كانت الساعة الثانية ظهراً عندما خرجت من الشقة وقد كان بي رغبة أن أمشي وحيدة الى حيث تقودني قدماي… لم يمنع الجو البارد وسقوط ذرات البرَد الناعمة من أن يكون هناك زحام.. فقد اقتربت أعياد الميلاد وامتلأت الشوارع بأكشاك بيع الهدايا والأضواء المنتشرة في كل مكان تجعل من باريس مدينة للنور والسحر…
توقف البرد وبدى الطريق كأنه يحمل على جانبية الكثير من الحاكايا والقصص والأماني البيضاء، وأنا أتبع خطواتي ولا أعرف لي وجه معينة أرغب في الوصول إليها… بعد مسافة ليست بالقصيرة.. وجدت نفسي في أزقة ضيقة بيوتها عتيقة وعبق التاريخ عالق في أبوابها الرائعة.. بعد نص ساعة من المشي وجدت نفسي في ساحة (مونمارترMontmartre…)
كان الرسامون ولوحاتهم ينتشرون في كل مكان وصوت الموسيقى يصدع من تلك الفرق المختلفة على جانبي الرصيف، وألواح من رسومات مختلفة تضفي على المكان البهجة والسحر… بدأت أشعر بالتعب وقد تجمدت أطرافي، نظرت إلى أحد المقاهي وجدته مزدحم وقد اشتهيت كوباً من أي شيء ساخن يشعرني بالدفء، فتحت حقيبتي وتذكرت إنني خرجت بدون نقود… تجولت بنظري فاذا بي أري كرسي صغير لونه أسود أمام أحد الأكشاك.. اتجهت إليه وجلست وتناهى إلي سمعي صوت فيروز أت من الداخل (رجعت الشتوية ظل افتكر فيا)…
وبعد دقائق قليلة خرج ذلك الرجل من هناك وحياني بلغة فرنسية جميلة.. رددت له تحيته ثم سألني بلهجة شامية: أنتِ عربية؟
قلت له: نعم.. كيف عرفت؟
رد ضاحكاً: سمعتك تغنين مع فيروز…
ثم بدأ يضع لوحة بيضاء على حامل خشبي وأخرج مجموعة من الأقلام ثم ناولني مرآة صغيرة وقال لي: قد تحتاجين ترتيب شعرك قبل ان أبدأ…
بدا الارتباك واضحاً علي فأنا لم أتوقع ذلك خاصة وإني لا أحمل مالاً.. نظر إلى وقد لاحظ توتري وقال: ضعي ابتسامة لتكون اللوحة أجمل…
بدأ ينقل نظراته بيني وبين لوحته ثم توقف فجأة ووضع سيجارة بين شفتيه.. وبدأ يحاول إشعالها بعود ثقاب أخرجه من علبه كانت بجيب بنطاله، ثم عاود عمله كنت أشعر إنه لا ينظر إلى وكأنه يرى شيئاً أخر يحاكي فرشاته…
ظل ينفث دخان سيجارته على تلك اللوحة ثم قال لي: أنا هاوٍ أتي إلى هنا كل مساء، كانت زوجتي تأتي معي وتجلس على هذا الكرسي مكانك وأظل أرسمها وهي سعيدة وهي حزينة أترين هذه الوجوه؟ كلها لها…
توقف قليلاً ثم قال: أنظري…
وأخرج إحدى اللوحات: هذه أخر لوحة رسمتها لها.. أنظري شعرها الأسود كانت تحب تركة طويلاً تتدلى خصلاته على جانبي وجهها.. كانت تحب الحياة وتحب شعرها، لم تعد تأتي معي.. حاولت معها كثيراً.. قالت لي: لن أخرج بدون شعري …
تنهد بحسرة ثم قال:
لقد قال لنا الطبيب ذلك بعد رحلة علاجها، سقط كل شعرها ولم تعد تستطيع الوقوف لقد أصبحت هزيلة جداً ولم تعد تحب الطعام الذي أعده لها، لقد أهديتها شعراً مستعار ولكنها رفضت أن تلبسه لقد وضعته في القمامة، أصبح وجهة جامداً ونهض بسرعة وكأنه يهرب من شئ ما، ونزع الورقة من على الحامل وناولها لي.. لم أرى أي شبه مع ذلك الوجه الذي رسمه، لقد رسم ملامح أخرى كانت في مخيلته ونفث فيها كل أوجاعه ،أنها تشبه كل تلك الصور الذي بجانبه لم يضع عليها سوى إبتسامتي بتلك الغمازتين…
كنت قد تجمدت من البرد وشعرت بالجوع.. تململت في مقعدي وأردت الوقوف ولم أجرؤ أن أقول له أن ما أجلسني على هذا المقعد لم يكن سوى التعب… كيف لي أن ادفع له.. فتحت حقيبتي وأنا أعرف ان ليس معي مالاً وقلت له: أرجو أن تعذرني أعتقد أني قد نسيت محفظتي…
ظهرت على وجهة ابتسامة باهتة وكأنه سرقها وقال:
أتدرين لقد وعدت نفسي أن أهدي أول من يجلس على هذا الكرسي بعد غياب زوجتي ما رسمته.. وها أنتِ هنا.. فمنذ الشتاء الفائت لم يجلس هنا أحد، فقد كانت هي زبونتي الوحيدة وملهمتي…
يالهذا القدر الذي جمعني بهذا الرجل ليرهق قلبي بقصته ويالهذه العتمة التي تحيط به ولا يرى من خلال كل هذه الوجوه إلا وجهها، لقد رفضت أن تخرج بشعر مستعار وهذه الوجوه أمامي؛ ترى كم واحد خرج بوجه مستعار؟…
بدأ البَرد يتساقط من جديد وعقارب ساعتي تخبرني إني قد تأخرت، هممت بالذهاب عندما استوقفني وأخرج كيس من خلفة وسحب ذلك المقعد الصغير الذي كنت أجلس عليه وثناه وكأنه يقفل كتاباً وضعه في الكيس وناولني إياه…
نظرت إليه بدهشة وتساؤل.. ضغط على يدي بامتنان وقال: عندما تشعرين بالتعب اجلسي عليه واختاري المكان الذي يناسبك لست مضطرة لسماع أوجاع أحدهم؛ فأنا لم يعد لي حاجة به…
ابتعدت وصوت فيروز خلفي…
رجعت الشتوية..
ظل افتكر فيا..
يا حبيبي الهوى مشاوير..
وقصص الهوى مثل العصافير..
المنشور السابق
المنشور التالي
هدى القرقني
هدي مصطفى القرقني.
مواليد مدينة درنة.
بكالوريوس في العلوم السياسية، جامعة الفاتح سابقاً.
مقيمة في الكويت.
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك