1- مقدمة
تعتبر الكتابة النقدية الساخرة في الوطن العربي من الأجناس الأدبية والصحفية القليلة النادرة، ليس بسبب انعدام المواهب العربية والمتميزين القادرين على الإبداع في هذا الجنس الصحفي، ولكن نتيجة القيود والضغوط والعقوبات القاسية التي تمارسها أدوات السلطة العربية الحاكمة بكل شراسة لكتم الأصوات التي ترتفع بالنقد الحقيقي الصادق أو المعارضة لسياساتها ورموزها التنفيذية كافة. فتاريخياً تشير الباحثة أسماء مصطفى الأسطى في كتابها (الصحافة الليبية دراسة حصرية ببليوغرافيا 1866 – 2003 ) إلى عدم ظهور الصحافة الساخرة حتى أواخر العهد العثماني الثاني حين صدرت دوريات قليلة ذات طابع هزلي تعتمد في كتاباتها على اللهجة العامية، من أبرزها (أبونظارة) و(المسمار) في العاصمة المصرية و(حط الخرج) في مدينة دمشق السورية.
أما في العصر الحديث فإنني لا أجد في خزانة ذاكرتي الصحفية المتواضعة على امتداد خارطة الوطن العربي سوى اسمين ظلا رمزاً لهذا النوع من الكتابة الجميلة خلال العقود الأخيرة في العصر الحديث وتحديداً بعد فترة الحرب العالمية الثانية وقيام الدولة الحديثة هما الكاتب السوري “محمد الماغوط” وما كان ينشره في زاويته الأسبوعية “أليس في بلاد العجائب” على صفحات مجلة “المستقبل” الباريسية التي كان يملكها ويديرها الصحفي نبيل خوري، والمرحوم “محمود السعدني” الذي استطاع أن يخترق حدود الجغرافيا القطرية كعادة الأعمال الأدبية والفنية المصرية كافة، وينشر انتقاداته من خلال شخصية “الولد الشقي” التي ابتكرها وعبر بها في شكل استفزاز وتحدي للسلطة العربية الحاكمة.
ولكن حتى وإن سلمنا جدلاً بتفاوت وتنوع وتعدد أساليب الكتابة النقدية الساخرة، على قلتها، في الوطن العربي فإننا في المقابل نجد تشابهاً بل توافقاً أحياناً في إجراءات قمع ومواجهة سلطات الأنظمة العربية الحاكمة وتصديها الصارم لهذا النوع من الكتابة بكل عنف وقسوة وشراسة، وتعرض ممارسوها للعديد من الضغوطات والتحقيقات والتنكيل والتهديد والترهيب والاعتقال والسجن، الأمر الذي أدى إلى عزوف الكثيرين عن الخوض فيها، مما نتج عنه عدم توفر أعمال موثقة ومطبوعة تقوم عليها الدراسات المختلفة التي تحلل منهجها وتبحث في أدوات تطورها وتتبعها، وكذلك إثراءها من أجل المساهمة عن طريقها في توعية الرأي العام وتنبيهه لجملة من الظواهر والممارسات السلبية التي تغرق فيها المجتمعات العربية. وبالطبع فإن هذا الغياب القسري أدى إلى عدم ازدهار هذا الجنس كأحد الأدوات النقدية التعبيرية الجميلة القادرة بأسلوبها الساخر الممتع على الوصول إلى عقل المتلقي وتحريك أفكاره في الاتجاهات الإيجابية الفاعلة الخيرة، إضافة إلى ما تبعثه على محياه من ابتسامات عريضة وتفجره في أعماقه من صرخات وضحكات مدوية، ومنحه أوقات وجدانية ممتعة.
2- الكتابة النقدية الساخرة في ليبيا
في ليبيا منذ أن صدرت صحيفة “أبوقشة” سنة 1908 كما يشير الأستاذ عبدالعزيز سعيد الصويعي في كتابه (بدايات الصحافة الليبية 1866-1922) ويعتبرها “أول صحيفة هزلية بالعامية في ليبيا” لمؤسسها محمد الهاشمي المكي، وأنه رغم عراقة الصحيفة وتاريخها النضالي ضد نظام الحكم، فإننا لم نتعرف على أسماء محررين أو كتاب صحفيين اهتموا بهذا الجنس أو اللون الصحفي وبرعوا فيه ليضعوا أو يرسموا مساراً مميزاً، أو نهجاً معيناً، يمكن تتبعه ودراسته بعناية، باستثناء مالكها محمد الهاشمي المكي الذي يقول عنه الأستاذ الصويعي بأنه (… نتيجة للسان صاحب الجريدة السليط، وقلمه الطويل، ونقده اللاذع، وسخريته المفرطة، كان يواجه بسبب كل ذلك اللوم والعتاب حتى تصل إلى المحاكمة وتعطيل بعض أعداد الجريدة. ولكنه في المقابل استطاع أن يكسب لنفسه أصدقاء معجبين وزملاء متعاونين، ساعده كغيرهم على تحرير صفحات جريدته).
أما الأستاذ علي مصطفى المصراتي فإنه يقدم في كتابه (صحافة ليبيا في نصف قرن) سيرة شخصية للصحفي الراحل محمد الهاشمي المكي المعروف ب”أبوقشة” ويقول عنه أنه (صحفي ساخر لم يسلم من هجوه حتى أصدقاؤه … وأنه مع هذه السخرية والخصومات الشديدة والمعارك الطاحنة التي استعمل فيها السلاح الثقيل من الشتائم فقد كان خفيف الظل حلو الروح مرح الطبع اجتماعي المشرب سريع الالتهاب رقيق اليد والوجدان، له جبة فضفاضة وقامة قصيرة حوت ذكاء وظرفا وكونت شخصية فذة في نوعها). كما يخصص الأستاذ علي مصطفى المصراتي جانباً من هذا الكتاب للحديث عن جريدة “أبوقشة” ويعرف ببعض أبوابها ومحتوياتها ومواضيعها دون أن يتعمق في تحليلها فيورد أن (… الجريدة تناولت أحوال السياسة الداخلية والخارجية وتعرضت للمشاكل الدولية، ومن حملاتها المشكورة ما قامت به في أعداد متوالية بكتابة مقالات تنبه على خطر تأسيس الشركات الأجنبية والبنوك الاستعمارية، وتحذر البلاد من التهاون بشأنها، والأغراض المنطوية من وراء ذلك … إنه الأخطبوط الاستعماري يمد أرجله بمثل هذه الوسائل). ويضيف (تناولت الجريدة موضوعات اقتصادية تحدثت طويلاً عن شركة “الفسطاط” وعن الأجانب الذين يأتون للتنقيب في الصحراء متسترين بحجة الاطلاع على الآثار، ولهم من وراء ذلك أغراض وأغراض. وشملت موضوعات حيوية هامة، كما حوت بجانب السياسة والمقالات الجديدة ألواناً للهزل، وهو الصبغة الغالبة على صفحاتها، وإن كان هزلاً من وراءه حقائق ووقائع وإخلاص للوطن العربي، وعنيت جريدة أبوقشة بالأدب ونشرت قصائد لشعراء النهضة الحديثة أمثال قصيدة مطران في دفاعه عن اللغة العربية).
واستمر غياب الأسماء اللامعة المتخصصة بهذا اللون الصحفي في ليبيا حتى ظهور المرحوم الصادق النيهوم الذي سيظل بمقالاته الصحفية التي نشرها خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الماضي صوتاً مميزاً ورمزاً من رموز الكتابة النقدية الساخرة في ليبيا، يستنطق شخصياته الوطنية الخاصة به التي ابتكرها من وسط المجتمع وبين الناس الذين يخاطبهم، “الحاج الزروق” و”الحاجة مدللة” و”مسعود الطبال” وغيرهم، وبأسلوبه البديع الذي ظل يشد القراء في ربوع ليبيا الحبيبة، ويثير القضايا الاجتماعية المختلفة، يطلق العنان لمحركات عقول القراء وأفكارهم لتأمل وتدبر مضامين عباراته النقدية القوية. وكما يصف الأستاذ سالم الكبتي تجربة النيهوم في كتابه (طرق مغطاة بالثلج عن الصادق النيهوم) بأنها (كانت خليطاً ضخماً من الرؤى، ورصيداً واسعاً من الحلم بتغيير الواقع والإنسان وصولاً بهما إلى الأفضل دائماً) فإن منهجية تعاطي النيهوم مع النص الصحفي الساخر ستظل، بلا أدنى شك، أكثر غوصاً وعمقاً في الفكر والفلسفة والتاريخ واللغة، مع تقارب نسيج مقالاته لجنس القصة القصيرة، ولذا فهو يختلف بهذا التفرد عن غيره من الكتاب الليبيين.
ومع تواصل الحركة الصحفية الليبية في إنتاج الكفاءات والقدرات المبدعة ظهر خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي كاتب وطني ترك بصمة واضحة في ممارسة جنس الكتابة الصحفية الساخرة وهو الصحفي المرحوم محمد رجب طرنيش الذي مارس هذا اللون بأسلوب مميز، وقلم لاذع جريء لم تعهده الصحافة الليبية عبر مسيرتها العريقة. فقد اتسم قلمه بالانحياز إلى ليبيا الوطن، وصدق التعبير والنقد البناء والأسلوب التهكمي الاستفزازي، ومفردات اللغة البسيطة السهلة ذات المحتوى الموضوعي القيم، والزاخر بالاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال والتعابير الشعبية التي تؤتي مفعولها وتسكن أعماق القارئ. كما تتعزز لغته الصحفية بالأبيات الشعرية والعبارات المتداولة باللهجة الدارجة، والتعليقات والكلمات اللاذعة المبطنة التي يوردها ويضمنها بشكل ذكي، ليوظفها فتحمل أكثر من معنى، ويظهر تأثيرها جلياً فينعكس على القارئ بسرعة واضحة بداية من الابتسامة العريضة حين يبرز عنوان المقال الساخر بشكل مثير وجذاب يتوسط صدر الصفحة مثل (عن الموز الليبي أحدثكم) أو (هروكي يا حكومة غانا) أو (الوخز بالإبر الليبية) أو(صدقة ويا ليتها كانت جارية) وغيرها من العناوين الجذابة، ومن ثم تتنقل العيون تقلب سطوره، تتبعها محركات العقل بحسها المفعم بالغيرة على الوطن والتحسر على السلبيات والأدران المنتشرة في جسد هذا الوطن المظلوم، والتي كان يشخصها ويعريها ويفضحها ويكشفها في مقالاته، ومن ثم يأتي التفاعل الإيجابي لدى القارئ مع البدائل والمقترحات التي كان يطرحها ويعرضها الراحل طرنيش كحل لمعالجة السلبيات وللعديد من المختنقات والمشاكل التي تواجه غالبية الناس في ربوع ليبيا، والذين كان يرتبط معهم وجدانياً بعلاقات وطيدة تسودها المحبة والتعاون ومد يد المساعدة والتواصل الأخوي المثمر.
