1
حين وصلت بنغازي سنة 2012 كان كل شيء قد غدا باهتاً.
نزلت عند خالتي في منطقة السلماني الغربي. على مبعدة صغيرة من جزيرة الجرات. كان الهدوء داخل الأزقة يعيد لذهني الصمت الذي كنت أحسه داخل غرفة بركاى، قبل ست سنوات. لأني وصلت متأخراً في الليل حوالي الساعة الثانية صباحاً. استقبلني ابن خالتي على الطريق، حيث نزلت من حافلتي الفيتو المتوسطة، معي حقيبة ثيابي وحقيبة كتف فيها أوراقي، كل زادي المستقبلي. كنت أشعر بالنعاس يلقي بي في متاهات دائرية فيما أنا اقف منتظراً وصول ابن خالتي على الرصيف. رأيت نجمتين كاذبتين في سماء الشارع وراء الغيوم. الأضواء الكابية، خلقت جواً من الألفة الغريبة. أنحنيت مراراً لأحمل أوراقاً متساقطة من أشجار النم. ألفها وأكتب عليها أرقاماً ثم ألقيها في الهواء. متتبعاً بعيني أثر الضوء البرتقالي المنسكب على الطرقات. نصف ساعة كاملة مرت حين رأيت خيال ابن خالتي يلوح من بين أوهامي. كنت قد لففت ما يقارب العشرين ورقة، كاتباً عليها تواريخ وذكريات لا شك ستضيع قبل أن تشرق الشمس.
” تبدو تائهاً يا شاب، أتريد مساعدة؟ “.
بالرغم من مزاحه كان النعاس ظاهراً في عينيه. هو ليس بأفضل حال مني. لغته التيدغا بحالة سيئة جداً. ابتسمت وأنا أضع حقيبة كتفي.
” أتظن؟ “.
تصافحنا بحرارة من يستيقظ عند الثانية صباحاً، ليرشد شخصاً لبيته. أصر على حمـل حقيبتي سرنا بهدوء في ليل بنغازي. السماء تعد بالأمطار، فقد اختفت النجمتان وصار الهواء أكثر برودة وثقلاً. خطواتنا تصدر صوتاً مكتوماً، تنفست بعمق محاولاً أن أتذكر شيئاً ما عن ابن خالتي الصغير. هالني بأني لا أذكر شيئاً عنه يمكن أن أتحدث حوله. اكتفيت بالإبتسام والنظر إليه. شكله بدا لي أكثر ذكاء، في عينيه شيء لم أستطع تحديده. بالرغم من كلماته المضحكة قبل قليل، لغته التيدغاء. إلا أن الصمت أعاده ليبدو كشخص يمتلك مساحة احترام فعلية، لقد فرض ذاته. ثمة لحية صغيرة نابتة في ذقنه، مكنتني أن اتذكر بأنه في الواحدة والعشرين بلا شك. يصغرني بسبع سنوات تقريباً . جسده أكثر امتلاء مني، أطوال بعدة سنتيمترات. استطاع حمل الحقيبة من مجهود ظاهر، أعجبني فيه أنه التزم الصمت طوال سيرنا. أثناء نومي لاحقاً استطعت أن أرى منه جانباً أسعدني. لم تفارق الابتسامة الخفيفة وجهه مطلقاً. هل كان يتذكر أمراً ما عني؟ حين غادروا الكفرة – تازر كان لا يزال في الرابعة عشرة.
رأيته بعدها لمرة واحدة أثناء زيارتي لبركاى.
وصلنا البيت بعد سير نصف ساعة. كنت قد نزلت في المكان الخاطيء أو أن سائق الحافلة لم يرد أن يأخذ انعطافة طويلة، أنزلني في أقرب مكان صادفه. ربما لهذا يبتسم حمدي. في البيت دخلت على رؤوس أصابعي. بحثت عن فراشي، تمددت بهدوء لأنام، مقنعاً حمدي بأني لست بحاجة لشيء. كان ثم ألم يعلن عن نفسه في جنبي، في الجهة اليمنى من صدري، استلقيت على بطني في الظلام، ضغطت براحة كفي فوق منطقة ألمي. حلمت مستيقظاً ببقايا حلمي على الحافلة حين كنت أركض متتبعاً طيفاً غريباً كان قد ابتسم لي في الصغر. لمْ أفهم لمَ كنت أركض بتلك الجدية؟ لأي سبب كنت أهتم لأشياء صغيرة بلا معنى؟.
” للظلام راحة غريبة، هل تعرف ذلك؟ “
سمعت هذا وأنا بين اليقظة والنوم, كان حقيقياً جداً إلا إني كنت أعرف بأن الأمر ليس سوى حلم أخر. تقلبت قليلاً، عدت كما كنت. ضغطت بشدة على جهة اليمنى من صدري. أحسست كأن سكوناً أسطورياً يغزوني ببطء، لأنام.
لم أكن نائماً.
التذكر الدائم، الماضي.
كنت أحيا مجدداً ذلك الألم.
2
” أتظن يوماً بأننا سنصل يوماً؟ “.
” أعتقد، أنا سأصل “.
كان ثمة طير يحلق في الجوار. دائماً يحلق بجوارنا. الأفق الرملي يلوح هادئاً. أنا أقف هناك الآن حيث لا مكان. أنظر بثبات لعالمي القديم . أسير محاولاً إيجاده. اسمع صوته، فقط. لا شيء أخر، فقط، صوت.
” ما أعرفه عن العالم قليل جداً، أود أن أعرف أكثر “.
” ماذا تريد أن تعرف؟ “.
” ما يعرفه أدم أنري، أدم يعرف الكثير “.
” تستطيع أن تتعلم منه “.
” يقول لا أحد يتعلم من الآخرين عن العالم، لابد أن نعيشه “.
كثير من أوراق في الجوار. يحدث أن أصل إلى إحداها. أشعر بأن أمراً كبيراً قد كتب فيها. أحاول أن أقرأ. هل أفعل؟ لا أتذكر مطلقاً.
” لا أستطيع قراءة الأوراق، إقرأ لي ما كتب “.
أشعر بأنه ينظر إلي. هل هذه عيناه؟ يتطلع مباشرة في الورقة التي أحملها. أشعر بالغبطة الشديدة لأنه فعل. أردت اخباره بأني الآن في بنغازي وأني أقتربت منه جداً.
” أنا في بنغازي “.
” أعرف “.
” تعرف؟! “.
” أنت في بنغازي، أنت دوماً في بنغازي “.
” ماذا؟ “.
” كنت دوماً هنا “.
” لكنني لم أتِ منذ خمس سنوات “.
” أنت لم تغب منذ خمس سنوات “.
كنت في لقاء صغير. دائرة تعمل على تكرر أفكاري. هل كتبت هذا يوماً؟ هل نسجت شيئاً من هذا الطراز؟ رفعت قلمي وأنا أفتح دفتري.
” اقرأ لي ما كتب في الورقة “.
” لا أستطيع “.
” لا تستطيع، أنت من كتبها “.
” أتصدق أن قلت لم أعد أفهم خطي؟ “.
” لا “.
” لم أعد أقرأ “.
سحبت الورقة منه محاولاً أن اقرأ مجدداً ما جاء فيها. كانت تلوح مضيئة جداً. أشعر بألم في عيني من شدة الوهج.
” غريب هذا الضوء في هكذا ظلام “.
” لا شيء غريب “.
” لكنه لا يبدد الظلام “.
” ظلام؟ “.
” أجل، ظلام، لا يبدده “.
” أنظر “.
كان هناك شخصاً يقترب. أعرفه أو هكذا أشعر، بالألفة. تذكرت بأني شعرت بها مؤخراً قبل أن أرى عمود النور. ضوء برتقالي حزين منسكب على الأسفلت، الضوء يجري مع المياه إلى المجارير. حين سمعت وقع الأقدام رأيت أدم أنري، ينبثق من الظلام.
3
صباح التالي.
فتحت عيني على غرفة مترامية، بسيطة، بطانيات مركونة عند الزاوية، خلف الباب. فرشات أرضيـة موزعة بانتظام، رائحة الليل عالقة، فيما ينفذ الهواء الصباحي بخفة من الشباك المواراب. جلست على فرشتي مبعداً بطانيتي، قليلاً. تذكرت لوهلة شيئاً من الحلم. سحبت حقيبة كتفي، أخرجت دفتري الأسود، بدافع العادة، فتحته، حاولت أن أخط ما رأيت، فشعرت بأن الأمر مشوش في ذهني.
رتبت أموري بسرعة، استحممت، غيرت ملابسي، لبست تي شيرت ذي أكمام طويلة، جهزت جاكيت جلدي، بني اللون، كان لوالدي، متين من العصر الأقدم – السبعينات، سروال جينز دون أن أنسى الجوارب الثقيلة.
على مائدة الفطور الصباحي, كان حمدي يلوح منشرح الصدر. ما أن جلسنا حتى خرجت علينا خالتي. في منتصف الأربعيناتها، تبدو رشيقة بالرغم وزنها الزائد قليلاً، على دأب سيدتنا الليبيات ربات البيوت. لفت حول نفسها عدة أقمشة مختلفة الألوان، لكن متناسقة. كانت تحيتنا مطولة ومعززة بالأسئلة كثيرة عن الأحوال والماضي، استغربت قطيعتي لبنغازي. كنت أرد عليها بانتظام محاولاً أن لا أشرد أو أتذكر أموراً تؤلمني، لكني ربما شردت لمرتين، قامت خلالهما بإرسال عدة كلمات مؤلمة عن صحتي، نحولي، عدم سؤالي عن الناس. كانت تظن بأني معتزل ولا مبالي، تهمة لم استطع أبعادها، لكنها بمهارة أعلنت بأن شبان الجيل الجديد، جميعهم على نفس الحال من النكران، طلبت من الله أن يهدينا. دائماً بلغتـها الرشيقة الأنيـقـة شعرت بالألفة الكلمات تحوينا معاً بالرغم من عنفها.
أفطارنا كان رائعاً، الكثير من الفطائر المحلاة والشاي، بالإضافة لحبات الزيتون المنزوعة البذور، كانت مدهشة وذات طعم ساحر مع الفطائر، الحليب الممزوج بالشاي الصيني مع وريقات النعناع الفواحة، وعدة بيضات مسلوقة، الخـبز اللين الرائع. أكلت بهدوء على مهل مستمعاً للأسئلة المتخللة بالحث الدائم على الأكل. متابعاً ابتسامات حمدي المتواطئة مع الخالة. كنت أشعر بالجو الطبيعي لبيوت الصحراء داخل بنغازي – المدينة.
كان كل شيء مثالياً، لم أقضى صباحاً مماثلأ منذ سنوات عديدة، حين كان والدي يجالس أبناء عمومته حول كانون الشتائي، وشطائر العسل الممزوج بالزبدة الذائبة، فيما يذهب السمـر بشكل سلس نحو أحاديث عن تواريخ بعيدة، حيث كان ثمة رجلأ أردى بثلاثة وعشرين شخصاً لأجل خيبة مؤلمة اسمها العشق. كنت أحمل تلك الذكريات في جانبي المظلم انتبهت فجأة، وأنا أحدق في وجه خالتي الأنيس، المصرة على السؤال عن الجميع.
أحاديث عن الكفرة عبر كل العصور.
نعم، تماماً، دائماً ما يحدث هذا. هناك من توفي كما أن هناك من تزوج . جدي، أجل، جدنا أيضاً تزوج قبل أشهر. هذا ما وصلنا من غربته البعيدة، تزوج من فتاة تصغره بثلاثين عام. إنه يقدم على أمور جنونية، كان يجب عليه أن يرتاح، أجل، كان يجب. لكنه هكذا يشعر بأنه في عمق راحته، الزواج من صغيرة، يمنحه ما يشغل نفسه ووقته بأشياء حقيقية. هزت خالتي رأسها غير راغبة في التبرير. لكنه طلق جدتك. جدتي، لقد طلق جميع نسائه، العجائز، عجائزئه، جداتنا. إنما هذا لا يعني شيئاً، فجداتنا مستقلات بشكل كامل في عوالمهن الغريبة. هل قلت هذا في حضرة خالتي صباحاً؟ كان حمدي يستمع إلينا بصمت قلق. في عينيه تلك الرغبة التي اعرفها جيداً، كأني أشعر بها تحيط بنا، أنا وخالتي. دفء طاف في أرجاء الغرفة، في اللحظة التي نسيت فيها نفسي سابحاً في جو روحي، كنت في لحظة عميقة من الاسترخاء. كل ما في حياة جدتي هي أحفادها، الصغار الذين يملئون وقتها. كما أن كل واحدة من العجائز وجدت ما يلهيها عن الوحدة. أراقب كل شيء أحياناً فأستغرب من النجاح الذي أحرزنه، فالجدة دوكني قررت أن تحفظ كتاب الله في أخريات حياتها، كانت أمية لا تعرف الألف من النقطة، الآن تحفظ حتى سورة يس، من المتوقع أن تكمل الحفظ في مدة وجيزة، أما الجدة بيلا فقد التهت برعاية نباتاتها الزاحفة والموالح والمانغا، لا تسمح لأحد بتناول الثمرات، أبداً، لا أحد يفهم الألم، الأفظع من الزوجة الثانية، هو الطلاق بعد عقود، ليتزوج من صغيرة. كان الأمر مرهقاً، كحمل ثقيل ومربك. تغيرت حياتهن رأساً على عقب، الوحدة ليست البقاء وحيداً فقط، قد تكون عدم ايجاد شخص يستحق التفكير حوله. شخص أكثر من الأبناء والذات. رأيت في أعين جداتي ما أحزنني كثيراً. جدتي أستغرقت في ملاعبة الأطفال وتسخين المياه في صباحات الشتاء الباردة، لنجد ما نتوضأ به دافئاً، تعد الطعام بحب شديد كما تعتني بعريشة العنب، مطلقة دعابات ساخرة من كل شيء. نحب تلك الدعابات، الآن اظن بأنها كانت موجهة لمهاجمة واقعها الخاص. إنهم يرهقونها بالعناية بالآطفال. هكذا قالت خالتي قاطعة سلسلة أفكاري. نظرت إليها باسترخائي العميق، أنا انظر في عينيها الرائعتين بدت لي أمراً حسنا في حياتي، لولا جمود مشاعري عند سطح جلدي من الداخل، لكنت أقتربت منها ملامساً دفء جسدها الأربعيني.
الأمر نافع لها، جدتي بحاجة لمن يمليء وقتها. قلت ثم مرت دقائق خالية من الكلمات كثافة لامرئية.
” وأنت لم كرهت بنغازي؟ “.
سألت خالتي، تطلعتُ لحمدي، وقلت:
” لم أفعل “.
فقال حمدي بسخرية مضحكة:
” كان يأتي لبركاى، الآن لا بركاى “.
لمع ذلك في صدري، حنين. نظرت إليهما وأنا أطرف بعيني، لقد أخطأت في ردة فعلي. رسمت ابتسامة بلهاء واكتفيت بالصمت, لم يلحا في الأمر. قامت خالتي وقالت بأن جميع أبنائها في المدرسة، أنهم لن يعودوا قبل الواحدة. كان هذا تنبيهاً لي، فأنا لم أسأل عنهم، شيء غدا واقعاً في حياتي، عقلي، ذاكرتي لم تعد صالحة للعادات الإجتماعية، واصلت ابتسامي، سحبت فنجان الشاي، رشفت منه، كان ساخناً بعبق النعناع الجبلي.
4
رافقني حمدي.
كانت وجهته محل في بوهديمة. أخذنا معاً حافلة المتجهة ناحية الليثي. إنزويت في المعقد الخلفي، سحبت النافذة قليلاً، تاركاً روحي لتبرد بفعل التيار الثلجي، جلس حمدي مع السائق وغرقا معاً في أحاديث عن الكتائب العسكرية، الساعة العاشرة والربع صباحاً، الطرقات مغسولة بمياه الأمطار الصافية ثم أخذت تختلط بالطين، في الليلة الماضية كان هطول المطر عنيفاً، هدير قاسي اخذ يصفع كل شيء في الخارج، الجدران، الأشجار، السيارات التي تـركت مركـونة أسفل النوافذ. كان الجو شبيهاً لما حدث عام 2006، أحسست كأن الزمن لا يزال متوقفاً، بالرغم من التغيير الواضح في كل شيء، فقد ظل أمر ما يمت بصلة لسنة 2006. معالم باهتة لمعركة سرية قامت عبر طرقات بنغازي وضواحيها، المنسدلة بغلالة سحرية. بدأ ذهني يعاود وجوده الحقيقي كفعل مقدس، التذكر الدائم بالرغم العطب، البحث عن الماضي بإرهاق. أردت ان أوقف الكبد فبدأت بمشاهدة واجهات المحال المتراجعة بلافتاتها المطفأة، السيارات الواقفة عند أرصفة الطرقات بلوحات ذات أرقام متداخلة، في نطاق شارعي ضيق ظهرت اختناقات مرورية خانقة بسبب مياه المتجمعة والمحال التجارية الكبرى، عشرات الرجال يتبضعون لمنازلهم، أشجار الدوم العملاقة متدلية سعفها الكاذب بحواف بنية وجذوع قوية، ضخمة كأرجل الفيلة، مصطفة في شوارع تحت وطأة أغاني الراب، لم يكن ما يظهر عنفاً، مؤخراً صار العنف هو كل ما يظهر، سنة 2006 كانت موسيقى المروكية روح الشارع في بنغازي مع موسيقى الراي، يبدو أنها تركت الساحة لعنف إيقاعات الراب. ثم غدت مكتظة بما يشابه تشكيلات جديدة لعصابات مشوشة، تبحث عن نفسها. الشمس الصباحية ضعيفة وراء الغيوم العابرة غير قادرة على كبح صوت الإيقاع العنيف. لعنات متتالية لكل شيء، لأي شيء بلا توجه معروف، القوافي والكلمات القذرة تتبعثر كزجاج متكسر. أخرجت دفتري الأسود من حقيبتي، دونت ما بدا لي مألوفاً، غارقاً في الزيف. كلما اقتربنا من جسر الحديدي الإزدحام يزداد.
أعدت الدفتر إلى الحقيبة.
أعدت عالماً كاملاً غير مرتب.
بحثت عن تلك الجلسة القديمة في حافلات الربع – زاد سعر جولتها لنصف دينار – عبثاً، لا أجد مطلقاً، تلك الجلسة، غضب بسيط تسلل لصدري، لم أعرف إن كان الأمر بسبب الإزدحام الصباحي أم بسبب الإيقاع العنيف؟ أغمضت عيني وشرعت بتذكر الماضي، كانت الأمور خشنة جداً في البدء، خطواتي غير واثقة، وجودي، رائحة التبغ، توقفات الحافلة مراراً لراكب صـاعد أو آخر نازل. أشعر بوقع خطواتهم الغير الواثقة، سرد القصص الخيالية عن معارك قاسية، عن الشخص الذي تم فرمه، حكاية الجندي الأمريكي والآخر الفرنسي، بطولات مرعبة في حروب الصحراء وإلتفافات كان قام بها أتاتورك قبل قرن كامل، الدوريات الأمنية لكتائب القذافي وهي تختطف، الطابور الخامس، مقتل أحد العقداء، اختطافات علنية، سوء تفاهم، توترات في الجنوب الشرقي. تركت حكاية الشخص الذي أرسل البلدوزرات لمصراته وغرقت في حكايات قديمة، قبل الثورة والمعارك، حين كانت الحياة أكثر خطورة في ظل السلام وشح السلاح. سمحت كالعادة بألم في جهة من صدري، لصوت المحبوب في خيالي، أن يتكلم بإنتباه، كان وقع الراب يرتب وجود شيئاً ما، دفقات عقلي من الدم، أثر بسيط ما يزال موجوداً، أثر لا يمكن أن يتغير، لا يمكن.
تذكرت.
أسهبت في التذكر،
كانوا يقولون، لا تسهو، لا تشرد،
لكنني أسهو وأشرد،
أواصل الشرود.
5
مع بركاى.
مرهقاً كنت، اتبعه بصمت عبر أزقة بنغازي. لقاءاته المتتالية بأناس غرباء، مختلفين في المقاهي والحدائق العامة، خلال سيرنا عبر الأزقة، تساءلت مراراً إن كانت لقاءات مدبرة. قبل سبع سنوات، عارضاً عليهم كتاباته – مقالات، قصص قصيرة – مطعمة دوماً بالسياسة، كان عاشقاً لتلك اللعبة، أن يذكر أسماء لشخصيات عامة، من مدن عدة، طرابلس، بنغازي، الجنوب، باب العزيزية، كلها في نطاق ساخر، أحياناً مبالغ فيه. داخل مقهى – السويداء خلال احدى اللقاءات مع مثقف أربعيني، بشعر معدني في ناصيته، كاد ينهار، لوصف بركاى لإحدى الشخصيات، وصف مهول، كأنه يتحدث عن الذات الإلهية، رأيت فنجان القهوة يرتج في يد الأربعيني. حدقتا عينيه تتسعان، إيمانه في خطر، أردت أن أوقف جنون صديقي، حين قاطعه المثقف بحركة من يده، حركة تعني فقدان الصبر المطلق. كأنك تتحدث عن الرب. أدار بركاى وجهه لوهلة ناحية البوفيه، كان المصري يراقب بصمت ما يجري، كان صديقاً بدوره. شرع بعدها بركاى يتحدث بإسهاب عن التشتت المقدس، احدى أكثر افكاره غرابة، وعدم النفع لأي شخص. حاولت جاهداً كالعادة أن ألتقط كل شيء، كل كلمة، كل فعل، وجملة مركزاً على لحظات الذروة التي يحب بركاى نفسه بتسميتها بلحظة الهيوليودية، مليئة بالمشاعر، حيث تجتمع كل الأفكار في جمل قليلة، ليست بليغة بقدر ما هي صادقة. أثناء حديثه بدء يقلب فنجانه، ثم قلب فنجان المثقف، ببطء مواصلاً حديثه:
” كان كلاً واحداً، طوال مئات العقود، ثم حدث أن غدا معروفاً ومهماً، ذو رهبة قادرة على التحكم التام، بالرغم من الآجل، ثم تقاسم رهبته الكثيرون، صار له خلفاء، حماة في الطرقات، مدججين بالأسلحة، رعاة، أنصار، جمعيات سرية مغرقة في القدم، حاكمون بإسمه بتصرفات غريبة، متصوفون، باحثون، ذوي نوايا حسن، عارضين للجمهور عن مدى رحمة المقدس، تقاسموه، هكذا بكل بساطة، الخوف جعلهم يضعونه في قوالبهم، حدث الأمر في العصور القديمة لكل ما هو مخيف، كرسومات الكهوف، تحول المقدس لشيء مشاع تقاسمه جميع هؤلاء، تشتت، حتى حاكم السياسي، صار يحمل صفاته “.
خلاصة فظة لحديث استمر لنحو ساعة و نصف الساعة. خرج منها المثقف بكلمة صغيرة ” الأدب لا يبيح الكفر ” تراجع بركاى على كرسيه في مقهى السويداء. قال بصمت كامل، هدوء يتميز به إلا حين يكون منتصراً ” لا الأدب لا يبيح، لكن الدين يفعل، السياسة تفعل، حتى بيع الخضار في السوق يفعل، أن يحق لك فعل الكثير، كنوع من الامتيازات “.
ابتسامة عابرة، قلب فنجان قهوته.
” أقلب فنجانك، ساقرأ لك “.
قلبه، مرت دقائق وهو يتابع الخطوط المزعومة. تابعته بهدوء، خلفه تماماً، كانت النادلة المصرية، تمشي وهي تضم رجليها بشكل غريب، تقدم الطلبات، تبتسم بخجل، كانت جديدة في العمل، بها مسحة جمال، شيء أثير، شعرها المنسدل بخطأ لذيذ على جبينها، ممتداً في خصلة رقيقة ما بين عينيها، أنف دقيق. كل شيء مشابه لكل شيء، لحظات تتكرر مراراً، نشوة في الكلمات، كأنها حدثت في السابق، تحدث مراراً.
المقهى شبه خالي، وقت المغرب، كنا في وسط الصالة الثانية، على مبعدة منا رجل يدخن أرجيلته، بشرود واضح، كرشته منتفخة، بشكل مزعج، أنبوب النارجيلة ملتفة في جزء منه، على بطنه، فقد الكثير من شعره، بدا أمر هائلاً في الضياع، صورة مثالية للمواطن الليبي، حين يبلغ خمسينياته بكد، شعرت بقذارته الروحية، فيما أنا أراقبه لوهلة.
