قراءة في نص ” اهتداء” للشاعر المهدي الحمروني
تقديم:
تتمايز النصوص النثرية الشعرية في طرائق التعبير عن الصورة ودلالتها النوعية، وباعتبار الصورة مكونًا أساسيًا للنص الشعري؛ فإن الصورة في النص النثري تنأى عن التعبير التقريري والتوصيف المباشر، وتعتمد على الإثارة والدهشة. إن الإشكالية في كونها شعرًا من عدمه، تتركز في مكونها الحسي والموسيقي، وفي مختزلاتها الحركية والساكنة، إذ أنها تخضع لتجربة الشاعر وقدراته التخيلية والفكرية، في تجسيد ما حوله والتأثير فيه. ولا شك أن النثر الشعري في تعبيره الوجداني والإنساني هو المولود البكر لشعرية التصوف.
تأطير النص:
لكننا هنا في نص “اهتداء “لسنا أمام شعرية الحلاج أو ابن عربي وعدوية، ولا حداثة ادونيس، وفي الوقت نفسه لسنا بمعزل عنها، إذ أن روحنة شعرية الذات تبقى متقدة على طول نقطة ضوئية، تمر عبر الخطوط العريضة والدقيقة في النص، فكان الجمال في توظيف النص القرآني كأداة مرجعية، ومستند يستمد منه الشعر طاقته اللغوية والحسية، وينهل منه الشاعر موسيقاه ونجواه لآلهة ليست بالفرضية بقدر ما هي ماورائية وتخيلية: (أيتها الآلهة الغافلة عن المُلك…)
ينبعث التصوف هنا ليس فقط كبناءٍ شعريٍّ للنص؛ وإنما كصوت وجداني خلقته مثيلوجيا عميقة النظر إلى الماورائي، كمخاطب اندمج في الذات، واندمجت فيه في آن: (الشعر لا يزهد في مثلكِ.. تستطيعين أن تؤمميه لكِ…. )
إن بدء النص بأسلوب المخاطبة والمدح، خلق طريقة منبسطة وغير بسيطة إلى مناجاة نوعية، تسفر عن مقدرة الشاعر في اختلاق صورة جمالية، تأخذنا إلى بنية عميقة في محتوى النص. لاشك أن الشاعر قد استغل مناخًا منفتحًا في تجربة حيوية، برزت فيها الميتانصية بصورة ليست بالمختلفة، وإنما تحمل خصوصية قد لا نجدها في نص آخر..فالشاعر بطاقته الإبداعية تمكن من أن ينقلنا بين المحسوس والملموس في تجربته الصوفية، التي ربما انبثقت من الزاوية والمسجد، واستقرت في الذات كركيزة روحانية تتجلى في نورانية المعنى، وتنكشف في سيميائية لفظية، لا تنعزل عن شعرنة الفريضة والشعيرة الدينية وقداسة مواسمها(الحج /الطواف /الإزار/…إلخ)
يستوقفنا الشاعر عند محطة شائكة في نصه المبهرج بالتصوف والمبطن بالأنسنة، في معادلة قد لا يحققها بعض الشعراء، وقد يعتبرها المتلقي العابر تطاولاً على قدسية الذات الإلهية؛ ولكنها في حقيقة المغزى تشير إلى الهروب من الوجه المكفهر للواقع إلى ملادٍ روحي ،اُستخدمتْ فيه التخيلية الشعرية في تجسيد الآلهة في (برواز) استحداثي مغاير لقالبها العادي، وبذا يعرج النص إلى سموه في النفور من أرض الواقع، واستغلال حاجات الذات الملحة وما ينقصها؛ ليكتمل في روح الإله ..إذ أن الشاعر قد نفض يده من وطنه، الذي ينقصه أن يكون وطنًا ، وعرج إلى مهجره السامي إلى جانب آلهته، التي جاءت بمثابة المأوى والوطن :
امنحيني ما يؤازر وقوفي
لأداء نشيدك القوميّ
ورفع رايتك الحلم
كي انتصب استعدادًا للتحية والتحليق
لو تأملنا البناء الفني للنص، سنجد أن الشاعر استعمل أفعاله المضارعة حرصًا على استمرارية المشهد، الذي يرغب في إيصاله للمتلقي، هذا فضلاً عن جماليات الإيحاء في ترقيق أفعال الأمر وتذليلها؛ لترقى إلى هيئة التبجيل والقربان، التي يعيشها كل إنسان في رحاب آلهته.