ومن خلال مشوار الصحفي الراحل محمد رجب طرنيش في العمل الأهلي التطوعي والمهني المصرفي والصحفي وشبكة علاقاته الإنسانية الضخمة نستطيع أن نؤكد بأن مصدر جل معلوماته وأفكاره هم هؤلاء الناس الذين كانوا هدفه ووسيلته في نفس الوقت، يسعى إليهم ليغوص في عذاباتهم وأشكال معاناتهم، فيبثهم تعاطفه، ويشاركهم همومهم، ويضم صوته إليهم، ويستمد منهم شخصياته وموضوعات مقالاته وذلك بنقل مآسيهم ومشاكلهم ونشرها بأسلوبه الصحفي الساخر على صفحات الجرائد، بكل روح التضامن الجماعي التي تأسست لديه منذ بدايات تنشئته المبكرة من خلال انخراطه في العديد من المؤسسات الأهلية مثل الحركة العامة للكشافة، ونادي بلخير الرياضي الثقافي الاجتماعي، وجمعية النور للمكفوفين، ونقابة عمال طرابلس، ونقابة عمال ومستخدمي المصارف والتأمين بطرابلس، والرابطة العامة للأدباء والكتاب، ورابطة الصحفيين والإعلاميين بطرابلس، وجمعية حقوق الإنسان وجمعية الأخوّة الليبية التركية وغيرها من الجمعيات الأخرى التي كان يمارس فيها نشاطه التطوعي الأهلي وهو ما يؤكد المرامي والغايات الإنسانية النبيلة التي كان ينشدها من خلال تلك النشاطات المتعددة بالمؤسسات الأهلية.
فالأستاذ محمد طرنيش الذي ولد بتاريخ الثامن من شهر مايو سنة 1952 بمدينة طرابلس وامتهن العمل المصرفي مبكراً، بدأ حياته الإعلامية سنة 1968 بالعمل مراسلاً لبعض الصحف والمجلات التي كانت تصدر آنذاك. ثم تحول للعمل كمحرر صحفي في صحيفتي “البلاغ” و”الشعب” في عهدهما الثاني في مطلع السبعينيات ثم أسهم في الكتابة وإدارة تحرير مجلات “لا” و”المركوب” و”الصحفي” و”الفصول الأربعة” وصحف “المشهد الثقافي” و”الشط” و”مال وأعمال” و”أويا” وغيرها من المطبوعات الأخرى. وتعتبر أبرز وأهم مقالات الراحل محمد رجب طرنيش النقدية الساخرة التي نشرها بزاويته الأسبوعية “جنان النوار” بصحيفة “الشط” التي كانت تصدر عما كان يسمى “اللجنة الشعبية للإعلام والثقافة بشعبية طرابلس” والتي تولى رئاسة تحريرها لبضعة سنوات وشهدت إبان ذلك نقلة وتطوراً ملحوظاً على المستوى المهنى الفني طال الشكل العام والإخراج، بالإضافة إلى المحتوى الموضوعي إثر استكتاب العديد من الأدباء والكتاب والصحفيين للمشاركة فيها. تأتي بعد ذلك مقالاته الساخنة في زاويته “في الهواء الطلق” التي ظل يكتبها أسبوعياً بصحيفة “مال وأعمال” منذ عددها الأول الصادر بتاريخ 1/6/2006 عن اتحاد غرف التجارة والصناعة وحتى آخر مقال نشره فيها بعنوان (الصناديق) بتاريخ 27 فبراير 2010، وقد أدت تلك المقالات إلى مضايقة المرحوم محمد رجب طرنيش وتعرضه للتحقيق والاستجواب بعد أن وجه أمين اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام “سابقا” نوري ضو الحميدي رسالة تحمل الرقم (أ.ق. 2844) بتاريخ 20/4/2008 إلى النائب العام يتهم فيها الكاتب محمد رجب طرنيش بعدة تهم جاءت كالتالي (… تسميم الرأي العام والتشكيك والإساءة لما تم ويتم من تحولات حضارية يحققها المجتمع الجماهيري، وذلك من خلال: (1) تعمد كتابة المقالات التي تستهدف إحداث البلبلة ونشر المعلومات غير الصحيحة بما ينتج عنه وصف أجهزة ومؤسسات الدولة بالقصور والعجز. و(2) التشكيك والإساءة إلى الخطط التنموية للمجتمع الجماهيري ووصفها بالعشوائية والفوضوية. و(3) التركيز على الجانب السلبي وتجاهل الجانب الإيجابي بقصد تضليل الجماهير. و(4) التحريض المبطن لكل ما يسيء إلى مكونات السلطة الشعبية).
ويسترسل المسئول في نفس الرسالة المشار إليها ليقول (.. ولأن ما كتبه المدعو محمد رجب طرنيش يندرج في خانة مضادة لتوجهات المجتمع الجماهيري، ومبادئ الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان، وقانون حماية الثورة. ولتجاوزه المتعمد والمتكرر لقانون المطبوعات ومواده التي تنظم الكتابة الصحفية مما جعل مقالاته وموضوعاته تشكل مادة خصبة تستغلها الجهات المعادية للإساءة والتشويه والافتراء على الجماهيرية العظمى ومشروعها الحضاري التاريخي.) فإنه في ختام رسالته يطالب النائب العام (… بمباشرة الدعوى الجنائية تجاه المدعو محمد رجب طرنيش وذلك باعتبار أن الوقائع المنسوبة إليه تشكل جرائم جنائية طبقاً لأحكام قانون المطبوعات وقانون العقوبات والقوانين المكملة له.)