” لا شيء هناك، لا شيء لقراءته “.
قال بركاى، باستسلام، واصل الرجل ابتسامه، متطلعاً لساعته. ودعنا ثم أنصرف، استند بركاى على كرسيه بهدوء، خلل بأصابعه شعر رأسه، نكشه مراراً، كأنه يوقظ شيئاً ما، ثم ضغط بشدة على جبينه، اقتربت النادلة المصرية، حاملة، كوبي شاي، وضعتهما على الطاولة، شكرها بركاى، تطلع في وجهي، لم يتكلم، لم يشرح شيئاً، شرب شايه وتركني أتطلع لشاشة الموضوعة على الجدار، كانت كبيرة – 50 بوصة، غريبة في ذلك الوقت، تعرض فيلماً وثائقياً عن الإفتراس. فهد منقط يركض بشدة، الكاميرا، بطريقة ما تسبقه بسرعة، مذهلة، أحياناً أمامه، أحياناً خلفه، في لحظات تركض بموازة معه، تظهر أدق عضلات المفترس، التقلصات، التوترات، دائماً تظهر التصميم المرعب في عينيه، لا أحد يود أن يكون عدوه بهكذا تصميم، الأعشاب المصفرة، بعيدا، تلوح كأنها كثبان رملية تائهة، السافانا بدت بدورها مألوفة، جداً.
“ما بك؟ “. فتحت عيني، كان بركاى يتطلع في وجهي، بإنتباه.
” لا شيء “.
” تبدو شارداً “.
صمت مجدداً، هززت رأسي.
” يعجبني شرودك. قال بركاى. ثم اضاف: تلوح رائعاً، كشخص يقرأ في الجوار. ثم سألني أغرب سؤال هل راقبت شخصاً يقرأ بجوارك؟ تغضنات وجهه، استغراقه الممتع في القراءة، الهدوء الذي يشيعه، الرهبة البالغة، أمر مسكر، أحب أن يكون بجواري من يقرأ دوماً. ارتشف من كوب الشاي وقال:
” تفكيرك كان مشابهاً، كما إني رأيتك تراقب ذاك البائس، يدعى حسين، سائق تاكسي، فقد سيارته في حادث مؤسف، كان هو سببه على الطريق الدائري الثالث، دفع الكثير مما جمعه، لإبنته الجامعية، طالبة طب الأسنان فبدأ يقضي أغلب وقته هنا، مشكلته بسيطة جداً، لكنها مدمرة، مصدر دخله الوحيد، بعد إبعاده عن الجيش لسبب لا يود الحديث عنه. إن النظر إليه، معاكس تماماً عن النظر لشخص يقرأ، هذا لا يقرأ، بل يغرق عميقاً في دوامات مؤلمة، مدارات لا نهاية لها، تفتح مئات الأبواب والمسارب، إحذر أن تقع فيها، كما فعلت الآن، بالرغم من شرودك الأنيق إلا إنك ما تلبث أن تفقد السحر”.
ابتسم بهدوء، تطلع في الأرجاء ثم قال:
” أربط نفسك باللحظة، بكل قوتك، لا تشرد بألم “.
كان ذلك قبل سبع سنوات كاملة.
منذ تلك السنوات وأنا لم أكف عن الشرود، التخييل والتفكير محاولاً تذكر كل ما حدث، كتابة دائمة، في تازر، سبها، مرزق، طرابلس، حتى وأنا أعبر المتوسط الأبيض تجاه فرنسا، كنت أكتب بشكل محموم، ألغيت جميع واجباتي، جعلت من نفسي شارحاً لحياته.
لمن؟
لماذا؟
لا أعرف.
اكتب أحياناً لساعات متتالية، قد تصل لست عشرة ساعة، فأشعر بجفاف في كليتي، بجمود مؤلم في عيني، أتذكر مقولة لموراكامي عن قوة البدينة الواجبة للكتابة، أنهض بتعب، أغسل وجهي متطلعاً للمرآة فأجد، شخصاً مرهقاً، بأنف حاد، أتطلع مباشرة في وجه جدي، بركاى، ادم أنري الشيخ هامشيمي، كلهم معاً، مزيج سحري قاتل. المـاء يقتل احساسي بالحزن، استحم لساعات، كل الخيبات تذوب، تتسرب مع المياه إلى المجارير، اتخيل، اتمنى أن تذوب الوحدة عن قلبي، أن تتفتت كما قال الطفل عن القذافي، كالعشب الضار. لكن الأمر لا يحدث، أستلقي بهدوء، ناظراً لشيء ما خيالي، دوماً أنظر لشيء خيالي، لصديق خيالي، تفتت مع الزمن، كالعشب، لكنه لم يكن ضاراً بالنسبة لي، كان شيئاً مني، من عمق ظلماتي.
حزني يتمثل في كتابتي عن صديقي، الحي في مكان ما، المتشبث بالحياة كما كان دائماً، أكتب عنه كأنه أسطوري.
أمر لم يقع، أو مبالغ فيه.
سنوات كاملة قضيتها في البلدة، الكفرة، أنا أرى جميع ما تحدث عنه يحدث، الانسلاخات الهائلة لمعضلات سياسية، انقسامات، ولعه الشديد بالإنقسامات، يخبرني على الدوام بأنها أكثر ما تميز، حياتنا الخاصة، على مدى الأعوام، منذ قرر شهاي أن يضع قوانينه الشهيرة، مروراً بالمراكز السرية، لتجمعات شبه دينية، وحركة المافيا في الصحاري الليبية، حتى أعماق البلدان أخرى كمصر، الجزائر، السودان وحتى أطراف أفغانستان، كان مقتنعاً بشكل كامل بأن العالم مقدم على تغيرات كثيرة.
لم يكن مهتماً إلا بجانب واحد، منها. يرى بأن التغييرات السياسية لا تمت لنا بصلة، كوننا لا نملك طموحاً سياسياً، عرفت بأنه يسعى لقول شيء، لفكرة ما تلح عليه، لا يتكلم عنها عادة إلا في نطاق محدود، كلمات منمقة، بعيدة كلياً عن الواقع.
” إن كنت تود، حفظ اسرارك، فإمنح أسراراً مشابهة لها لأصدقاءك، كي لا تفقد السيطرة على نفسك وتتحدث بشكل كامل “.
أخبرني بهذا، لكي أشك في جمله، دائماً، لأظنه خيالياً، رافضاً لكل شيء، لمجرد المتعة. كنت قد وقعت في فخه، ظننته كذلك، بالرغم من إني لم أتوقف لحظة، عن متابعة كتاباته، مخطوطاته التي على هيئة سير شخصية، مئات الأوراق التي وجدتها في غرفته المترامية التي أطلق عليها تسمية – ملجأ اليتيم متشبها بماركيز، عشرات الدفاتر السوداء المتسلسلة بحسب التواريخ، الألوان، المواضيع، الصور، أبحاث بلا منهج محدد، المنهج الوحيد الذي يؤمن به هو التأمل المجرد، المراقبة وتدوين كل شيء. دَوَنَ حكايات نسيتها، أساطير، أشعار قديمة، قصص قصيرة، محاورات طويلة مع قضاة، سياسيين سريين على متن الحافلات الليلية، كتاب مثقفين بلا انتاجات كأناس عاديين، كلها– الحوارات مرتبة بشكل مهووس بحثاً عن شيء ما، مجهول وسري.
” كلها لك، ملكك الآن، استمتع “.
الوقت يتسرب، حركة خفيفة، أرتجاج عميق، ارتحت مستنداً إلى الوراء، فتحت عيني. نمت لوهلة في قلب الازدحام، الحافلة متوقفة في وسط الطريق، اختناق مروري يبعث على اليأس، بسبب المحال التجارية، ضيق الطرقات، العشرات من السيارت، مركونة بشكل عشوائي، بالقرب من جامع البدرية بمآذنه الأنيقة، أغمضت عيني، بشيء من الضغط، فتحتهما متنهداً بعمق. حرارة كالصهد في كبد الشتاء، إلى الأمام قليلاً، ثمة مفرقان يصبان مزيداً من السيارات، إلى الطريق الرئيسي، فيما واصلت الكثير منها بالتوقف لدخول المتجر، بشكل عشوائي. كان الإزدحام مرهقاً، اغلقت نافذتي، راقبت راكباً قطع الطريق، صعد الحافلة المحتجزة في وسط الطريق المزدحم. اقتعد كرسياً وشرع يتحدث بصوت عالي، عن أشياء عدة، لاعناً كل شيء، قال بأن بنغازي غدت لا تطاق بسبب الإزدحام. في حوالي الثلاثين، متبن الجسد، أرخى شعره حتى كتفيه، يلف شالاً فلسطيناً حول رقبته، ملابسه الضيقة، تبرز مدى قوته الجسمانية، قال بأنه قاتل منذ بداية الثورة، رافق الثوار الأوائل، حتى رأس أنوف، غضبه مبرراً، لكن الوجوه الأخرى تحدق بصمت، غير مصدقة. تحركنا ببطء، إلى الأمام، فيما قام السائق بإطلاق سيل من الشتائم لسائق آخر، اتضح بأنه رجل مسن، بدا وقوراً. اتخذ ناحية اليمين أكثر، مبتعداً عن الرجل المسن وسيارته المرسيدس، اقتربنا من مبنى ذا سور بني اللون، مدرج بعناية بالغة، تقف ورائه عشرات الأشجار، المنتصبة بثبات مريح، تعلو حتى الكوبري المخصص للمشاة، تخترق الشارع الرئيسي المكتظ، من فوق. الجامع على يسارنا حين شاهدنا، بعد إرهاق طال أكثر من ساعة، محطة الوقود المزدحمة بدورها ، هنا تكلم الشاب الثلاثيني أن هناك شائعة عن نقص الوقود. ثم قال بأن الشائعات هي ما تسير البلاد، خاض مزيجاً من المسبات والحسرات، اتهم قطر بتمويل الكتائب العسكرية، التي لم تعد توالي ليبيا مؤخراً. كنت أحدق فيه، الازدحام شديد، أغلب الركاب في حالة غير معروفة من المشاعر، شيء غريب يحيط بهم، يلتصق بأرواحهم، يمتص دمائهم أكثر من قبل. الثورة تفقد سحرها ببطء، أخذت تبهت، لم يعد ثمة جدوى.
أحسست بأني في حالة توهان، شردت بعيداً.
لحظات بلا معنى، يأس محكوم بإتقان.
هذا اليأس لا يمنع مذيعي النشرات، كتاب الصحف اليومية والشهرية، المداخلات التلفيزيونية، زوار السياسيين من الدول المجاورة، التحليلات السياسية، نشطاء السياسيون، منظمي المظاهرات الحاشدة، زعماء القبليون، أمراء الكتائب، أعضاء المجلس، رجالات الحكومة، رجالات الساسية العالمية، لا يمنعهم من تأكيد نجاح الساحق للثورة.
في تلك اللحظة بدأت زخات رقيقة، تهمي بهدوء كدمعات، في صمت، الذي شقه هدير محرك قوي، كانت سيارة بلونين العنبي والأبيض، سيارة شرطة، تابعة للجنة الأمنية العليا، ملت الزحام، فهدرت بصوت متبوع بالسارينا، على متنها، سائق شاب وأربعة آخرين، لم يهتموا لنظرات الجميع، مكبر صوت الصادر من سيارتهم ينهر الجميع، ثمة فتحة كافية، استغلها سائق حافلتنا، انطلق بسرعة، من اقصى اليمين لأقصى اليسار، بين السيارات المرتبكة بموسيقى الراب، الناطقة بما يشبه النبوءات المستقبلية، سقطات حماة الأخلاق، فاقدي المنهج، صاروا يبحثون عن الأخلاق، برؤية نابعة من الشعب، كأن الشعب يأبه بالأخلاق. قطرات كبيرة تكسرت على الزجاج الأمامي، تفتت بحزن سماوي، رفعت بصري، الغيوم الكثيفة تسبح بثقل وعلى مهل، الفراغات هي الدليل الوحيد لحركتها السلسة، الدليل العيني الوحيد، الأخلاق الشعبية لا دليل يؤكد وجودها، كنا في حالة حزن بالغة، لم نشهدها من قبل في تلك الحافلة، هناك ما هو اكبر منا، أكثر قدماً وتعقيداً، مشاعر بلا كلمات، تظهر في صمتنا، تنهداتنا الحرى، الثورة حين تبحث عن الأخلاق – هكذا نفكر معاً بصمت – عندها فلنستعد للأسوء. في داخلي كنت أشعر بأن الثورات وجدت لتموت. لم أجرؤ على البوح بما لدى من أفكار، يرهقني سماع المذيعين في الصباح الباكر وهم يتحدثون عن أنجازات الثورة، يرهقني بلا حد سماع أي شخص يروي دوره خلال الثورة. الزيف، يلوح في كلماته.
السائق زاد من صوت الأغنية، أم سي سوات – نازي يكسران جمود بنغازي الأزلي، يحلمان بأشياء، متناقضة جداً. يحاولان قول شيء لا يقوله، مروجي الأخبار وكاتبي افتيتاحيات الصحف اليومية خلال صباحات بنغازي. كانت المدينة تشبه بضبط نفسها قبل ستة أعوام، الإعلام الكاذب، لا يهمه الأمر.
قطرات المطر زادت، صارت خيوطاً، تسيل على الزجاج، بجواري، فيما إمتزجت بالطين الطريق، بفعل سرعة سيارة اللجنة الأمنية. السائق لعين. شغل مساحات الزجاج الأمامي، ظهر الطريق، فارغاً. كنا نرى سيارة الشرطة، نوع لاند كروزر تترك خلفها، سحابة من المياه الهشة كالغبار. صاعدة الكوبري، سائقنا تبعها بمهارة، من بين السيارات الآخرى، فوجدنا أنفسنا فيما يشبه الخلاء، زاد من سرعة الحافلة، حتى شعرنا بالحافلة، تنزلق قليلا بسبب المياه التي إكتسحت الطرقات. صعـدنا فظهرت رؤوس المباني، ملبولة بالمياه، الأشجار لامعة، الإضاءات الخلفية لسيارات التي عبرت، كالوهم، منزلقة على الإسفلت. رأينا بضعة طيور تحلق في صف واحد طويل، لافتة الكصك للمفروشات، ظهرت ثم اختفت بسرعة، أصابع الموز الصفراء التي تزين أمام محل الفواكه، صيدليات، الازدحام مجدداً. محال أخرى، رصف عشوائي للسيارات. عندها نزل الشاب الثلاثيني، دفع للسائق، نظرت إليه، بشكل مختلف هذه المرة، فقد بدا لي مألوفاً بطريقة ما شعرت بأني أعرفه. غاص في احدى الأزقة الموحلة، تحركت حافلتنا ببطء شديد، هذه المرة بوسع السائق ترك الطريق، والخوض عبر جنبات خارج الإسفلت، بإهتزازات عميقة، سقطات عدة في برك المياه. حتى خرجنا على طريق الليثي. توقفت الحافلة، نزل حمدي، أخبرني بأنه دفع عني فهززت رأسي. التف السائق ودخل الطريق مجدداً، أخذ يمينه، ضاغطاً على دواسة البنزين ليلج مباشرة، لطريق المطار كان خالياً، فزاد من سرعته، حتى سمعنا المحرك يطلق إنقطاعات متتالية.
كانت اللحظة أمراً مرهقاً، دونت في دفتري، شيئاً من هذا. ثم، قتلا للوقت، شرعت بقراءة أشياء أخرى كنت كتبتها منذ أيام، حين كنت في الكفرة. كانت مشابهة بتمسك باللحظة، أموراً مرهقة.
عند الإشارات الضوئية، ثمة مفرزة عسكرية، بملابس الصاعقة، بابتسامات باردة، آخرين مقنعين، بأسلحة أف أن – البلجيكية. دخلنا المساكن، المطر قد خف، رجع في زخات حلمية رائعة، نزلت عند المربع 15، خضت في الطين المبتل، على الصخور، متخطياً البرك المائية، كان منزل بركاى واقفاً، يتطلع للوادي، سحبت المفتاح من جيب جاكيتي الداخلي، الباب الحديدي كان صدئاً، خيوط الضوء منقطعة، لامعان عبر الأفق، وراء المباني، صباح ثقيل ببرودة، مياه المطر على جاكيتي الجلدي، فتحت الباب، فهبت رائحة غريبة، قديمة، مليئة بالذكريات الأمل الكاذب. دخلت، حاولت أن أنير المصباح، عبثاً. فتحت النوافذ الثلاثة. شددت الستارة المهترئة، ضوء نحيل وشفاف دخل الغرفة، وقفت في منتصفها، وأنا أتطلع عبر زمن مات قبل ست سنوات. وحدة مجنونة في الجوار، اهتراء وموت، أكواب غدت قمامة، السرير أصبح أمراً شبيهاً وجديراً بأفلام الرعب. أحسست بأن لا شيء حقيقي، الزمن نفسه مختلف، احياناً متناقض بزيف. الفرشة العجمية استحالت لشيء قبيح، كانت أية في الجمال، برسومات أسطورية. باب الحمام الداخلي مخلع الفواصل، الحمام نفسه صار أمراً محزناً، كأن لا أحد سكن هنا. سحبت كرسياً، مسحت الغبار عنه.
جلست أطلع السكون الغريب. أشياء كثيرة تتداعى إلى ذهني. كالأشباح، ألم خفيف، يرف كالريش، في دفقات الغبار، لا حركة في الجوار، موت حقيقي. سألت ذاتي لا إرادياً، كنت في حالة يأس شديدة– هل بركاى حي في هذه اللحظات؟.
وضعت حقيبتي على الطاولة المغبرة. حاولت رفع بضعة أمور وتنحيتها جانباً، الكرسي المنقلب الذي كان يجلس عليها لكتابة، مقالاته التي لم تنشر. الفرشة العجمية، الأكثر قرباً من قلبه، كان يقول بانها هدية لا تقدر بثمن، نفضتها في الخارج، تسرب الغبار مع الرياح الباردة. رأيتها تبتعد فوق أشجار الوادي، المبتلة والتي بدت لامعة تحت الوهج الشمسي الخفيف المنبعث من وراء الغيوم.
أزلت الستائر الباهتة، كومتها في الخارج، سحبت السرير المتهالك لإلقائه، كنت أود التخلص منه بطريقة ما. كانت قديمة، وقد صارت وكراً للصراصير والحشرات الصغيرة، التي تبعثرت فوق الطين المبتل في دهشة بالغة، راقبتها وهي تحاول النجاة من المياه الباردة، بعضها سكنت داخل البرك، فيما فرت الأكبر حجماً ناحية الأعشاب في رحلة محكوم عليها بالنهاية السيئة، شعرت برغبة في دوسها برجلي، فعلاً، قمت بدوس على بعضها داخل الغرفة. ثم ذهبت للمحل المجاور لإشتري مكنسة جيدة.
قضيت نصف يوم في إخراج، كل شيء قديم. انتهيت بضبط بعد غروب الشمس بدقائق. فصارت الغرفة خالية، مظلمة، أدنى لحظة تنفس، تدوي بصدى هائل في أذني. كنت كمن يرتيب أمور ذاكرته، كل قطعة أخرجها من الغرفة توقظ في ذهني لحظات، بعيدة، سرعان ما تختفي، تتسرب في جهة غير معروفة من رأسي. غريب كم تتشبث الذكريات بالذهن، الرائحة تعيد بنائها من جديد كأنها ما تزال حاضرة. في الظلمة وجدت نفسي مكوماً في ذكريات قديمة. أخذت الغرفة تعود ببطء لسنوات خلت. الطاولة تعود جديدة، ملئية بأوراق بركاى، أوراقي، الكتب الرائعة، مخططات جغرافية عن الجنوب، أطلس طبعة مصرية، إماراتية، بها أعلام حمراء للإمارات السبع، كتب سياسية ممنوعة لليبيين في الخارج، مسحوبة عن طريق الإنترنت.
كل شيء بدأ يعود بإنعكاس رائع. السقف يستعيد عافيته، مطلياً بإنتظام، طلاه بنفسه، الجداران الرمادية. اللوحات المزيفة والمقلدة، الآخرى المسحوبة من المواقع، ورق طباعة A4 ملونة عليها كتابات وإقتباسات، مهمة في نظر بركاى، عثرتُ في درج الطاولة، على ورقة قديمة حائلة اللون، عليها آية مكتوبة بخط الرقعة اليائس –
” وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل “.– نص قرآني.
كان بركاى يرددها في بدايات عام 98 في تازر معتبراً إياها كنوع من التبشير لحياته المستقبلية. رفعتها ثم وضعتها في الحقيبية. ئعلقة هناك في عالم ذكريات. في كل زيارة أراها، مجددة في حالة حسنة. السرير الطولي الخاص ببركاى، نادراً ما كان ينام عليها لفرط إستغراقه في الكتابة، إلا إنه لم يكن يسمح لأحد بمجرد التمدد عليها. رواد غرفته، يتحدثون عن ديكتاتوري، مسيطر كجنرال شيوعي. لم أرى هذا الجانب منه مطلقاً، طوال سنوات، يلتزم أسلوباً أقرب للألغاز، يمنح حقائق عدة، سيناريوهات متعددة لكل شيء، قصص مختلفة ذات مضمون واحد عن حدث واحد. دائماً كان يترك مجالاً للفكرة الشخصية، لم أفهم إن كان هذا الأسلوب، خاص بي وحدي أم يتبعه مع الجميع. الديكتاتورية في شخصيته، ربما تظهر أثناء الكتابة، حين يغضب لأتفه الأسباب، التي تشوش ذهنه الإبداعي، خصوصاً إستعمال مقتنياته الخاصة، كتبه الخاصة، دفاتره التي تحوي يومياته، سريره، شرب العصائر فوق فرشته العجمية الأثيرة، البقاء ليلاً في غرفته كضيوف. كان يبدو في تلك الحالات شيئاً اقرب إلى وحش كاسر، عينيه تلمعان بتوتر يخرجه عن طوره. يشتم، يسب، يقلب كل شيء أمامه، ويطرد. طوال بقائي معه، في بنغازي، ثلاثة أشهر هي الأغرب في حياتي، رأيت إنساناً، استطاع أن يخلق من نفسه، كياناً منفصلاً عن كل شيء يمكن توقعه في التاريخ الحياة الليبية والصحراوية. لا يمكن أن يخلق شيء بهذا الصبر والكفاح الأخلاقي، التناقض، بحيث يكون عدواً للأخلاق. مجرد يوم معه يدفعك لتفكير حول بنية الأخلاق نفسها. حاولت أن أرسم مساراً لفكره الغير الممنهج – كما يقول هو نفسه – بلا هدف حقيقي. كمن يفتح متاهات عدة شخصياته تحمل الكثير من التناقضات المعيشية، ما يفكر فيه ما يعايشه وما يطمح إليه، ربط نفسه بأشخاص من عصور عدة ومن عائلات مختلفة، مشهورة في عداء بعضها البعض، كتاباته التي تحمل سمات السيرة الذاتية، في حين أنها – كما يقول أيضاً ليست سوى: كتابات لا تعني الكثير، كانت تعني الكثير لي، لكنه كالعادة، يؤكد بأني أهتم لكل شيء، كأمر بالغ الروعة، لم يكن يهتم لرأيي.
في كثافة الظلمة أتصل حمدي، تساءل عن مكاني، قلت بأني عائد على تمام العاشرة. كان البرد شديداَ، المطر الثلجي يتفتت في الخارج، يتساقط بغزارة. أغلقت النوافذ، سحبت ذاكراتي بصعوبة من واقعي، كان الوادي مظلماً، تشقه إضاءات تظهر بضعة أعشاب كأسلاك شبحية، المباني القريبة غارقة في هدوء البعد، سحبت الباب ببطء، فصر بأنين موجع، أقفلته بعناية، ألقيت نظرة على كومة الأخشاب والأقمشة، ثم ابتعدت شاعراً بجوع شديد. في الطريق توقفت عند مطعم صغير، التهمت ثلاث شطائر كباب، بكثير من الهريسة الحارة، شربت علبة كولا بالرغم الجو البارد، دفعت. سرت قليلاً وأنا أنظر للوجوه المتبسمة، اشتريت قليلاً من الخبز والفواكه، أوقفت سيارة تاكسي، تشير بضوئها، السائق رجل في منتصف الأربعينيات من تاورغاء، قال بعد نصف دقيقة من الحركة بأن الحياة ليست عادلة، حرك نظارته السميكة الإطار بأصبعيه، أضاف بأن أي شخص مخطيء يجب أن ينال عقابه، لكن من المعيب أن نعاقب الأبرياء. لم أكن أملك ما أقوله، أود لو حدث أن دافعوا عن أنفسهم.
كانت تجربة الحرب مريعة، لا بد من التضحيات، ما يميزنا كبشر هو كل ما يجعلنا نقاوم المحتوم. أن نقاوم العدو، مهما كان قوياً، ذا عتاد، أن نكون أقوياء في أنتصارنا، بحيث لا يكون الانتقام جماعياً، لم يكن الإنتقام مطلقاً مفردة في قواميسنا الأزلية. لم أخبره بما في ذهني، تركت له فرصة الحديث، شرح لي جميع ما حدث، كان بارعاً في الشرح، شعرت بأني مستعد لدفاع عنهم، إن دعت الضرورة لسبب واحد، الانتقام ليس طريقاً للعدالة. العدالة الانسانية في نظري هي مقاومة الإنتقام.
في ليبيا الأمر مختلف جداً، الضعيف لا يملك حق الحديث، لا يملك حق الدفاع عن الذات ولا تقرير المصير، الجميع يتجاهل فكرة نصرة الضعيف إلا بمشاورة القوي المنتصر. الأمر أشبه بالتفكير دولي. أفكاري تنتصر علي، قدرتي على السكون إزاء ما يحدث، لا يعني قدرتي على إقناع نفسي بأنها أمور حسنة وصحيحة، الثورة في نهاية المطاف الخطأ الأكثر توفيقاً في إزالة الديكتاتورية، لكنها أزالت معه الشيء الوحيد الذي كان يربط هذه البلاد ببعضها. ربما بعد سنوات أو عقود سيعمل العقل الليبي القلق على الدوام، بتفحص الأمر بروية أكثر، بسكون أكثر، عندها سيكون الحكم أبعد عن حماس اللحظة، الثورة التي أسقطت الديكتاتور، رفعت للواجهة مشاعر، أفكار ونفسيات مرعبة، متضمنة في قوة الكتائب العسكرية على سن أخلاقيات جديدة ضمن أفرادها. أخلاقيات مستمدة اساساً من مصادر عدة، بعضها قبلي وبعضها مرتبط بدعائم قوية بأيدلوجيات تستند على أحداث تاريخية، كلها تحتكم إلى السلاح، إلى القوة. لابد بأن المستقبل سيكون أكثر إظلاماً، من الناحية الفكرية أولاً.
” لندع كل شيء جانباً، نحن مستعدون لأي حكم إلهي أو حتى بشري، سنجتمع في أية ساحة لنطالب بالعدالة، تعدادنا هنا ثلاثون ألفاً، ليحكموا ثلاثين الف نسمة في ساحة واحدة داخل بنغازي، كيف سيكون حكمهم؟ كيف ستكون العدالة، قتل أبناءنا، الكثير منهم في السجون يعذبون، لماذا؟ نحن حاربنا الثورة، في تاورغا كان ثمة أغلب القبائل الليبية، لماذا يهاجمون التاورغيين فقط، لأي سبب، ألأنهم ضعفاء، قليلوا العدد؟ لماذا يعاملونهم كالحيوانات، يأكلون الرايات الخضراء؟ “.
كان يتحدث بغضب واضح، بقلب محترق. قلت:
” إنها الثورات، مجنونة على الدوام، لا بد من الصبر “.
لم يكن هذا ما يدور في فكري، كنت أعرف بأن الأمر أكثر خطورة وبشاعة. حرك نظارته بأصبعيه وشرع في حديث طويل عن ليبيا، أن الأمر بلا نهاية، دائماً ستكون هناك قبائل مهاجمة ومناطق مستهدفة، حتى الحكومات الشرعية ستعمل بكل جهدها لخلق جانب، تستهدفه بقواتها العسكرية، النظام في ليبيا يعني استخدام القوة طوال الوقت. حكي لي عن أفعال عائلة القرمانلي، الذي يعتبر في التاريخ بمؤسس ليبيا، كدولة في التاريخ، أي مدرس تاريخ أو مؤرخ يبكي بدموعه متأثراً بقوة هذه العائلة. كنت أستمع بصمت، كان لا يتحدث من عقله فقط، ثمة جانب أخر أكثر وضوحاً هو ما يتكلم، كان التاريخ بالنسبة له، مبرراً حقيقياً لما حدث لتاورغاء سنة 2011 هل وقع أمر مشابه في الماضي؟ هل كانت تاورغاء بقعة معزولة عن التاريخ؟.
ما حدث في تلك الأيام في كل أنحاء ليبيا تم تفسيره تاريخياً. الكائن الأسطوري الذي يحيى بصحبتنا دون أن نراه. التاريخ يجب أن يموت في ليبيا وإلا فلن تعيش.
حين وصلت لسلماني الغربي، رأيت وجهاً مصمماً، صافحته بحرارة، جمعت أغراضي، أخبرته بأني متضامن مع تاورغاء. لا شيء يمكنه أن يغير هذا الأمر، هز رأسه. دفعت له ثلاثة دنانير هي اتفاقنا، طلب مني أن أتحدث عما سمعت، ابتسمتُ بهدوء ثم تركته يذهب دون وعد. شققت طريقي عبر حديقة صغيرة، أعشاب ندية، تربة طينية زلقة، برك صغيرة، وصلت لشارع سيناون المسمى بشارع الجفالة، لفرط ما يرعبون المارة الأبرياء خلاله، فقط لمجرد المتعة. كنت مستعداً لأي نوع من التحدي، خنجر مسنن عند خصري، تعلمتُ جيداً كيفية استخدامه، قلب فقد الرغبة في لذة العيش، وحدة بالغة، كالموت، تماماً كالموت. كنت أطرق بابي بيت خالتي وأنا أغالب دموعي الحارة في حدقتي، لأي سبب، ربما لأني تذكرت وحدتي البالغة لموتي الداخلي، ربما لأني أفتقد صديقي، بشدة.
” من؟ “.
صوت فتاة.
” شكري “.
فتحت الباب، فرأيت ابتسامة، هادئة لطفلة في العاشرة، مضفرة الشعر بشكل رقيق، رائع. وجهها الأسمر الصغير يوحي بأشياء ذكية. دخلت مغلقاً الباب خلفي، أعطيت كيس الخبز للطفلة سائلاً:
” ما اسمك؟ “.
” رقية “.
مرة أخرى لم أستطع سوى الإبتسام، لمست رأسها بكفي ودفعتها بهدوء لتسير معي. أفراد العائلة يجلسون في الصالة. لخالتي ثلاث بنات، أكبرهن في 19 أما الثانية فهي طالبة في السنة النهائية من الثانوية. كما أن لديها ابنان: حمدي وخميس. حمدي طالب جامعي وخميس في الإبتدائية.
كانوا في الصالة، جميعهم.
رقية جالسة بالقرب من أمها. رحبت بي خالتي، سكبت لي شاياً، ذكرتني بجدتي. جلسنا معاً، تابعنا مسلسلاً تركياً، شعرت بالنعاس، دلفت المربوعة، سكون غريب في الأزقة الداخلية. في فراشي حاولت أن أسيطر على جموح ذاكرتي، كانت أكثر تحفزاً من ذي قبل. منذ ايام في الكفرة، أحسست بأن كل ما عشت لأجله، لا يعني شيئاً. رأيت الأسلحة النارية، مضادات الطائرات، تخترق جداران الأحياء، قذائف الهاون تتساقط بكثافة على رؤوس الأهالي. فيما يخرج رئيس المجلس الإنتقالي معلناً بأن حرباً مع دولة مجاورة، تحدث فوق الأرض الليبية. جمعت أوراقي خلال أيام، جميع ما صنفته، طوال عشر سنوات كاملة، جميع ما صنفه بركاى، أدم أنري، طوال أكثر من نصف قرن. جمعتها في حقيبة تضم ذاكرة شعب لا يعرف معنى الذاكرة الجامدة في الكلمات. ربطتها بعناية، حميتها بجسدي، كنت مستعداً لأن أرفع السلاح في سبيل إيصالها لبر الآمان.
ذاكرتي متحفزة.
أرى خيالات الشاعرات،
أوقات الأصيل.
رمال لامعة، ضوء الغروب يشتعل،
حبري على ورقي،
دم على الرمال،
عشق مسفوك.
كنت أردد تمائمي الشخصية، أهديء ذاكرتي خلال الليل، أحياناً الخيال يتفجر بألم، بسخونة من وراء جلدي، شيء اشبه بالحروب الأهلية، يحدث في داخلي، أصورها كما أشعر بها: حرباً أهلية تدلهم بعنف في عروقي. تذكرت تلك التقارير عن الحروب القديمة، رأيت بعيني خيوطها بعد عدة قرون من حدوثها. بدا الماضي مرتبطاً بالواقع بشدة. قررت ربط كل شيء من جديد، أن أفعل ذلك في الغد، داخل ملجأ اليتيم. جسدي منهك، أحسست بالغبار في حلقي وأنفي، فركت بيدي أنفي محاولاً أن أبعد الإحساس بالدغدغة.
6
كنت أراقب بتركيز مؤلم، جسد ينبثق من الظلام، يحاول أن يبدو كاملاً ، يضع يده على عكاز أعرفه. عكاز أدم أنري، الذي اختفى بعد وفاته. جلبابه ناصع في بياضه، بحذاء من جلد النمر.
” تعرف متي تترك كل شيء “.
لم أكن أعرف، كان ذا صوت يتصف بالخشونة، غاضب. أقرب لما كان عليه دائماً، رأيت عروق يديه هذه المرة، ناتئة.
” لا أعرف “.
أحسست به يتحرك ببطء، كرجل مسن. كان أكثر سرعة في السابق.
” يجب أن تعرف “.
” لا أعرف “.
هذه المرة، ذهبت لمكان غير معروف. كنت في قلب ألفة هادئة. تذكرتُ هناك خيوطاً من ماضي بلدتي. رجال بلا وجود حقيقي. يذرعون الأحياء، يتحدثون عن أمور خيالية. دأب الصغار على محبتهم، لكل منهم لازمة غنائية يرددها الصغار، على أيديهم نمت خيالات أجيال متعددة.
” هل كنت منهم؟ “.
” اتظني درويشاً؟ “.
” هل أنت درويش؟ “.
” ليتني “.
كانت جملة منفصلة، ذات صدى مكتوم. أتبعها بـ:
” لو كنت درويشاً، لأستطعت أن اؤمن بشيء ما “.
” ألا تؤمن؟ “.
” لا أستطيع “.
” لماذا؟ “.
” حياتي مضادة للإيمانيات، موت والدي، ولادتي، تاريخي كله مضاد للإيمان، أتعرف شخصاً يشبهني؟ “.
” بركاى “.
ابتسم، ظننت بأنه حول وجهه بعيداً.
” بركاى يقارب الدراويش، أنا نهاية زمن، يا شكري، نهاية زمن “.
” بركاى يظنك عهداً جديداً “.
” وأنت؟ “.
” أظن بأنه، هو العهد الجديد “.
كنت صادقاً في مشاعري، لأول مرة، ألمس، ذلك الجانب الأنيق من الحياة، الإعتراف بفضل الصديق، بشجاعة.
” ماذا تمثل أنت؟ “.
” لا شيء “.
طوال السنوات الماضية، كنت أكثف ذاتي، شاهدني أنري بنفسه، أنا أحاول أن أحدد معالم وجودي بمخططات أشبه بمتاهة. كان ذلك في عام 2002 في تازر. صيف من أكثر الأصياف غرابة.
” أقرأت تلك الورقة؟ “.
” لا “.
” حاول أن تفعل، إقرئها “.
” لن يحدث، ضاعت مني “.
” لم تضع، أنت تعرف بأن لا شيء يضيع “.
كنت أنتهيت من فعل شيء ما. إنهاك كامل، قدمي لا تستطيعان الحركة، هل حقاً حاولت أن اتحرك؟ سمعت صوتاً يدعوني لتناول العشاء. رفضت بكلمات مبهمة، كنت أحاول الحركة. الأمر بلا معنى، أطرافي مشلولة، لا تعمل وفق إرادتي، أحسست برغبة في الركض الدائم، إختراق المساحات الرملية.
” أركض إذن “.
” سأفعل “.
عبر مساحات خالية فقدت قدرتي على الإنتصاب على قدمي. كنت أحاول أن أفلت ما يتشبث بجسدي بقوة، يشدني للأسفل، حتى شعرت بتفصد في عضلات عضدي، شيء ما يقاوم إنطلاقي، يمنعني من الوقوف.
” لا تحاول بإرهاق، ما يحدث الآن لا يهم، مطلقاً “.
” لكن المسافات تزداد، إنها تبتعد “.
” لا شيء يبتعد “.
” سيدي، ما أبحث عنه، يفوتني دوماً “.
” ما الذي تبحث عنه؟ هل أخبرتني عنه من قبل؟ “.
” لا لم أخبرك “.
” هل أخبرت أحداً آخر؟ “.
” لا، لا أحد “.
” أتريد إخباري؟ “.
” أجل، أريد “.
” لا تفعل، لا “.
كنت أجلس على كرسي وثير، لم أعرف من أين أحضرته. الظلام يزداد كثافة، يغطيني منسدلاً كغلالة حانية، ظلمة دافئة. غمرتني ذكريات صغيرة، أخذت تحوم بلا صوت. رأيت هيكلاً معدنياً، أعتقدت أنه لتويوتا موديل 78، في وسط الرمال، أشعر بإعياء حاد ، في العاشرة من عمري، على الطريق إلى الموزي. رأيتني أحمل أشياء صغيرة، هدية لأحدهم، في عيني لمعان الإثارة . التويوتا غارقة في رمال مبتلة ، توقفنا على سيف حاد لكثب رملي. نظرتُ بإنتباه، بحيث لم أعرف في أية سنة كنت. رمال مبتلة، نزلت بحذائي الرياضي الأبيض، غمست يدي في برودة الرمال، شمس غاربة، سحب خيطية، طيور تحوم في دائرة واحدة. على مسافات بعيدة كانت البلدة، تنمو في عزلة كاملة.
” أنت الآن في سنة 1928 “.
” ماذا؟ “.
” السنة التي قتل فيها الشيخ هامشيمي “.
” أين؟ “.
” للوراء، أنت تقبض على رمال دمائه “.
أشتمت رأئحة الدم، في حين اختفت التويوتا، شعرت بأن شيئاً ما ليس كما يجب أن يكون الخلاء يحمل قدماً أكثر، كأن الرياح لم تشهد حركة التويوتا بعد، هذا ما أحسست به. أعتمد شعوري الداخلي، دوماً يحمل ذكرياته المنفصلة، عن ذكريات الجسد. الروح ذاكرة التي يقدسها أدم أنري طوال حياته.
” كيف مات؟ “.
خطوات أخذت تتلاشى.
” تجد كل شيء عند بركاى، لم تعد عندي قدرة على التذكر “.
” قرأت كل شيء، أنا أعرف كل التفاصيل، لكنني لا أفهم سبب عدم تذكري “.
” كلنا نفقد حقائقنا البسيطة، نعيش لسنوات بلا فهم حقيقي، لأنه ليس ثمة فهم حقيقي، تلك الحقائق البسيطة، هي كل الفهم، العمق أمر سطحي “.
” لماذا يتوجب علينا أن نحترف التاريخ؟ “.
” أجابتي قد تكون مهينة لك، سببي مختلف عنك “.
” ما هو؟ “.
” الهوية “.
صمت لوهلة، بالنسبة لي الأمر يتعدى الهوية، الهوية جزء منها، من بحثي، إنما ليس كل شيء، لا يمكن أن يكون كل شيء.
” هل هذا كل شيء؟ “.
” نعم، كنت في زمن يحتاج للهوية، هويتنا كانت متضمنة في ترابطنا العائلي، في زيارة المريض، في القتال لحماية الرمال والنخيل. كنت بالهوية، كل شيء “.
” لا شيء مهين “.
” أعرف “.
” ألهذا مات الشيخ هامشيمي؟ لأجل الهوية؟ “.
” ربما، أنت تعرف السبب منذ عشر سنوات “.
قلت وأنا أحاول أن أتذكر:
” معرفتي قليلة “.
حين إنتبهت لذاتي.
كنت أعرف بأني اقل معرفة مما قد أتخيل يوماً.
انتهت.
يوليو 2012
بنغازي