لعلنّي سأبتديء هذه المقاربة لرواية المبدع، الكاتب المسرحي، منصور بوشناف، دون كل هذه الهوامش والتعليقات التي أردت لها أن تساعدني في محاولة استكشاف مرامي هذه الرواية، رواية قرأتها مخطوطة، إذ شرفني الصديق منصور بالإطلاع عليها وإبداء ملاحظاتي؟!
كانت تبدو كبيرة بحجم ورق A4، وحين طبعت وأهداني إياها، نظرت إلي حجمها دون المتوسط وعدد وريقاتها 150 ودخلت مجددا عالمها الغريب. وفي ذالك الوقت (عام 2008 لم يكن سهلا المجازفة بكتابة قراءة أو عرض لها، أو حتي الاحتفاء بصدورها، لأنها صدرت عن دار ليبيا للنشر والتي كان مشرفها العام الأستاذ ادريس المسماري أي ضمنيا هي تتبع مجلة عراجين المحظورة في ليبيا والتي كنا نتشاركها سرا وننتظر أعدادها بشغف)، عالم (العلكة: سراب الليل) حين محاولتي استكشاف مساربه يتبدي عالما كابوسيا، رغم أنها تغري بسلاسة أحداثها، لكنها حين الإبحار الحقيقي هي ليست رواية سهلة، رغم صغر الحجم وعدد الوريقات فهي تتحداني. وفي كل قراءة أتساءل عن سر العلكة؟، وأحاول البحث عن صور شخصيات الرواية في الواقع، وربما هذا من الأخطاء التي قد يقع فيها قارئات وقراء الرواية، فمهما كان إتكاء الكاتب الواقعي منصور بوشناف علي زمن محدد، وشروع الكاتب الضمني في استغلال هذا الزمن والمحدد بوقائع، فإن السارد يبتني عالما جديدا، وطريقة جديدة في فهم الأشياء، وربما من خلال القص يتمكن من محاسبة الماضي والحاضر والمستقبل.
إذا صباح الخير فأنا أحاول استكشاف هذا العالم الثري والمخيف حقا، عالم رواية (سراب الليل، العلكة) التي كان اسمها الأول (عاشقان)، لكن لأن ثمة رواية صادرة بهذا العنوان، كان اختيار عنوان (سراب الليل، العلكة) أو (العلكة، سراب الليل).
إذا ثمة سارد رئيسي يمسك بخيوط القص ويحرك شخوص الرواية، يرسم الملامح والأحداث، يتلاعب بالسرد، يخلط الأزمنة، لكن ثمة زمن دائري، وحدث تبدأ الرواية به، قد أسميه بؤرة الرواية، وهذا الحدث يتمسك بزمن محدد، / حين قرّب شفتيه من أذنها كي يهمس فيها، كانت عشر سنوات قد انقضت علي افتراقهما، /، ثمة حدث في الحاضر، فعل الهمس في الأذن، وثمة حدث في الماضي، وهو افتراقهما، وبينهما زمن هو عشر سنوات، / وكان عليه عبر تلك السنوات العشر أن يكابد ألاما لاحد لها، وأن يئن تحت وطأة احساس ثقيل بالفراغ /، لكن جملة تكررت خلال صفحة واحدة ثلات مرات، جعلتني أتساءل، يبدو أنها هي الحدث الرئيسي والأهم، / ظل يراها وهي تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر تحت المطر لعشر سنوات / ثم يعيد الجملة بتركيب آخر / ولكنها ظلت تبتعد، يرف شالها الأحمر وشعرها الأسود علي كتفيها / ثمة إضافة للون الأسود، وهنا هو / الشعر الأسود /، ومرة ثالثة يكرر السارد