ختامًا:
إن نص “اهتداء” ليس استرشادًا فحسب؛ بل هو ترشد في ذهنية النثر الشعري المتصوف، وتقديمه في حليةٍ إبداعية لم تكن الأولى من نوعها؛ لكنها تتمايز بذاتها
إذ تعاش حالة التصوف ليس كما جبلت على الدروشة؛ وإنما بإعلاء الروحانية وتفخيمها، كتجربة وجدانية عميقة وقوية.
النص: اهتداء
أيتها الآلهة الغافلة
عن المُلك
والممدوحة النافرة عن الثناء
الشعر لايزهد في مثلكِ
تستطيعين أن تؤمميه لكِ
وأن تحيلي الأرض رُكحاً لمديحكِ
كيفما تشائين
حينما تأذنين لحجيجه
تأتيك رجالاً وعلى كل ضامرٍ
من كل فجٍّ بعيد
ستنحني الجبال تواضعًا
وتسمعك الأرحام والأصلاب
ويجيبك الحجر والمدر والشجر
وتهوي إليك عزلة الأفئدة
والأحرف المهجورة من عبق الروح
الغارقة في الوحل والجفاف
فُكّي عثرتها و أطلقي قيدها
للطواف إليك
لترفع إزارها مُحرِمةً وتوّابة
فتخلُص إليك من جاهليتها
وأوثانها
ادفعي بالتي هي أحسن للمثول
واقبلي وفادتي للتصوف في محرابك
أنت لاتعلمين ماضربتُ من أكبادٍ للوصول إلى بلاطك
كيف تتولّين عن مسألة لجاجتي واشتياقي؟
أريد أن أقرأ نصّي في شروقك الأعظم
وأتلو سِفري العظيم في رسالتك
ثم أمضي نبيًا لاذِكر له
في هذا الخلق الكثير المنادي بك
ربما أعبر البحر طريدًا إلى المجهول
في تخلّيك عني
كونِي بكل هذا الجلال والنور
لأجل الشعر
صديقةً
مليكةً
تتجاوز جندها في سبيل الوحي
كيف اهتديتِ إلى سؤالي وحيرتي؟
رغم أعباء التاج والممالك
كيف اصطفيت بساطتي الغارقة في الطين والماء؟
أناملي تدمَى من الشوك
فرفقًا بي
امنحيني ما يؤازر وقوفي
لأداء نشيدك القوميّ
ورفع رايتك الحلم
كي انتصب استعدادًا للتحية والتحليق
كيف لم يصدح بوجودك المحيطون بك قبلي؟
كيف غشت أبصارهم الغفلة عنك؟
لكنني أوقن تابعة ظهوري
حين يطاردني جندك
ويطلبني جيشك المتربص بي
ها أنت دفعتِ بتلويحة متواضعة
من شرفتك العالية بهودجك المنيف
كيفما اتفق لمحها
كانت لحظة وحي
كيف رصدتِني الليلة؟
في أبعد خلوة لي؟
كيف تأهبتِ لاقتحام
بعثرتي وحزني؟
كيف بسطتِ بياض يدكِ
ليسطع بريقها في عتمتي؟
لكنني سأسقط
وستبقين قوية كالحرب
واقفة دون عثرة
تحجبين في سردابك
الكثير من الضياء
عن اهتدائي
إليك