وقد أدت المباشرة في ذاك الإجراء إلى إحالته للمحاكمة وإيقافه عن ممارسة دوره الصحفي، وقد تولى الدفاع عنه المحامي الأديب الأستاذ مفتاح قناو الذي تحدث عن ذلك في مقال له نشر بالعدد الأول من صحيفة “فبراير” الصادر بتاريخ 11/9/2011 عن هيئة دعم وتشجيع الصحافة فقال (.. كان لي شرف أن أكون محامياً للدفاع عنه في هذه القضية التي أراد النظام المنهار أن تكون سيفاً مسلطاً عليه طوال الوقت حتى لا يكتب مقالات أخرى تحرج النظام، وقد تم منعه من مواصلة الكتابة في صحيفة “مال وأعمال” وترك النظام الفاسد المنهار ملف هذه القضية مفتوحاً لتهديد المرحوم المبدع محمد طرنيش ولم يحكم في هذه القضية..).
وإثر تلك الإجراءات تضامنت رابطة الصحفيين والإعلاميين بطرابلس مع الصحفي الراحل محمد رجب طرنيش في وقفة احتجاجية تنديداً بإيقافه عن الكتابة وتقديمه للمحاكمة والتهديد بإعادة سجنه مرة أخرى، حيث كان المرحوم قد تعرض للسجن أول مرة خلال شهر يناير 1980 مع المرحوم الدكتور عمرو النامي الذي شاركه زنزانة بسجن “الحصان الأسود” بطرابلس، ثم خرج المرحوم طرنيش في شهر فبراير سنة 1984 وظل تحت الإقامة الجبرية في بيته لمدة ثلاثة شهور أعيد بعدها للسجن حتى سنة 1988 حين خرج نتيجة ظروف صحية سيئة ومعاناة قاسية مع المرض ظل بسببها نزيلا بمستشفى صلاح الدين ليجد نفسه بعدها تحت الإقامة الجبرية في بيته للمرة الثانية.
3- مقالات طرنيش النقدية
تعددت مقالات المرحوم محمد طرنيش النقدية اللاذعة وتنوعت الموضوعات التي تناولها وذلك بحكم نشاطاته ومشاركاته وعضوياته في العديد من المؤسسات الوطنية. ولكن تظل أبرز مقالاته الصحفية هي التي نشرها في زاويته الأسبوعية “جنان النوار” على صحيفة الشط ثم بصحيفة “أويا” لاحقاً، وزاوية “طقاش أبوهشام” بصحيفة الشط كذلك هي مجموعة مقالات قصيرة جداً ورسائل مكثفة تحتاج إلى قراءة خاصة، وزاوية “في الهواء الطلق” بصحيفة “مال وأعمال” وزاويته “بعد التحية” على صفحات جريدة “الجماهيرية”. وقد اعتمدت في هذه المقالة على رصد المقالات التالية من تلك الزوايا:
– أولاً: زاوية “جنان النوار” بصحيفة ”الشط”
نشر المرحوم مقالات زاويته الشهيرة (جنان النوار) بجريدة الشط الأسبوعية الصادرة آنذاك عما كان يسمى (اللجنة الشعبية للإعلام والثقافة بشعبية طرابلس) ثم (الهيئة العامة للصحافة) لاحقاً، وصحيفة “أويا” التي صدرت عن شركة الغد للخدمات الإعلامية. وقد قمت بتجميع عدة مقالات من زاوية (جنان النوار) نشرت معظمها بصحيفة “الشط” وبعضها بصحيفة “أويا” جاءت بياناتها متسلسلة وفق الأعداد والتواريخ التالية: (أنظر جدول (1): زاوية “جنان النوار” بصحيفة ”الشط“).
وبالاضافة إلى هذه المقالات طالعت العديد من مقالات المرحوم محمد رجب طرنيش في نفس الزاوية دون بيانات نشرها، وعناوين هذه المقالات جاءت كالتالي: أطفالنا الفائزون بالذهب، الجمعية وسيدي منصور يا بابا، انقطاع في الليل والنهار، نزهة بحرية، دلع المتقاعدين، المعاكسة بين الماضي والحاضر، فوائد الحمير، رمضانيات، جمعية حماية الفقوص، فوائد الغدران، إدارة المؤسسة علم وفن وهندسة، هيا نقيم ندوة، الإجازة على الطريقة الليبية، هنا … وريّمة، ملاحظات، عقبال الباقي، عيب يا جماعة، مرة أخرى، عام النامس، فضائيات … فضائيات، عفواً يا شيخنا، مهمة رسمية، أنا والجمعية وهواك عايشين لبعضينا، حنش السوكني، ارتفاع درجة الحرارة، الإدارة المحلية والألعاب الشعبية، الطبيخة الليبية بين الاقتصاد والسلع التموينية، شكراً أهل وريّمة، متفرقات، القاضي وقاطع الأشجار، جري الوحوش الضاربة، تشاركية الحاج عجاج للخطبة والزواج، الكلام والهندام والذوق العام، نعم طرابلسية … ولنا الفخر، عالماشي (مجموعة مقالات بنفس العنوان في نفس الزاوية)، يوميات مدير، رياضة حمل الزوجات، قصتي مع سعد زغلول، بلا عناوين، الدجاج والحد من النسل، القراء والدجاج، طرابلس بلا مواقف سيارات، تشاركية العجاج مرة أخرى، البقرة “المهبولة”، حلم ليلة قرة عنز، أربعة في عنز، العبارة في الاستعارة، لقطات، مفارقات.