هذا المشهد /وظل لا يري شيئا عداها وهي تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر تحت المطر (ص 5)، ستتابع أحداث الرواية وسيرسم السارد المشاهد، سينقلنا عبر الأحداث، والزمن، والشخوص، ولكن هذه البؤرة ستظل أثيرة، وكأنها هي نقطة الدائرة، / كانت تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر وكان معلقا بإبتعادها ومتسمرا تحت الشجرة وسط الحديقة (ص 13)، وسيعبث الروائي / المؤلف الضمني /بالرواية، سيشاغب السارد الأول محاولة في فكّ خيوط الرواية من يده، لكنّ الرواية ستمضي في سياقاتها ويمسك السارد بخيوطه ويقسّم الرواية إلي فصول، ولكنه يمنحها أسماءا، أسماء شخوص هذه الرواية، لكنّ الروائي استقطع وقتا ليخبرنا عن هذه الحكاية، الجملة التي أخذت حيزا مميزا في بداية السرد، (ولكن ما القصة؟) وسيخبرنا هذه القصة العادية، عن شباب جامعي يلتقي، / كانوا ثلاثة أولاد وثلات بنات (ص 10) ولكن مستوي القص سينحني، فثمة شعلة نار / إنه فعل التفتح، فعل الخروج من تخفي الطبيعة.. والوصول إلي التناغم وإلي الحب …./** (كانت تقوده إلي الحديقة ليجلسا هناك، وكان يقودها إلي المتحف حيث بإمكانهما الاختباء خلف الثماثيل الرومانية / ص12، وسيجد ذالك التمثال / كان تمثال امرأة يعود إلي القرن التا سع عشر وكان وحيدا وملقي بإهمال شديد خارج قاعات العرض (ص/13)، خلال هذا الصراع بين الروائي والسارد الأساسي سنتعرف علي التمثال وعلي فاطمة ومختار / البنت التي اسمها فاطمة والتي هي بطلتنا كانت ابنة عائلة متوسطة،.. أما الولد واسمه مختار فقد كان ابن عائلة كبيرة عرفت لذائذ السلطة والأموال (ص 10)، أما التمثال فسيكون هو الشخصية الأولي التي ينحاز لها السارد، فكأن بطلة القصة فاطمة والعاشق مختار ليس بأهمية هذا التمثال الذي يكون مفتتح الشخصيات التي ستنال بركة السارد فيحكي تفاصيلها، وهنا يلتقي مع الروائي الذي يري في مداخلته لرواية الحكاية / كان التمثال يبدو له دائما كائنا حقيقيا بل ربما الأكثر تحققا في المتحف بل في طرابلس كلها!! (ص 13)، إذا ثمة فاطمة الحبيبة الحقيقية وامرأة التمثال / ويحس بذلك الامتلاء العاطفي المذهل الذي يمنحه إياه حضور امرأة التمثال وذلك الفراغ الثقيل الذي يلقي به علي كيانه غيابها بين التماثيل (ص 13).
أما العلكة، فباكرا جدا وردت في متن الرواية، السارد أدخلها إلي عالم الرواية وهو يحكي عن البطل العاشق المتسمر في حديقة الانتظار / أثناء كل هذا كانت البلاد مشغولة بالعلكة (ص 6), ومنذ التمثال مدخل الشخصيات سيقرر السارد أن مختار العاشق /ومنذ تعلقه بها واكتشافه للتمثال قد صاروجودا علكة (ص 21). هكذا ينهي حكاية التمثال الذي قام بنحته سجين ايطالي في سرايا طرابلس.
لن تكون فاطمة هي التالية، الحديقة ستكون الشخصية الرئيسية الثانية، الحديقة التي ستمنح العاشقة فاطمة /فرصة ترتيب المكان /ص23ليست كالتمثال / بنت القرن التاسع عشر، لكنها مثله عبرت مع طرابلس أزمانا وعصورا (ص 24)، تاريخ من القهر عبرته الحديقة لتؤتث حكايا الناس كما التمثال حكاية قهر انساني لسجين، ولكن الغرابة ستأتي من الشخصية الثالثة التي يفرش بها السارد بيت الرواية، كان الأب، والد البطل المتسمر في الحديقة، الأفندي عمر /لم يكن ابن طرابلس مولدا ولا أصلا فلقد جاءها بوليسا نفرا، جنّده الانجليز في الخمسينات وورثه الملكيون بعدهم، (ص 33)وحين جاء (الثوريون) تركوا له مزرعته وقصره وراتبه التقاعدي (ص 34) وستكون فاطمة الحبيبة التي يتسمر بانتظارها مختار العاشق / قد: صارت العلكة تسليتها الأثيرة…، ولم يكن الحصول علي العلكة سهلا بالتأكيد، كان عليها أن تقيم علاقات ماكانت لتقيمها لولا ندرة العلكة (ص 9)، المكر الذي مارسه السارد كان في تلك المفارقة، مرور السنوات العشر، تسمر العاشق بالحديقة، وأما فاطمة / كانت قد احست وهي تغادر الحديقة تاركة اياه بطلنا خلفها بروحها وهي تسيح نزفا من ثقوب احدثها رصاص اطلق من داخل جسدها باتجاه الحديقة (ص 37)، ستكون هي التالية، البطلة (ص 45) كان أبوها موظفا بسيطا يعمل بمصلحة الاوقاف /، فاطمة التي / أدركت أن مختار ظل يفتش عن التمثال فيها، كان بحاجة لصنم، وكانت بحاجة للحراك!! لذا تحركت وتركته متسمرا تحت المطر (ص/47)، البطل سيكون الشخصية التالية، سيمنحنا السارد مفتاحا لمعرفة سر ذاك /التسمر / في الحديقة، مختار الذي ظل مشدودا لمشهد /قبعة أبيه الكبيرة والثقيلة / وبين / سوط أبيه السوداني المتدلي تحت القبعة الكبيرة والثقيلة والذي يشرعه أبوه بين الفينة والاخري في وجهه (ص 53).
امبرتو إيكو في كتابه القاريء في الحكاية يقول: فالنص إن هو إلاّ نسيج فضاءات بيضاء، وفرجات ينبغي ملؤها. وسأعترف أنني أواجه معضلة في قراءة هذه الرواية، ربما للتماس الشديد مع موضوعها، فلايخفي أنني وجيلي عشنا وأدركنا جزءا هاما من حكاية هذه /العلكة / ولاحقنا /سراب الليل /، لذا كلما حاولت الكتابة أصاب بالهلع، وأعترف أنني بكيت، وربما يمنحني امبرتو ايكو بعضا من الفسحة، فأي فضاء في الرواية تركه السارد لي، فأحاول ملؤه بتصورات وتأويل قد يقارب ما أراده، حكاية حب ّ قد تبدو عادية، ولد جامعي من أسرة ميسورة، وبنت جامعية من أسرة بسيطة، سيكون الأفندي عمر هو والد البطل مختار وأمه / رحمة / سليلة امرأة تركية من بحار ليبي، لكن فاطمة البطلة لن نجد كثيرا من المعلومات عن والدها البسيط ولا أمها هي فقط ابنة أسرة / كانت تنتمي للعائلات البسيطة التي انتعشت بقرارات الثورة الاشتراكية وعرفت واستمتعت بالثلاجة والتلفزيون واجهزة التسجيل، وسكنت شققا بناها البولنديون والبلغار والمصريون، وحصل ابناؤها علي فرص التعليم والتوظيف والقروض والتسهيلات (ص 45).
