قصة

الألق الافتراضي

الإنترنت
الإنترنت (الصورة: عن الشبكة)

كيف يكون كل هذا الألق الأزرق منفى لأوجاعي، كيف لي أن أتحول إلى كائن افتراضي يمارس دوره التمثيلي ببراعة وأنا لستُ كذلك، كيف أتواصل مع هذه النقطة الخضراء الداكنة التي لا يغمض لها جفن في مربع الدردشة، كيف أتواصل مع هذا الكم الهائل من الأصدقاء في هذا البراح الافتراضي الشاسع وأنا التي تؤمن بالعزلة و مرافقة الذات إيماناً مطلقاً كإيمان العجائز، أنا التي لا تتحدث إلا وجهاً لوجه، لا أحب الحديث حتى وشوشة، تعشق ثرثرة الملامح، حمرة الخجل، ورفة العين، الالتفاتة المفاجأة ونظرة المحبة، تقيس درجة القبول في رنة الصوت، درجة حرارة اليد أثناء المصافحة ودرجة البعد والاقتراب، أحب انتظار الرسائل، التقاط الأنفاس ساعة الوصول وفضها على مهل، وعبّ ما فيها على جرعات متباعدة، أعشق ملمسها ورائحة عبيرها وتحسس أطرافها بحنان لا أن أتعثر بها في زاوية باردة لا حرارة فيها لا رائحة ولا ملمس، أستلذ لسماع خشخشة الخط الهاتفي القديم، وصوت اشتعال زر الكاميرا المتربعة على أربعة أرجل وألبوم صور العائلة القديم، هذه الصور الفوتوغرافية المتأنية المستعصية على الزوال لا الإلكترونية الملتقطة على عجل، مقيد عمرها بكبسة زر الإلغاء بفعل عبث طفل عنيد أو عطل من نوع ما، ما أغبانا؟!! جعلنا أجمل ذكرياتنا مدفونة في أجهزة محمولة مرهونة بعبث طفل، أغلى لحظاتنا مدفونة في زاوية جامدة بلا طعم ولا رائحة، كيف يمكنني الحفاظ على ذكرياتي الافتراضية مع صديقي الافتراضي في هذا الفضاء الشاسع من العبث؟

آه يا ورقي، يا ملاذي، كم أتمنى قلب صفحات الماضي بسرعة جنونية، أو رمي دفتر الذكريات و التخلص منه في سلة المهملات، أردت أن أتلصص على الحاضر من كوة باب عزلتي لعل فيه ما يغريني فأهرع إليه من باب غرفتي الموارب، أنفض غبار الأشياء الماضية عن ثيابي وعقلي وجسدي، أبيع مذياع جدّتي القديم، أخبئ أشياء والدي بعيداً عني و أمزق دفاتري العتيقة، أوراقي المتآكلة التي نخر أطرافها السوس و الرسائل القديمة ورائحة عطرها العتيق جداً، أردت أن أقف على قدمين في حاضر لا يرفضني أو يرفضه عقلي وروحي، جلست على الطرف، أنا أحب طرف الأشياء، أجرب الاقتراب ببطء فإذا وجدتُ قبولاً أتوغل شيئاً فشيئاً حتى أحتوي الأشياء أو تحتويني، عموماً جلست على طرف السجادة أرمق أبن أختي الشاب المراهق، أجده منهمكاً بالكامل في شاشة هاتفه النقال، يديه، عيونه، شعره، سترته، فمه، شفتاه، روحه، تفاصيله بالكامل تريد أن تذوب شيئاً فشيئاً وتصبح دخاناً يتسرب ببطء إلى شاشة هاتفه حتى يختفي كلياً في محمولة النقال الصغير، استهوتني اللعبة، لعبة مراقبته من بعيد، شعرتُ بأن هذا المحمول اللعين سوف يلتهمه، أحسست بأن هذه الآفة الإلكترونية سوف تلدغه فيموت مسموما لأهرع إلى أمه المسكينة في المطبخ، وجدته يبتسم وينظر إلى ثم هتف ” واااااو ألف لايك ”، نظرت إلى عدد المعجبين تحت صورته التي نشرها فوجدت فعلاً العدد كبير وفي تزايد كل ثانية، استغربت، أنها مجرد صورة عادية له ماداً شفتيه وكأنه يقوم بتقبيلك من خلف الشاشة، تذكرت نصي البائس وعدد المعجبين، هذا العدد لا يتعدى أصابع اليد، اقتربت أكثر من أبن أختي المراهق، هذا الولد الفذ لا بد أن لديه كاريزما عالية، نظرت إليه متسائلة فأبتسم وأخيراً فهمت أنه برنامج صغير جداً تضعه في هاتفك، ثم تتبع خطوات معينة وما هي إلا دقائق حتى ينهمر عليك المعجبين والمعجبات على منشوراتك الساذجة، اقتربت أكثر، اقتربت حتى صرت ملاصقة للولد وجربت البرنامج بنفسي ووصل عدد المعجبين تحت نصي البائس إلى المئات.

– هل هؤلاء أشخاص لديهم اشتراكات حقيقية في هذا الفضاء الأزرق؟

اكتشفت أن لديهم اشتراكات حقيقية وأصدقاء وتفاعل وصور ومنشورات وأن العدد الكبير الموجود تحت نصي البائس ليس مجرد رقم وهمي أبدا

هالني ما اكتشفته، شعرت بالاستياء، أحسست أن عالمي نظيف ونقي وصادق وطاهر، وارتعبت من مجرد فكرة أن يصل أعجاب مني دون علمي تحت نص يكفر بالله، أو تصل سبابتي الافتراضية الزرقاء دون إرادتي لتضغط تحت صورة خليعة أو مقطع مشبوه..

مقالات ذات علاقة

الـفـراغ الـشاسـع

محمد العريشية

مـاكياطة بالزعـتر

محمد العنيزي

امرأتان

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق