قراءات

الكوني والمرأة.. عدوانية وكره أم عشق وتوق

أمل زاهد

*

تبدو لنا علاقة إبراهيم الكوني الروائي الليبي المعروف بالمرأة غامضة، مبهمة تتشابك فيها المشاعر وتتداخل بتعقيد محير وتخرج من أعماق متاهة مظلمة. فهذه العلاقة مبطنة بدهاء ومهارة شديدين بمشاعر كراهية تتدفق بها لوحات الكاتب ويوحي بها لقرائه كي يخفي بها ذلك الحنين الشديد للمرأة وذلك التوق إلى حضورها ووجودها.

ففي هذه العلاقة المعقدة تختلط الأضداد وتتمازج وتتماهى فلا تعود تستطيع أن تتلمس تلك الخيوط الدقيقة الفاصلة بين الأشياء ونقائضها، بين الحب والكراهية وبين العدوانية الفاجعة التي تروع القراء بشدتها وقسوتها والتي يندس بين جنباتها ذلك العشق الشديد والحاجة الماسة لوجود المرأة.. ذلك الكائن الذي يصوره الكوني ناعماً كالحية عندما تلمسه ولكنه لا يلبث أن ينفخ في وجهك بشرره ويلدغك بسمومه ويرديك بترياقه فيحول حياتك إلى جحيم أبدي لا نهاية له وإلى ظلمة قاتمة لا شمس تبدد سوادها.

والتطرف في الكراهية يخفي دائماً بين أعطافه ولهاً شديداً وولعاً آسراً، فيتحول هذا العشق إلى أحد أشكال العدوانية عندما لا يجد صاحبه متنفساً له على أرض الواقع، كما أن محاولة نفي الشيء تنبع أصلاً من إدراك الإنسان لقوة حضوره في أعماق نفسه. فالفيلسوف الألماني (نيتشه) الذي كان يجاهر بعدائه للمرأة فهو القائل: (أذاهبٌ أنت إلى المرأة؟ لا تنس إذن سوطك!!)، كان يخفي ولعاً شديداً بها ورغبة في الانضواء تحت مظلة علاقة سوية تربطه بها. فعشقه الجارف للآنسة (لوسالومي) التي أسرته بفطنتها وذكائها ونبلها كان من طرف واحد، فقاده إلى حافة الانتحار عندما تزوجت من صديقه (باول ري).

كما أن عشقه (لكوزيما فاجنر) التي أحبها بصمت وعمق، أعلن عن نفسه صريحاً يوم خلع نيتشه ثوب الوعي ودخل إلى عالم اللاوعي إبان فقدانه عقله فبرز ذلك العشق من تلافيف عقله الباطن معبراً عن نفسه ومفضياً عن ألم صاحبه، ففشله مع هاتين المرأتين كان دون شك باعثه لكراهية المرأة وشنه تلك الحرب الشعواء عليها.

وهنا لا بد أن تطوق علامات الاستفهام حياة إبراهيم الكوني العاطفية وحضور المرأة فيها وهو القائل: (لا امرأة تدفع بالرجل العظيم إلى العظمة. هناك امرأة لم تعرف كيف تعرقل مسيرة الرجل العظيم إلى العظمة). وهو القائل أيضاً: (من يحتفظ بالمرأة لا يحتفظ بنفسه) وعشرات الأقوال الأخرى التي تدين المرأة وتصورها على أنها مصدر الغواية وأس البلاء. ناهيك عن اختفاء شخوص المرأة من كثير من رواياته كما في (نزيف الحجر)، فالبطل (أسوف) يخشى المرأة ولا يستطيع التعامل معها وينعزل في منفاه الاختياري بالصحراء بعيداً عنها وعن الأغيار.

ووجودها الباهت تارة أخرى الذي يفوقها فيه المهري الأبلق في رواية (التبر) الذي يعتبر فيه ذلك الحيوان البطل الثاني للرواية.. ذلك الوجود الذي يرهق بطله (أوخيد) ويقف كحجر عثرة في طريق تحرره من علائق الحياة، وهو يرمز الى وجود المرأة في حياة بطله بالوهق، كما ان البلايا ترزح به وبصديقه المهري الأبلق عن طريق الأنثى فيجأر بالشكوى منها في عدة مواضع من الرواية فيقول في أحدها: (الأنثى أكبر مصيدة للذكر، سيدنا آدم أغوته امرأة!!). ومن خلال قول له كهذا في كتابه وصايا الزمان: (ويل لرجل اختلسته المرأة من نفسه، ويل لرجل لم تختلسه المرأة من نفسه)، يتضح تشابك خطوط العلاقة التي تربطه بالمرأة وشدة تعقيدها، فلا ابتعاده عنها يريحه ولا قربه منها يرضيه.

وعندما تدخل إلى عالم الكوني يروعك جفافه وغياب المرأة عن مسرح أحداثه، ذلك العالم الذي تتداخل فيه الأسطورة مع الحقيقة، وتشكل الصحراء بعزلتها وعظمتها وغموضها وإشاراتها أحد معالمه الرئيسية، كما تتحرك فيه رموز أخرى كالصوفية والنبوءة والعزلة والرؤيا والحيوان فتعقد من أزمة وجود الإنسان الذاتية، فلا تملك إلا أن تشعر بعمق هذه الأزمة وباستعصائها على الحل، لتكتشف ان الإنسان مأسور في ذاته رهين لنصب يصاحبه منذ انزلاقه من رحم الأم إلى أن يطويه رحم الأرض.

دون شك تشكل الحرية والتوق إلى الانعتاق من علائق الحياة التي تكبل الإنسان أهم الهواجس التي يحاول ان يعبر عنها أدب الكوني، فهو ذلك الإنسان المجدول وجدانه بعشق الحرية، المهووس بها المندفع حتى الجنون في سبيل نيلها، فتضحى الحرية قيداً يطوق يديه بدلا من ان يطلق عقاله ويحرره من أصفاده، فمن يعشق الحرية ويصل به الأمر إلى تقديسها يصبح أسيراً لها عبداً خاضعاً لها وتضحى هي الرصاصة التي تطرحه أرضاً وترديه قتيلاً. وعاشق الحرية، المفتون بها، والمتوله في حبها لا بد ان يصطدم بالمرأة، لأنها كما يقول الكوني (عدوة الحرية)، فالمرأة رحم يحبل بالحياة ويسعى جاهداً للمحافظة عليها، يمد بجذوره في الأرض ويتعوشب في أعماقها متشبثاً بها وطالباً الأمان من التصاقه بها، ولذلك تسعى المرأة دائماً إلى الاستقرار وتوفير رغد العيش وأسبابه (للدمية) وهو الرمز الذي يرمز به الكوني للولد، بينما يهوى عاشق الحرية التحليق في سموات ليس لها مدى، يرفض القيود ويكسر الأصفاد كي ينطلق مغرداً أناشيده وشادياً بألحان الحرية.

فالرجل مسكون بالحرية والمرأة مسكونة بالحياة وإنتاجها ومن هنا يولد ذلك الصراع بين المرأة والرجل، بين الإبداع والتحرر الذي يمثله الرجل وبين الحياة والاستقرار الذي تمثله المرأة، وربما تنبع من هنا أزمة إبراهيم الكوني مع المرأة، (فمن صار له الروح وطناً، لن يكتب له أن يعرف الحياة في الأوطان) كما يقول إبراهيم الكوني، والمرأة لا تستطيع أن تحيا إلا في الأوطان.

مقالات ذات علاقة

ولد بلاد تدق ناقوس الخطر وتشعل شمعة في نهاية النفق

مهنّد سليمان

السخرية في أدب النيهوم

عبدالرحمن جماعة

سراب الليل، العلكة، التي تتأبّي علي الفهم

حواء القمودي

اترك تعليق