ولعل أبرز ما تكشفه لنا هذه المقالات أن المرحوم محمد طرنيش قد ابتكر شخصية نقدية تهكمية خاصة به سماها (شعبانيوس عسلوزيوس) في مقاليه (مهمة رسمية) و(فوائد الحمير) ولا نعرف سبب عدم استمراريتها في مقالاته التالية.
– زاوية “في الهواء الطلق” بصحيفة “مال وأعمال“
بدأ المرحوم محمد رجب طرنيش نشر زاويته “في الهواء الطلق” بصحيفة “مال وأعمال” الصادرة عن غرفة التجارة والصناعة بطرابلس منذ صدور عددها الأول بتاريخ 1/6/2006 وبعد ذلك اختار أن يضيف إلى عنوان تلك الزاوية عبارة بارزة تقول (لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها) وظل يكتب تلك الزاوية حتى آخر مقال له بتاريخ 27 فبراير 2010 وقد جاءت بعض مقالاته متسلسلة كالتالي: (انظر جدول (2): زاوية “في الهواء الطلق” بصحيفة “مال وأعمال“)
4- نماذج مختارة من مقالات طرنيش
ترتكز هذه القراءة الانطباعية على مجموعة من مقالات المرحوم محمد طرنيش أحاول استعراضها كنماذج للكتابة النقدية الساخرة التي برع فيها. وقد اخترت ثلاثة مقالات من زاويته (جنان النوار) هي (الوخز بالإبر الليبية) و(عن الموز الليبي أحدثكم) و(هروكي يا حكومة غانا)، ومقالتين أخريين من زاويته (في الهواء الطلق) هما (صدقة ويا ليتها كانت جارية) و(عشوائية البناء … وفوضوية الإزالة!!) لما تميزت به هذه المقالات من براعة في النظم والنسق وعمق الدلالة والتعبير والوخز اللاذع والتهكم الساخر، وفي المقابل أيضاً ما نتج عنها من إجراءات تعسفية ضد كاتبها الصحفي الراحل محمد رجب طرنيش، واخترت ترك المجال مفتوحاً للمهتمين، للتوسع في هذه القراءة لتشمل بقية المقالات الأخرى وغيرها من أعمال الراحل كافةً.
أول ما يستوقفك في مقال “الوخز بالإبر الليبية” هو التساؤل عمّا هي الإبر الليبية وهل لدينا في ليبيا مصانع تنتج مثل هذه البضاعة؟ ولماذا هذا التميز في التسمية وعقد المقارنة بينها وبين الإبر الصينية المشهورة؟ وقد جاء هذا المقال العمودي مصطفاً في سبعة فقرات قصيرة ليعرف في بدايته بالإبر الليبية فيقول (… المبدعون الليبيون من المتخصصين “وهم كثر” في جهازنا الإداري لهذا النوع من “طز الإبر” لا يتورعون في استعمال كافة الأساليب للوصول إلى الهدف وبأسرع الطرق..)
ويورد الكاتب عدة صور للسلوك المشين الذي يتحدث عنه فيقول (… بعضهم اتجه نحو العلاقة الاجتماعية فهي الملاذ الأول والأخير لحمايته، وبعضهم لم يجد سوى اصطحاب زوجته إلى منزل المسئول لإيصال وجهة نظره عبر زوجته التي يسرها ويرضى غرورها أن تكون محط اهتمام وملجأ لهذا النوع من فصائل البشر … أما البعض الآخر فقد اختصر الطريق الذي تبث فعلاً أنه الأسرع والأفضل والآمن والأكثر فاعلية وهو استعمال صديقته وزميلته أو عشيقته بهذه المهمة، وهل يمكن رفض أي طلب لأم العيون جريئة وخاصة بالعدسات؟).
ويؤكد فاعلية هذه الطرق فيواصل قائلاً (… لا أعتقد أن اثنين سيختلفان على أن هذه الطرق في التعامل هي التي ساهمت في انتشار الوساطة والمحسوبية والرشوة، وإذا لم يكن المسئول هو الذي يمارس هذه الطقوس فمن حوله هم الذين يزينون له وجهة النظر الأحادية حتى يتخذ القرار الذي يخدم أهدافهم ومصالحهم، وهو غالباً ما يسبب الضرر للآخرين وبالمصلحة العامة). ثم يعزز قوله وتحليله بالاقتباس من الموروث الشعبي فيلجأ إلى استحضار الأمثال الشعبية، والاستدلال بالآيات القرآنية لتقوية الفكرة التي يوردها والنصائح التي يقدمها حين يمضي قائلا (… لا ننسى في هذا الموضوع المثل الشعبي القائل “الشرع يسمع من اثنين” وهو بالفعل ما يجب أن يفعله كل مسئول قبل اتخاذه القرار، فالصورة التي تأتي إليه من طرف واحد لا يمكن أن تكون واضحة المعالم لأنها تعطيه نصف الحقيقة وليست الحقيقة كاملة، وحتى تكتمل الصورة لابد من رؤيتها من جميع أطرافها، ولننطلق بذلك من مفهوم كلمة واحدة فقط من كتاب الله العزيز وهي قوله تعالى “فتبينوا” وربما جميعنا يعلم بقية الآية الكريمة..).
ومنذ بداية المقال اختار الكاتب أن يضع الكلمة العامية (طز الإبر) والتي تعني بالفصحى حقن الإبر بين قوسين وسط متن المقال ليبرز الدلالة وأهمية المعنى والرمز الذي يستخدمه في التعبير عن فكرة مقاله الذي يشخص فيه حالة الإدارة الليبية وطبيعة المسئول في معالجة بعض المواضيع من خلال سيطرة شلة أو مجموعة المنتفعين من بقائه على منصبه. والكاتب إذ يطالب بضرورة الاستماع إلى طرفي المعادلة معززاً طلبه بالمثل الشعبي، ومستهجناً أو متهكماً على بعض الأمثلة غير الأخلاقية المتبعة في غسل دماغ المسئول بطرق وأساليب منبوذة دينياً وأخلاقياً، يوجه نصائحه وحثه المسئول على أن الصورة لا تكتمل إلا بالاستماع إلى طرفيها حتى يكون قراره الإداري الذي يتخذه صائباً، ويستدل بالآية القرآنية لتأكيد ذلك.
هذا مقال يشخص حالة ويعرض علاجاً. وما بين المشكلة والحل يطالع القارئ الفكرة معززة بكل القرائن بلغة سهلة وبسيطة تجعله يتقبلها بكل امتنان وتوافق مع الكاتب.
أما مقالته (عن الموز الليبي أحدثكم !!) المنشورة بصحيفة الشط فقد جاءت استخفافاً واستهجاناً للخطط والبرامج غير المدروسة التي تنفذها الحكومة عشوائياً بلا دراسة جدوى اقتصادية أو تقدير العوائد النفعية على المواطن. ومن بين هذه المشاريع زراعة أشجار الموز التي أقيمت في ليبيا. ويستمد الكاتب الراحل محمد طرنيش موضوع مقاله من مشاهدة مرئية ظهر فيها أحد المسئولين بالحكومة على شاشة الإذاعة يزف بشرى البدء في مشاريع الموز في ليبيا لينقل للقارئ تلك الصورة المرئية عبر قلمه فيقول (منذ عدة سنوات ظهر علينا عبر المرئية الليبية مسئول جميل المنظر، بهي الطلعة، حلو البسمات، يحمل بيمناه عصا رقيقة من رقائق الخشب، يشير بها إلى بعض المواقع على خارطة كبيرة لبلادنا الحبيبة، ويحادث عدداً من المستمعين إليه بقوله: هذه المواقع “اللي” تم اختيارها لإقامة مشاريع زراعة الموز وهي “اللي” اخترناها بكل عناية، وتتوفر فيها كافة الشروط والمقاييس والمواصفات العالمية، وبعد دراسات كاملة قامت بها أكبر الشركات المتخصصة في مثل هذا النوع من المزارع).
وبعد أن قدم وصفاً إيجابياً لصورة ذاك المسئول دون أن يكشف اسمه أو يتطرق إلى صفته الوظيفية يستمر في سرده ناقلاً عنه (.. تقول الإحصائيات التي نتجت عن تلك الدراسات والأبحاث “أيها الأخوة” أنه بعد حوالي ثلاث سنوات إلى خمس سنوات سيتم إغراق السوق الليبي من هذا النوع من الفواكه وسيكون متواجداً طوال العام وسيتم الوقف الفوري لاستيراده من الخارج، وسنقوم بتوفير المبالغ المالية “اللي” كنا ندفعها إلى استيراد الموز وتوفيرها إلى تحسين مستوى الإنتاج وفق ضوابط ومعايير الموز العالمية، كما سيتم تنظيم وترتيب هذه المشاريع بحيث تغطي كامل تراب بلادنا الحبيبة، وسوف لن تكون هناك مشكلة تسويقية، ففي وسط عدد من المشاريع تقام مزرعة للموز فتغذي ما حولها من مناطق، وسنقوم بتوزيع الموز عبر الوسائل المشروعة بحيث يصل إلى كل مواطن في كل مكان بلا عناء ولا تعب ولا مشقة ولا رهق ولا إرهاق).
وبعد البيان الاقتصادي المنقول عن ذاك المسئول كما قدمه لنا الكاتب المرحوم طرنيش نستشف من اللغة التهكمية الهادئة أن الكلمات تخفي وراءها ابتسامات ساخرة موغلة في التهكم على المعلومات التي أوردها ذاك المسئول توحي بعدم رضى الكاتب ولكنه يواصل في سخرية مبطنة هادئة (.. فالجميع سيأكلون الموز وسيتعودون على رؤيته منذ نعومة الأظافر).
ثم يرجع بنا الكاتب إلى السنوات التي توقف فيها استيراد الموز نهائياً ومنعه إلى جانب العديد من الفواكه والمأكولات من دخول أسواقنا الوطنية وما ترتب عن ذلك من حرمان الأطفال من تغذية أجسامهم بتلك الفواكه وبالتالي عدم معرفتهم لها وجهلهم بها تماما كقيمة غذائية، فيحاول المرحوم طرنيش طمأنة القارئ مورداً بعض الطرائف (… سوف لن تتكرر تلك الحكايات التي سمعناها في سنوات العجاف عن الطفل الذي فر هارباً عند مشاهدته الموز فهو لم يعرفه ولم يتعود عليه، وذلك الطفل الذي نزع القشرة وأكلها ورمى بالموزة معتقداً أنها “نوى” الموز… وبعد ذلك سنقوم بتصديره إلى البلاد التي لا توجد بها مزارع للموز ولا يوجد بها من يفكر في زراعته).
ويواصل العزف على الجانب الأسري الخاص والاجتماعي والاقتصادي العام فينقل لقارئه ابتهاجه الساخر فيقول (… في الحقيقة فرحنا كثيراً، فقد أصبحنا نزرع ونأكل ونصدر الفائض من موزنا الليبي الرائع … وهكذا لن تكون هناك مشكلة بين المواطن وزوجته مثلاً، تلك الحامل التي يأتي وحمها على الموز في غير وقته، فيتعب المسكين نفسه لإحضاره ثم يكتشف أنها توحمت على الموز الصومالي بينما أحضر هو برتغالي، فمثل هذه المعاناة سوف تختفي نهائياً عند المواطن الليبي…)
في الفقرات السابقة وضع كاتب المقال المرحوم طرنيش بعض الكلمات داخل قوسين مثل “اللي” و”هاذيك” و”أيها الأخوة”، وهي على ما أعتقد قد نقلها حرفياً من كلام المسئول، محاولاً بذلك تقديم صورة حية لأسلوب حديث المسئول نفسه للقارئ.
ثم مع بداية مرحلة إنتاج الموز وتوزيعه يصور لنا الكاتب بأسلوبه الساخر غير المنفعل بعض مواصفات هذا المنتوج اللذيذ الذي لم تعرف بلادنا إطلاقاً زراعته في السابق (… بعد عدة سنوات تم توزيع الدفعة الأولى من باكورة الإنتاج الموزي الليبي، ورغم ما يقال عن اخضراره، وقصر حجمه، وصعوبة بلعه، وبطء هضمه، وغرابة لونه، وعجائب مذاقه، وغيرها من الإشاعات التي يرددها عدد من المتشككين الحاقدين، فهو موز ليبي علينا قبوله والرضى به، وهي مراحل لابد أن تمر بها كل تجربة زراعية أو صناعية في بداية مشوارها، ففي بطون من يمكن إجراء التجارب طالما أن الموز موزنا؟)
ويختم المرحوم محمد طرنيش الفقرة السابقة من مقاله بسؤال لا يمكن أن تختلف الإجابة عنه لدى أي مواطن غيور على بلده. ولكن وإن كانت الإجابة واحدة إلا أن التأويلات والابتسامات والضحكات التي يفجرها مغزى ذاك السؤال لا تتوقف عند لون واحد أو نوع معين من الاستخفاف بالعقلية المفكرة للخطط والبرامج والمشاريع الوطنية.
وتأتي الفقرة الأخيرة من المقال لتفجر المفاجأة أمام القارئ وهي انقطاع الموز مجدداً من أسواقنا الليبية رغم مشاريع زراعته وإنتاجه محلياً في بلادنا كما يخبرنا الكاتب حين يقول (.. ولكن وبعد عدة سنوات اختفى الموز ولم نعد نسمع عنه أو عليه .. ثم سمعنا أن المشاريع “هاذيك” قد ألغيت وتلاشت … وعصفت بها عواصف الزمن ورياح القبلي، بل وأكثر من ذلك قالوا أنها أضحت قاعاً صفصفاً، فبدلاً من أصابع الموز الليبي حلت محلها عكاكيز موسى، بل ويقال أنها تم تقسيمها على مستحقيها من المسئولين ممن قرروا إقامتها من العاملين عليها).
ونلاحظ أنه في ظل التعتيم الإعلامي عن مصير مشاريع زراعة الموز الليبي وتوقفها اعتمد الكاتب في مقاله على السمع والقول “سمعنا” و”قالوا” وهو نقل ما يدور بين الناس، بمعنى انحيازه في مصادر معلوماته وهي عامة الناس البسطاء وكلام الشارع من خلال تركيزه على “القول” لكي ينقل الكرة في ملعب الطرف الآخر لتأكيد أو نفي ذلك القول المتعلق بتقسيم أصابع الموز أو أراضي مشاريع الموزع على “مستحقيها من المسئولين” وهي إشارة يغمز بها بكل ذكاء رغم أنه لم يحدد هل التقسيم يعني به توزيع أصابع الموز على الناس، أم يعني تخصيص أراضي مشاريع الموز وتقسيمها على المسئولين!. وكما هي عادته لتعزيز ما يقدمه للقارئ بالاستدلال والاستعارة من القرآن الكريم فقد جاءت هنا بشكل غير مباشر حين وصف ما آلت إليه مشاريع الموز “أضحت قاعاً صفصفاً” وأنها استبدلت ب”عكاكيز موسى” وهي جمع لنبات “الزفزوف” الذي يطلق عليه بالعامية “عكوز موسى” أي عصا أو عكاز سيدنا موسى عليه السلام، وهو نبات شجيري لا قيمة أو أهمية له، ينبت عشوائياً على السواتر الترابية بين المزارع “الطوابي” أو على جوانب الطرقات، تحمل سيقانه أوراقاً بسيطة وثماراً متفتحة، وأزهاراً صفراء اللون تعطي رحيقاً لذيذاً، واستحضار المرحوم طرنيش لهذا النبات في نصه هو تلميح بأن مشاريع الموز صارت ليست لها أية قيمة نفعية ولم تعد صالحة لأي شيء ويا خيبة المسعى والجهد والمصاريف التي أنفقت في سبيلها ومن أجلها.
