قصة

الـفـراغ الـشاسـع

وجدناه مقرفصا فوق كثيبا من الرمل، يحمل حجرين من الصوان ويقدحهما، عندما شعر بوجودنا نظر إلينا بعينيه الكبيرتين، وما لبث أن انهمك في نفخ البصيص الناجم عن اصطدام الحجرين حتى اندلعت ألسنة اللهب.

– لقد عاد أبي

قلت.

وقف وأخذ يراكم المزيد من الحطب في النار ثم نثر لعابه فلفح اللهب وجوهنا وعاود نثر لعابه فانطفأ وتوهج الجمر، نظر إلينا مرة أخرى وقرفص قرب النار رزّ في قلبها بضعة أوتاد من الحديد وراح يتمتم بكلمات مبهمة لم نتمكن من فك حروفها.

ما فعله كان مدهشا وتضاعفت دهشتنا عندما تناول الأوتاد الملتهبة المحّمرة بكفه ولعقها على مهل بلسانه الوتد تلو الأخر، شعرنا بالخوف لمرآى الأدخنة المنبعثة من فمه الأدرد ثم الصيحات القاسية التي أطلقها بعد ذلك حتى أن بعضنا ولى هاربا واختبأ خلف أشجار الرتم.

أخذ يمشي بخطوات متخاذلة وهو يصرخ ثم ترنح للخلف خطوتين أو أكثر وتهاوى على الأرض وصرخاته تزداد حدة، تمدد بعد ذلك على ظهره وهو يرتعد ويتلوى مصدرا صوتا كرغاء الإبل وقيء أصفر مزبد طفق يسيل من فمه بتدفق لطخ لحيته الكثة وتجمع حول رقبته ثم همد فجأة فاردا ذراعيه على امتدادهما. تبادر إلى أذهاننا من أنه قد مات، اقتربنا منه وتكومنا حوله. مددت يدي وحركته من إبهام قدمه:

– عمي ابراهيم هل تسمعني؟

نظر إلي بعين واحدة ثم أغمضها

– لقد عاد أبي ويود رؤيتك

قلت.

وضع ذراعيه تحت رأسه وراح يحدق بعينين فارغتين في الفراغ، ثم نهض فجأة بحركات خفيفة نشطة – مثلما كنت أراه صباحا في بيتنا قبل أن تستقطبه حياة العراء – وهرع إلى النار نبش جمرها بيديه وأخرج قطعة من الحديد وقد كانت محمرّة تماما. رازها في يده مرتين ورفعها إلى مستوى رأسه وأخذ يلوح بها ثم وتقدم عاضا على لسانه بين أسنانه وعيناه تقدحان شررا ثم راح يهوي بها في الهواء ويتقدم نحونا، فرّ الأولاد مذعورين وتواروا خلف أشجار الرتم فيما وقفت في مكاني متوسلا إليه أن يتوقف بيد أنه أمسك بقطعة الحديد بكلتا يديه وأخذ يضرب شيئا ما أمامه وألقاها بعد ذلك خلف ظهره وطفق يُكيل خصمه اللامرئي باللكمات إلى أن خرّ جاثيا على ركبتيه وهو يتصبب عرقا ويهدر بصيحات تكبيروفجأة حانت منه التفاتة ونظر إليّ نظرة حانية كما لو كان يراني للمرة الأولى، ظل هكذا لبرهة ثم وقف وهرول في اتجاهي إلى أن ضمني إلى صدره شعرت تلك اللحظة وكأني أستند إلى ركن صلب شديد لكن ما أن عادت إلى مخيلتي مشاهد إذلال جدي حتى صعدت قشعريرة ونزلت في نخاعي الشوكي وأجهشت بالبكاء، ربتّ بيديه الخشنتين على وجهي قائلا:

– لا تخشى شيئا يا بنيّ لقد ضربته ضربا مبرحا ولن يعود ثانية ثم حملني على ظهره. كان يمشي في صمت وعندما كنا على مشارف القرية وقف وقال:

– كيف حال جدك؟

لم أنبس بكلمة فواصل خطواته بتثاقل إلى أن وصلنا، أنزلني بهدوء ووقف ينظر باهتمام إلى جسد جدي الممدد على الأرض وهو مسجى بجرد خلق. أبي مقرفصا على مسافة منه سادرا في صمته وحزنه ويبصق من بين أسنانه بلا توقف، جمهرة من الرجال جالسين وبكاء النسوة يدوي كما لو كان أمواج يبتعد دويها ويقترب. مشى إلى حيث يتمدد جسد جدي ، رفع طرفا من الجرد وتأمل وجهه الممتليء بالثقوب.

– من فعل به هذا؟

قال وبصق على الأرض.

قبل الفجر بقليل ذهب أبي لجلب فسائل نخل وكنت ما بين النوم واليقظة تارة أغرق في دنيا لدنة كالصوف وطورا أسمع صوت جدي خارج البيت وعندما ارتفعت لجبة صوته قمت وركضت إليه دخلت غرفته وكانت غرفة قديمة ذات سقف خشبي، الضوء المنبعث من القنديل المعلق في مسمار يضفي عليها اجواء حزينة، اثاث الغرفة عبارة عن حصير قديم وفراش – حال لونه من كثرة الإستعمال – حيث يجلس جدي وأمي وبشير جالسا على ركبتيه ويربت على كلف الحصان الذي ينازعه الموت. جلست على الحصير ولمست الحصان بيدي.

