مختارات

ابحثوا عن يوسف القويري

 بدرالدين الورفلي

عن: نواة – موقع نادي هواة القراءة

 الكاتب يوسف القويري

إن قراءة التاريخ تعلمنا أن الباعث وراء كل هذه الأنوار الغامرة هو تهيئة أرض الغد ، أي ذلك النزوع الذي لا يكل للارتقاء ، وموالاة الشعلة إلى ذرى الجبل ” من مفكرة رجل لم يولد بعد”.

منذ عامين أسألُ كل من آنَسُ منه أملا في الجواب ، أين أجد يوسف القويري ؟

كأنهم اتفقوا جميعا على جواب واحد ، كلهم رأوه ، وكلهم عرفوه ، لكن لم يكلمه أحد ، عمي عبد الحميد بن بركة قال إنه رآه في “أورورا ” قبل عام ونصف ، تلك كانت أدق معلومة .

قبل أيام ذكرت ذلك لصديق فقال إنه يعيش في حال سيئة ، وإنه ربما لا يملك منزلا ، وكان آخر عهد هذا الصديق به قبل فبراير 2011 ، أليس في هذه البلاد من له فضول يدعوه إلى أن يسمع من القويري كلمته -ولتكن الأخيرة إن شئت- في الأرض التي منحها أنفس ما يملك

ألم يهبها الاعتزاز والتنظير والتنوير ، أوهبته شيئا غير النكران والنسيان وجائزة الفاتح التقديرية للاداب والفنون !

لقد كان درويشا من دراويش هذه البلاد، وهي لا تهب دراويشها قبابا ومزارات ، بل تهبهم شرف الغياب ، أعطها عصارة العمر فستجعلك مهديا منتظرا.

أخشى أن لا يبقى في ضمير الليبيين من يوسف القويري غير قصص يضخمها الخيال المريض ، تدور حول شبحه الذي رآه أحدهم هنا أو هناك . قبل أن يختفي إلى الأبد.

ألم يتسع الحفل الخيري الذي طبعت فيه وزارة الثقافة “أسفارها” الأخيرة ، لسفر تُجمع فيه أعمال القويري الكاملة ؟

بين يدي الآن كتاب “من مفكرة رجل لم يولد بعد” ، وهي يوميات متخيلة تقع بين عامي 2565 و 2567، وقد ظهرت الطبعة الأولى منها في كتاب سنة 1971 ، وكانت قد نشرت في حلقات بجريدة ” الميدان ” بين عامي 1966 و 1968.

هذا بعض من مقدمتها قد يكون نصا مختصرا يرسم لنا شيئا من تفاصيل وجدانه :

“المقصود هنا ليس التنبؤ بما سيكون عليه العلم في المستقبل ، أو التنبؤ بأي شيء آخر ، أو استثارة دهشة القارئ بسلسلة من الأوهام المنسقة ، إنما أسوق للآخرين رؤية معينة للأيام النائية التي لم تأت بعد ، من خلال إنسان تاريخي له وشائجه الاجتماعية والأسرية – إذا ما كانت الأسرة كمؤسسة ثنائية أو خماسية ستستمر – إنسان في طي الغيب ، لكن جذوره التي امتد منها في الزمن رأسيا وأفقيا ، موجودة هنا ، الآن تنبض بما فيها من مساوئ وفضائل ، وراء حيطان المدينة ، وفي ميادينها الصغيرة الكئيبة ، خلف نوافذ محكمة الإغلاق ، حيث تتوارى وتتعرى – أيضا – جملة “حقائقنا البشعة والمثيرة للرثاء”

“لم أشأ خلق “مدينة فاضلة ” جديدة أو يوتوبيا على الورق ، كما فعل أفلاطون في الجمهورية أو توماس مور في عالمه القصي المزوق ، الخالي من كل رذيلة أو شائبة كما نتصور اليوم الرذائل والشوائب ”

هل قال يوسف القويري : إنسان في طي الغيب ؟ لست أعرف عبارة أصدق من هذه تصف حال هذا الرجل الذي أعرف أني سأحزن شديد الحزن متى سمعت خبرا سيئا عنه قبل أن أراه ولو لدقائق .

سألت كل من تيسر لي مقابلته من كتاب ليبيا ومثقفيها سؤالا واحدا يتعلق بمصير الكيان الليبي ، وأجابوني جميعا إجابات اختلفت في العمق والحكمة .

ومازال آخرهم ، يوسف القويري ، وهو أجدر الأحياء – ولعله مازال من الأحياء – في ليبيا اليوم بالإجابة عنه .

كم أخشى أن نستيقظ ذات يوم فنقرأ عنه خبرا أليما يسوءنا في كرامتنا ، ولن تجدي يومئذ منشورات فيس بوك ، والصور التذكارية القديمة ، وحفلات التأبين ، لن تكون إلا برهانا ماديا على هذا العار .

إنني موقن أن إنتاجه لن يضيع ، وأننا سنتخذ شيئا مما كتب أساسا “للتنظير” يوما ما ، فقد تجف منابعنا قريبا فننتبه إلى هذا النبع القديم ، هو الذي يقول : ” إنها ميزة جليلة لنوعنا الإنساني تلك القدرة الخاصة على القفز المزدوج فوق الأرض والزمن ” .

سأمنح هدية متواضعة لمن يجمعني بيوسف القويري ساعة واحدة .

وهديتي لكم الآن ، هذه اليومية من “مذكرات رجل لم يولد بعد” ، يحلم فيها يبوم يكون فيه العمل ضرورة أخلاقية ونفسية وجمالية ، وأن يتداخل الخاص والعام ! .

حلم ليبي في ستينيات القرن العشرين ، لم يبق منه غير طيف يشاهده بعضهم أحيانا يعدو في شوارع طرابلس ! .

من مفكرات رجل لم يولد بعد :

6 يناير 2566.

كانوا – في الماضي – يخافون من الرخاء ، ويقولون إن تحقيق الوفرة المادية لكل إنسان سيؤدي في النهاية إلى الكسل وتلاشي الابتكار بحكم انتفاء حوافز العمل والمجاهدة من أجل العيش .

والغريب أن بعض الذين خافوا شيوع الرخاء والوفرة كانوا يعيشون في أعلى السلم الاقتصادي !

قلت لزوجتي :

إن مصلحة الفرد الآن هي مصلحة الجماعة

قالت : أجل . ويد الله مع الجماعة .

وسكتت قليلا ثم هتفت : لقد قرأت بحث الدكتور ” هنري نيكولسون ” عن فترات التعارض بين المصلحة الفردية ومصلحة الجماعة ، كان بحثا شيقا وصبورا .

قلت :لم أقرأه مع الأسف ، لكني قرأت بحثا مشابها للدكتور ب . هانسن .

إنه لشيء مؤلم حقا أن تكون فترات التعارض بكل ما فيها من تطاحن قديم وصراع هي نفسها مجموع التاريخ البشري القديم .

فقالت : لابد أنك توقفت طويلا أمام اللغط الذي كانوا يثيرونه !

قلت : لغط ؟ أي لغط ؟

فأجابت وهي تتكئ بمرفقها على الوسادة :

مسألة حوافز العمل وانتشار الكسل بانتشار الرخاء

قلت : يبدو أنهم كانوا يفهمون الرخاء بطريقتهم الخاصة .

قالت : بالطبع فهم لم يتصوروا أن يتحول العمل إلى ضرورة أخلاقية ونفسية وجمالية ، إلى إبداع اختياري حر ، فمثلما كان مستهجنا في معظم العصور بيع عفة المرأة ، فإن امتناع الفرد عن العمل مستهجن اليوم بنفس الدرجة .

قلت : الإنسان المعاصر يعمل بين ثلاث ساعات وأربع ، في المكان الذي يهواه ، وهو حر بعدئذ في قضاء وقت فراغه الطويل في أية هواية تروق له .

إن الأفراد في هذه العصور يعاملون المدن بل العالم بأسره كما كان القدماء يعاملون بيوتهم ، باهتمام شديد ومحبة ، فقد تداخل الخاص والعام وأصبحا وحدة غير متعارضة

مقالات ذات علاقة

في ذكرى الأسد الليبي

المشرف العام

السرايا الحمراء علامة طرابلس المهملة

المشرف العام

الأدب الليبي: المواجهة والتهميش

المشرف العام

اترك تعليق