مامعني أن يظل هذا البطل / مختار متسمرا في حديقة لعشر سنوات، وتظل هي البطلة فاطمة تتسكع في هذا الفضاء الهلامي، / لعشر سنوات فارغات طوال، تلوك علكتها، وتنتقل من مزرعة الي اخري، من استراحة لاخري (ص 46)، عشر سنوات، عقد كامل، جيل يتسكع في أروقة العبث، يغترب عن حقيقته، محاولا البحث عن معني لذلك الوجود / العلكة، يتشبت بحلم وأمل، يظل متسمرا، منتظرا من المعني أن يعود، من الحلم أن يتحقق، من الأمل أن يفترش أرض الحديقة لتزهر، ومن تمثال امرأة نحتها سجين ايطالي منتظرة قبلة لاتجيء وجسدها شغف للحياة والحب، ينتظر جيل كامل أن تنهض هذه المرأة التمثال، ليتحقق حلمه في الأنثي المثال، الجيل الذي يتمرد ولكن لا أفق لتمرده، ينكفيء كل مرة، لذا يتسمر بانتظار أن يتحقق كل شيء، وعليها، الأنثي /الضحية، الحلم المهدور، أن تطارد عيشا مليئا بالقذارة، لتؤسس حياة بها القليل من الحب والحرية والعيش الرغيد، / أن تجمع الف دولار علي الاقل وان تسافر لتركيا لجلب حقيبة من العلكة، لتبيعها بما يساوي ثلاثة الاف دولار وهكذا حتي تجمع ربع مليون دينار لشراء بيت وسيارة وكل ذالك كي تستطيع الحياة مستقلة، بعيدا عن الاسرة وتتمكن من الزواج كما تريد ووفقا لشروطها (ص 39-38).
تبدو هذه محاولة جيدة للتأويل، لكن هذه الرواية هي نص، وكما يقول امبرتو ايكو / النص إن هو إلا نتاج حيلة نحوية – تركيبية – دلالية – تداولية، والتي يشكل تأوُّلها المحتمل جزءا من مشروعها التكويني الخاص./ وهذا النص / نسقا من العقد أو المفاصل /، وفي رواية العلكة ثمة عقد ومفاصل كثيرة، وأيضا شخصيات تتقاطع حكاياتها، وتتشابك علاقاتها، ولكنها جميعا تصّب في هذا الوجود / العلكة، ثمة تاريخ يستحضره الراوي، تاريخ الحديقة، التي افتكت من أهلها غصبا، وصارت مأوي للعبث واللهو والخيانة والقهر والموت، ثم تغدو هذه الحديقة البائسة بمقاعدها الصدئة، لكنها تكتسب جدواها ولونها الوردي حين تغدو مكانا يأوي عاشقين، فاطمة البطلة، هي التي كانت تحاول أن تؤتث قصة الحب في حديقة، أن تجعل من ذاك المختار الشغوف بالمتحف وتمثال المرأة شغوفا بفضاء أرحب، حتي وإن كان ملوثا، ، أماكن الرواية مفتوحة، لكنها لا أفق لها، الحديقة والمزرعة التي يسكنها والده / الافندي عمر / والاستراحات التي ستعبرها فاطمة لتحقيق حلمها، جميعها تبدو فضاءات مشرعة، ولكنها تحبس قاطنيها، حتي طرابلس المدينة الكبيرة بشاطئها المترامي، تبدو مجرد سجن كبير، لاحيز فيه، إلاّ حديقة بائسة، ومتحف، وفيلا تسكنها ألام / رحمة / ومسيجة، بمزارع، لم تعد تنتج قمحا وشعيرا وفاكهة، بل خرابا يتناسل وليلا يتسرب ليغتال أي بارقة للنهار.
وهكذا ستكون / العلكة / أحد فصول الرواية، والسارد سيجعلها تالية لفصل /البطل / فكأن العلكة صارت ضرورة حياتية، / وليبيا البلد الاول في العالم الذي انشغل بالعلكة لعشر سنوات طوال (ص 65)، أمّا فاطمة البطلة / كانت العلكة مشروع وجودها الجديد وهي تبتعد بمعطفها الاسود وشالها الاحمر تحت المطر، عنه، بطلنا، وعن التمثال، عن الحديقة والسرايا الحمراء، عن العائلة والقبيلة وتشرع في اللوك (ص 66).