– كيف حاله؟

– سيموت وقد أحضرته إلى غرفتي ليموت بقربي

قال جدي بصوته الأجش

وضعت أمي طرف ردائها على وجهها وبكت فاقتربت منها وأنا يغالبني البكاء فنهرني بشير قائلا:

– إنه قوي وسيغادره الموت ويذهب صاغرا الى الضعفاء

– كان قويا والأن يموت

قال جدي.

ثم ربت بيده على رأس الحصان وأردف وهو ينظر إلى بشير:

– منذ الان علينا ان نحرث الارض الحجرية باظافرنا

لاحت دمعة وترقرقت في عين الحصان فمسحها جدي بيده ووضع رأس الحصان في حضنه وقد بدأ ينتفض وصاح:

– لا، لا تبكي يا صاحبي انا بقربك لا تبكي يا صاحبي انت في حضني يا صاحبي سامحني يا صاحبي.

ثم وضع رأسه على رأس الحصان الذي حرك قوائمه بعشوائية وهمد. ارتفع نشيج أمي وبكاء جدي كان كالرغاء فيما ظل بشير صامتا.

لم أصمد أمام بكاءهما فخرجت متأثرا وأنا أركض ماسحا دموعي بظاهر يدي فواجهتني العربة الإيطالية دون أن أسمع هدير محركها فعدت أدراجي إلى جدي وصرخت:

– لقد عاد الطليان! لا بد أنهم يبحثون عن بشير

هب جدي واقفا فيما خرج بشير من النافذة وركض نحو حفر الكلاب للإختباء بها، فقد جاءوا للبحث عنه مرتين لتجنيده وحمله للحرب في (بر العبيد) بيد أنه تمكن من الهرب منهم.

تناول جدي عكازه وخرج. كانت هذه اللحظة لا تشبه المداهمات السابقة فلم ينتشر الجنود في البيت لتفتيشه إنما اكتفوا بالصمت برهة ثم تقدم أحدهم دار حول جدي مرتين وعاد إلى العربة للتشاور مع رفاقه والتفت بعد ذلك ناحية جدي وقال :

– أين بشير؟

– ليس هنا

قال جدي وأضاف:

– أنتم من ينبغي أن نسألكم عنه

كان جدي يتكلم وهو ينظر إلى البنادق المصوبة نحوه وإلي الجنود الراكبين في العربة.

– إنه هنا.

أكد الجندي وأضاف قائلا:

– لم يغادر القرية وإذا لم تخرجه سأجعل بهيمتي المعدنية تبصق على وجهك.

ثم رفع البندقية أمامه وتابع:

– إذا وجدناه هنا لن نرتكب الحماقات.

التفت جدي ناحيتنا ثم استدار وتقدم متوكئا على عكازه حتى وقف أمام الجندي وصاح رافعا عكازه:

– افعل ما تشاء الإ أن تكشف عورتي أمام النساء والأطفال

دار الجندي حول جدي راسما حول قدميه دائرة بقدمه ثم نظر إليه قائلا:

– لن أكشف عن عورتك هذه المرة لكن إذا لم يأتي لن تخرج من هذه الدائرة حيا.

ثم لكز جدي على عموده الفقري بفوهة البندقية وصاح:

– هيا، ما عليك الإ أن تناديه إذا أردت أن لا…

همّ أحد الرجال بمساعدة جدي على الوقوف بيد أن الرصاص الذي أخذ يلعلع فوق رأسه أعاده إلى مكانه وتحلق الجنود حول جدي وبدلا من اغماد الرصاص في جسده كانوا قد أفرغوا محتوى بنادقهم في التراب مما أثار تصرفهم هذا ارتياح الأهالي – على الرغم من صراخ النساء والأطفال – الذين شكلوا صفا أمام بيتنا لكن ما أن ساد الصمت حتى ظهر بشير رافعا يديه فوق مستوى كتفيه وصاح:

– لا تقتلوا المزيد ها قد جئت.

لقد ظن أن الجنود قد قتلوا جدي. هرع إليه الجنود كبل أحدهم يديه بحلقة حديدية وألقى به في العربة وقبل أن يذهبوا أخرج الجندي مسدسه ثم اقترب من جدي وأفرغ محتواه في وجهه من دون أن ينبس بكلمة إذ كان ينظر إلى وجه جدي بحقد.

دخل عمي ابراهيم البيت وعاد متأثرا حابسا انفعاله ، توقف عند الباب، ونظر طويلا بعد ذلك إلى أبي الذي لم يتوقف لحظة عن التحديق في الفراغ ببلاهة باصقا من بين أسنانه ثم قرفص بالقرب منه ناظرا هو الأخر في اتجاه الفراغ الشاسع باصقا من بين أسنانه ومنذ ذلك الحين لم ينبسا بكلمة.

مقالات ذات علاقة

من القرية الى المدينة (3)

المشرف العام

أبحث عن ابتسامة

أسماء مصطفى

أسئلة الدرويش المقتول

الصديق بودوارة

اترك تعليق