مقتاح الفيتوري . في هذا العمر الطويل ثمة حالات عاشها الشاعر قد تهمل أوتنسى ظاهريا ولكنها تتضح بمجرد الإشارة اليها وتسليط قليل من الضوء عليها.

الشاعر_محمد الفيتوري

هذا المقال يستعرض وبشكل موجز بعض من الحالات النفسية التي عاشها وعايشها وتعايش معها الشاعر وأترث فيه أو تاثر بها بشكل مباشر أو غير مباشر، أو كان لها دور في تكوين شخصيتة الإبداعية والانسانية ،وأنعكست بالتالي على حياتة العملية والشعرية ومجمل نتاجه الادبي والثقافي على مدى عشرات السنين.

الشاعر محمد الفيتوري لا يعرف العام الذي ولد فيه فقد ذكر إحسان عباس أنه [1] ” يجهل تاريخ ميلاده ولكن الباحثين أجمعوا على أن1930 ، هو تاريخ ميلاده الفعلي ” . عاش طفولتة في الجنينة وهي بلدة صغيرة هادئة بغرب السودان ، وهذا أثر على شخصيته فأصبح يؤثر الانطواء على نفسه ويكره الضوضاء .  كان لحكايات جدته السوداء زهرة (أم والدته) تاثيرها العميق على تكوينه النفسي وهو في مراحل الطفولة ، هذه الجدة كانت دائمة الشكوى والتذمر فتحكي بحرقة وربما بدموع لحفيدها الصغير عن ماضيها البائس، وعدم استقرارهم وهجرتهم من ليبيا إلى السودان هربا من سطوة الطليان، كما كانت تشكو اليه معاناتها الشخصية ونظرة الناس الدونية لها لدمامتها ولونها الأسود ،هذا كله كان له تأثيره العميق في تكوينه النفسي وأدائه الإبداعي فكانت زهرة حاضرة بقوة ، ولم ينساها,وأهداها ديوان شعره المهم “يأتي العاشقون إليك” فكتب يقول[2] : ”  إلى الزهرة الأفريقية ..جدتي المسكينة .. القائمة في ذاتي.. رغم شواهد النسيان “

كما تأثر الفيتوري بحكايات جدته السوداء عن جده الذي كان يتاجر بالعاج والرقيق ،وكيف أن امه لوالدته أصلها جارية، هذا كله كان كافيا لطفل يعيش في جلباب جدته أن يورث منها وفي وقت مبكر عقدة العبودية لتلازمه وتكون محور أهتمامه طيلة حياته كلها ،وربما لتكون أيضا سبب تميزه في معظم نتاجه الإبداعي.

في مرحلة الصبا غادر والد الشاعر قرية الجنينة الهادئة مصطحبا أسرته ، ليستقر في الإسكندرية ، لتبدا معاناة شاعرنا ويزداد شعوره بالحزن بسبب العيون التي كانت ترمقه باستغراب بسبب لونه الأسود وتعاضم احساسه بالدونية والدمامة وقصر القامة ، وكان نتيجة هذا الإحساس أن أصبح أكثر إنطواء على نفسه من ذي قبل وقد وصف محمود أمين العالم[3] ذلك فقال ” أن بشرته السوداء كانت تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزا كثيفا يحرمه المشاركة والاندماج وليشعل في نفسه مشاعر مريرة ” وقد بقيت هذه المشاعر والحالات النفسية مكبوته في عقله الباطن زمنا طويلا ،حتى عبر عنها في شعره :

فقير أجل .. ودميم دميم

بلون الشتاء.. بلون الغيوم

يسير فتسخر منه الوجوه

وتسخر حتى وجوه الهموم

فيحمل أحقاده في جنون

ويحضن أحزانه في وجوم [4]

وقد بين نجيب صالح[5] أن الشاعر في هذه المرحلة ” كان يحس إحساس الرجل، كانت عنده يقظات حواس مبكرة قبل أن تنضج، وكانت لأقاصيص جدته الزنجية ولأساطيرها أثرها البعيد في نفسه، كان يبحث عن الحقيقة في اليقظة المبكرة، كل ذلك تضافر وساعد على استيقاظه الدائم للكلمة والنظرة، لقد كان في هذه المرحلة متذمرا تحت وطأة شعوره بانه مشدود الى قيد ما هو قيد لايدرك مداه ، ويرفض محتواه،وكان يحس أن بركانا بدأ مرحلة الانفجار الأولى”

 في هذه المرحلة أيضا حفظ شاعرنا القران الكريم ،وكتبه بيده ، كما درس الحساب والاناشيد وكتب مواضيع الانشاء ، ثم ألتحق بعدها بالمعهد الديني الازهري ،ثم بالمعهد الثانوي في القاهرة، وليواصل دراسته هناك حتى عام 1953 ، ويجمع النقاد أن هذه الفترة تعتبر من الفترات المهمة في حياته حيث تمكن من الاطلاع على مختلف المعارف الإنسانية والدينية والفلسفية ، وأكاد أجزم أن بسبب إنطواء شاعرنا على نفسه زاد نهمه في التحصيل المعرفي الذي مثل رافدا قويا له في عمله كصحفي ، ورغم انه لم يكن له أصدقاء في العالم الواقعي ولكنه وبلا شك كون صداقات متينه مع عنترة ،وأبي زيد الهلالي، وتولوستوي، وفاوست ،وجوته،وبودلير هذا الشاعر الفرنسي الشهير الذي نادى في شعره بتحطيم الفوارق الطبقية.

في عام 1954 التحق شاعرنا بجامعة القاهرة ،وبدأ الدراسة بقسم الاداب الإنسانية ، وهو مزهوا بنفسه معتدا بما يحمله في راسه متفوقا به عن أقرانه ، ولكنه كان كسول ، ولايواظب على حضور المحاضرات ، ، وتنامى أحساسه بأنه مقيد ,ان هناك من يكبله بقوانين ولوائح ، فترك الجامعة قبل أن ينال شهادتها. والتحق بالصحافة ووجد فيها البراح الواسع للحرية ،فأطلق العنان لقلمه ،وبرز نجمه كصحفي قدير تم كشاعر مهم في مصر ،والدول العربية وافريقيا كلها التي تغنى بها وحده كما كان يقول دائما

أثر في شخصيتة والده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري صوفي كبير وشيخ السجادة الصوفية من خلفاء الطريقة الشاذلية الأسمرية‚ فقد كان الشاعر يترك اللعب ،لينظم لرفاق والده مرددا معهم التواشيح الصوفية التي كان لها دورا بارزا في شعره .

أزمة الهوية عند الفيتوري والانتماء للوطن والاستقرار فيه كانت حالة نفسية تشكل له هاجسا يؤرق حياته الشعرية والشخصية بسبب أختلاط نسبه وتحديد هويته فجدته زنجية ،ووالده من ليبيا ،وأمه تعود أصولها لتاجر افريقي يتاجر في الرقيق والعاج.   سحب منه النميري جنسيته السودانية، فمنحه القذافي الجنسية الليبيية وجواز سفر دبلوماسي ، ثم سحبت منه الجنسية الليبيية بعد قيام الثورة الليبيية ، ومؤخرا منحته القيادة السودانية جواز سفر دبلوماسي واعادت إليه جنسيته السودانية ، مهنته كدبلوماسي سهلت له السفر الدائم وقبلها تنقله الدائم من بلد لبلد أورث شاعرنا إحساسا متأصل بالغربة التي شكلت أبرز ملامح شخصيته ومنحته لونا مميزا في أدبه وشعره

علاقته بالسلطة والرؤساء معقدة ،أحبه أنور السادات،وقربه اليه في بداية مسيرته ،وأرسله ليشارك بلاده في عيد استقلالها عام1956 ، وبعدها بسنوات هجاه في قصيدة (الراقدون على بطونهم  والدجي من فوقهم حجر) الشهيرة إرضاء للقذافي الذي رحب به بعد أن طرده النميري وسحب منه جواز سفره وجنسيته ، فمنحه القذافي كل مايريد وسام الفاتح وجنسية ليبية وجواز سفر دبلوماسي ووظيفة سفير ، هذا ماجعل الفيتوري يصفه في أحد قصائده بانه مثل بعض النبيين !!!

كان شاعرنا شديد الاعجاب بالرئيس محمد نجيب بينما هاجم جمال عبد الناصر، هجوما لاذعا في  قصيدة “مات غدا”ً[6] قال فيها :

مات

وملء روحة المسودة المحترقة

رمز يغطيه دم المشانق المعلقة

وصرخات الثائرين في السجون المطبقة

كتب قصيدة شعرية في بغداد عنوانها “يأتي العاشقون إليك”، أعجب بها صدام حسين كثيرا فقربه منه ومنحه جائزة قيمتها مائة الف دولار ،وكان صديقا حميما للرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا، كتب عنه يقول

يا بن بيلا

ما أجمل أن يصحو الانسان

فإذا التاريخ بلا قضبان

 وإذا الثورة في كل مكان[7]

هذه العلاقة مع الرؤساء ولدت عنده نوع من الزهو والتفاخر جعلته يتطاول على النقاد ولايعترف بهم ،ويقلل من أهمية اقرانه الشعراء فقال أن  احمد عبد المعطي ججازي  ليس شاعرا بالمطلق وانه مجرد ناقد، والبياتي أيضا ،وحتى محمود درويش عنده ليس شاعرا ولكن القضيه جعلت منه شاعرا ،ونزار قباني في نظره شاعر لكنه كان في خدمة اخرين . الفيتوري يعتقد دائما ولايزال أنه ان كان الشعراء لايموتون فهو اكترهم بعدا من الموت، ويقول متلي انا ليس يسكن قبرا

[8]لا تحفروا لي قبراً

سأرقد في كل شبر من الارض

‏30‏/08‏/2014

[1] د .احسان عباس :اتجاهات الشعر العربي المعاصر ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب الكويت، 1998 ،ص 2
[2] محمد مفتاح الفيتوري: يأتي العاشقون إليك، دار الشروق، القاهرة، ط1  1992 م_ 1413 ه، ص5
[3] محمود أمين العالم: “هذا الديوان” مقدمة ديوان أغاني أفريقيا  المجلد الاول،دار العودة بيروت،الطبعة الثالثة، 1979 ، ص 42

[4] محمد الفيتوري: ديوان الفيتوري، المجلد الاول ، دار العودة ، بيروت، الطبعة الثالثة، 1979 ص16
[5] نجيب صالح .محمد الفيتوري والمرايا الدائرية .الدار العربية للمسوعات بيرولت.الطبعة الاولى 1998 ص8
[6] محمد الفيتوري: ديوان” أغاني إفريقيا، مكتبة الحياة،بيروت، 1967 م.ص20
[7] محمد الفيتوري: ديوان “عاشق من أفريقيا”، دار الشرولق،ط 1 1992 ص22
[8] محمد الفيتوري: ديوان أقوال شاهد إثبات، منشورات الفيتوري الثقافية، 1988 م، ط 4 ص26

مقالات ذات علاقة

قراءة في رواية “الهروب من جزيرة أوستيكا” لصالح السنوسي

المختار الجدال

الكنز الليبي حين يضيع في الصمت

شكري الميدي أجي

قراءة مختلفة في تاريخ الرياضيات

المشرف العام

اترك تعليق