كانت العلكة وطوال عشر سنوات طوال قد تحولت الي سراب ليل ازرق شفيف يطارده الجميع (ص 68)، وسيباغتنا السارد بعنوان فصل جديد / وألوكها وتلوكني / وسنتعرف علي / رحمة / أم بطلنا، مختار، ونتعرف علي عثمان، تاجر العلكة، والذي صار صديقا لرحمة، ثم عشيقا لفاطمة البطلة، والتي لرغبة خفية جاءت به للمتحف ليري التمثال / اللعنة كما تحسه، / التمثال القابع في السرايا الحمراء منذ القرن التاسع عشر، مهملا منسيا من كل زوارها ومن كل العاملين بمتحفها، شكل ومع مرور الايام والشهور والسنوات عنصرا هاما في وجود بطلتنا، رغم محاولاتها للخلاص من لعنته (ص 76).
ثمة صراع بين الراوي، والسارد الذي يمسك بخيوط القص، سيقفز الراوي ليكتب صفحة باسم القصة، وكأنه يريد إنهاء ذالك / المضغ / فيقوم بتلخيصها، ولكن ذالك لم يقنعني، وظللت أواصل المحاولة، وأستكشف عالم الرواية الذي ينسج السارد خيوطه المتشابكة، حيث جغرافية مدينة، وأماكن تعبق بالتاريخ، تاريخ يعود للقرن التاسع عشر ويصاعد في مسيره ليصل إلي ميدان / أدريان بيلت / عراب استقلال ليبيا، والمظاهراة التي لونت حياة الافندي عمر بالفجيعة لأنه اطلق النار علي الطلاب المتظاهرين، وحديقة مرمية علي طرف مدينة ضيقة رغم ترامي مساحتها، وشخوص تتقاطع حيواتها، تربطهم البطلة فاطمة بخيوط العلكة الواهية، فاطمة الذي سرق تمثال إمرأة حبيبها مختار، فحاولت الانتقام، من مختار والتمثال والوجود الذي صار / علكة /.
وسيكون التمثال 2فصلا آخر، سيدعمه السارد بعاشق آخر هو استاذ الاثار، والذي / ترك كل شيء البيت والتدريس والاصدقاء وظل يقف كل يوم ولساعات طوال امام التمثال دون ان يلتفت لتعليقات الزوار والعاملين بالمتحف، بل وصل الامر ببعض العاملين ان لقبوه بالتمثال 2 (ص 97)، وستكون الحديقة 2 غوصا في البحث عن اسرار الحديقة، الحديقة التي / ظل يتسمر بها ’’مختار ’’بطلنا عشر سنوات طوال والتي رغم الاهمال الظاهر، كانت بؤرة اهتمام مؤسسات وقطاعات مختلفة من المجتمع، والتي اعطاها تسمر بطلنا تلك الاهمية، وجعلها مسرحا لتحولات واهتمامات اجتماعية هامة (ص 99) ثم يجيء الفصل الذي اتخذ عنوان الأب 2 لكون الفصل التالي معنونا باسم أم البطل / رحمة /، رحمة التي عرفت، الحبيبة فاطمة وبعد موت الاب الذي تولع بها، أنها أم البطل مختار فتبحث عنها لتحكي لها قصة الحب التي تجمعها بالابن، الابن الذي نسيته خلال تلك السنوات ، تتشابك الخيوط لتلتقي، تمشي في خطوط متوازية لكنها لاتلتقي، فكأن الحضور غياب، والغياب حضور، وهو يتسمر بانتظار التفاتتها وعودتها وارتمائها في حضنه، وأمه رحمة ستلتقي باستاذ الفلسفة، ذاك الذي جعل من تسمره بالحديقة موضوعا فلسفيا، إذا يلتقيان / انها سيمون دو بوفوار العالم الثالت كما بدت له منذ اللحظة الاولي للقائهما، ارملة متحررة طروب، واستاذ فلسفة بحجم سارتر ان لليبيا مفاجآت لايمكن توقعها (ص 137)، وسينهي السارد الرواية، سيغلق الدائرة، بفصل أخير سماه / البطل 2، هذا البطل الذي / لحظة انطلاقها مبتعدة عنه كانت لحظة ادراكه المرعبة للزمن، للاندفاع الانساني نحو النهاية نحو العدم، كان الحب مخنوقا بشالها الاحمر وتتناثر اشلاؤه خلفها، كانت تمضي وكان يحاول التمسك والابقاء علي لحظات وجودها الاخيرة معه قبل ابتعادها تحت المطر (ص 142)، ويعبث السارد بنّا، محاولا أن يخترق جدار الدائرة، مواصلا اللعب كي لاتنتهي الرواية، ولا يكّف عن البحث عن سر الشال الأحمر والمعطف الأسود والمطر، لقد اخترع شخصيات متوالية، الفيلسوف والرسام واستاذ البيئة واستاذ الاثار، وهاهو ليوقف عجلة الدوران، ويفرقع الوجود العلكة، يأتي بأستاذ علم النفس، الذي يعرف بوجود بطلنا، ويأتي ليستكشف عالم التأتأة، وحين تأتأ بطلنا مختار، واقتراب استاذ علم النفس منه وتفسيره النفسي لسر التأتأة، جعلته يحس / برغبة عارمة ومفاجئة للخروج من ذلك التسمر والجمود الي افاق العلكة حيث الحركة، حيث اللوك والصعود والهبوط، حيث هي التي تركته متسمرا تحت الشجرة لعشر سنوات طوال (ص 148)، ولن يكون هذا الخروج من الحديقة إلاّ بحثا عنها، ليكمل تلك الهمسة، ليقترب من الأذن التي انتظرت عشر سنوات طوال، إذا كيف سيخرجنا الراوي من متاهة هذه القصة، والبطل مختار، لم يجدها البطلة فاطمة في الأماكن التي تعرفهما معا / لم تكن بالمتحف ولم تكن بالتأكيد في الحديقة، ولم تكن هناك تحت اقواس الداخلية حيث تعود ان ينتظرها محتميا بالمعمار الايطالي من شمس طرابلس الحارقة ومن مطرها العصي!! (ص 149).
إذا أيّن هي فاطمة… تلك لم تعد هي الحكاية… كانت العلكة تتكدس في الاسواق اثر الانفتاح الاقتصادي وكذلك الشامبو والموز، والمجلات المصورة، كانت البلاد تطوي تسمره بانتصار العلكة (ص 150) وها أنّا أنتهي من هذه الكتابة، نافضة رأسي من كل الضجيج الذي غمرني حين بدأت محاولة الكتابة عنها بعد قراءتها، حين حاولت أن أكتب مخططا للنقد؟!، ووضعت هذه الكتب المخيفة قربي، / الوجود والزمان والسرد(فلسفة بول ريكور)/ القاريء في الحكاية /(امبرتو ايكو) / الرواية الجديدة في مصر، دراسة في التشكيل والايديولوجيا / (د. محمد بدوي) و/ مسرحيات سارتر، الذباب، جلسة سرية، الأيدي القذرة /(ترجمة سهيل ادريس).
إذا وصلت متأخرة كثيرا، وهذه الرواية الصغيرة، ذات المائة والخمسون صفحة، رواية مكتظة، وقد ظننت أنني قادرة علي استكشاف دلالة تلك الجملة التي تكررت منذ الصفحة الأولي وظلت علامة خلال الرواية كلها، / ظل يراها وهي تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر تحت المطر، لعشر سنوات طوال /… لكن اعترف أني لم استطع متابعة الحفر والبحث حولها.
حين يقرأ المرء النص، فإن ما ينبجس أمام عينيه كبؤرة هو مايتحدث عنه النص، مهما كانت صعوبة النص، وهذا هو شأن النصوص في واقع الأمر (الوجود والزمان والسرد).
______________________
طرابلس، سوق الجمعة، الثالثة صباح الاربعاء، 2 نوفمبر 2016م
نشر بموقع ليبيا المستقبل