ويستدرك أبعاد تلك الإشارة الرمزية المبطنة بالاتهامات الخطيرة التي يوجهها للمسئولين على مشاريع الموز فيقول في ختام الفقرة الأخيرة من مقاله (.. ولا يجب أن تسيئوا الظن بهم فقد حاولوا مع الموز فلم يحالفهم الحظ، فلماذا لا نعطيهم الفرصة لزراعة نوع آخر بعد تمليكهم المواقع إذ ربما ينجحوا وتعم الفائدة على الجميع). وبمزيد من التهكم على العقلية الفاسدة العقيمة في التخطيط لمشاريع وطنية حقيقية يقدم اقتراحاً يجعله فخاً لتلك العقلية (.. وبهذه المناسبة أقترح عليهم تجربة واحدة من نوعين نحن نحتاج إليها بعد الموز الليبي هما “الليم الزنبوعي وتفاح النم…”). وهنا إذ يعود لاستعمال الأمثال الشعبية كعادته فإنه يجمع في سطر واحد مثلين ناقصين تاركاً للقارئ الكريم مهمة فصلهما واستكمالهما لكي يتحصل على المعنى الكامل للرسالة التي يود تمريرها. فكلمة “الليم الزنبوعي” هي جزء محور من المثل الشعبي المتداول بين الناس بصيغة “توا نوريك ليم الزنباع وين ينباع”، واستحضاره هنا هو رسالة تحدي مفادها الشعور المؤكد باستحالة نجاح أو حتى ظهور هذه المشاريع للوجود مجدداً. أما المثل الثاني فلا يتضح معناه إلا بعد أن يكتمل ويضاف إليه شطره الثاني ليصبح “تفاح النم … لا يتكل ولا ينشم” بمعنى أن هذا النوع من التفاح رديء المذاق وكريه الرائحة وبالتالي فهو لا يصلح للأكل ولا للاستمتاع برائحته. وهذا المثل يكمل ما لمح إليه في المثل السابق ليؤكد بأن كل البرامج التي نفذت تفتقد إلى الدراسة المستفيضة الجادة والتخطيط المتعمق الذي يهدف إلى صالح الوطن والمواطن وبالتالي فلا فائدة مرجوة منها.
أما مقالته الساخرة الثالثة بعنوان “هروكي يا حكومة غانا” فقد جرّت العديد من المشاكل على الأستاذ المرحوم محمد رجب طرنيش حين تقدمت سفارة غانا في طرابلس بشكوى ضده لدى الخارجية الليبية، وظلت تسعى وراء المختصين في المأثورات الشعبية الليبية لترجمة كلمة “هروكي” العامية ومعرفة معناها وتفسيرها حسب اللهجة الليبية. وقد اعتمد الكاتب في هذه المقالة على خبر أضحكه وبعث فيه الرغبة للكتابة، ويحكي ذلك في مستهل المقالة المنشورة في صحيفة “أويا” الصادرة عن شركة الغد للخدمات الإعلامية بقوله (عندما قرأت الخبر لم أتماسك نفسي من الضحك “وشر البلية ما يضحك” فقد أنتشر كما تنتشر النار في الهشيم، فهذا الخبر لم يضحكني وحدي بل ضحك منه كل من قرأه أو اطلع عليه أو سمع به) ثم بعد ذلك يكشف لنا الكاتب عن فحوى الخبر (.. الخبر الذي تناقلته كافة وسائل الإعلام العالمية يقول بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي إلى غانا المدة الماضية فقد أصدرت الحكومة الغانية قراراً بتسمية شارع من أكبر شوارع عاصمتها على اسم الرئيس الأمريكي جورج بوش!!).
ثم يسخر من طريقة إعلان الخبر والمستوى الرسمي الذي أذاعه أو بثه والعقلية المتدنية لإدارة دفة الأمور في تلك الدولة الإفريقية وحكومتها واصفاً أعضاءها ب”الهراوكة” وهي صفة تجمع كل أشكال التهكم والسخرية والاستهزاء والاستخفاف أطلقها الكاتب على المسئولين في حكومة غانا (.. كان يمكن للخبر أن يمر مرور الكرام لو أن تسمية الشارع جاءت بقرار من عميد بلدية العاصمة أو من ينوب عنه من “الهراوكة” أمثاله وهم كثر ليس في غانا وحدها بل في القارة جميعها … غير أن الملفت للنظر والمثير للضحك إلى حد البكاء على مستقبلها هو أن القرار من الحكومة!! وهذا معناه أن الاقتراح قد تم تقديمه ثم إدراجه في جدول أعمال رئاسة الوزراء، وتمت مناقشته وإقراره والمصادقة عليه!! وكأن جميع مشاكل غانا قد حلت وأن المواطن الغاني لم يعد يعاني، وأن حياته ملؤها السعادة والرفاهية ولم ينقصه سوى ساعات من وقت الحكومة لإصدار هذا القرار العجيب الذي من المؤكد أن الموافقة عليه كانت بالإجماع..).
ونحن إذا سلمنا بأن طبيعة علاقة نظام القذافي مع الدول الأفريقية كانت تتسم بالخصوصية والغموض وتعدد الملفات والمساومات المالية والسياسية والاقتصادية وسريتها، والعمل المستمر على بقاءها متينة وقوية من أجل مصالح مشتركة بين الطرفين، وبالتالي فإنه كان من غير المسموح التوجه إلى الحكومات الأفريقية بأي شكل من أشكال النقد أو التهكم أو التندر أو السخرية من أفعالهم الغريبة وتصريحاتهم المتضاربة أحياناً، ولكن ما أورده الراحل محمد طرنيش في الفقرة السابقة من مقاله كان أمراً غير مقبول من النظام وغير مسبوق من الكتاب والصحفيين، خاصة وأنه لا يجعل صفة “الهراوكة” مقتصرة على الغانيين فحسب حين يقول (.. من “الهراوكة” امثاله وهم كثر ليس في غانا وحدها بل في القارة جميعها..) وهذا التعميم هو إشارة رمزية خطيرة لا تقف عند مكان أو شخص محدد سواء في ليبيا أو القارة الأفريقية.
وبعد أن يتعرض بالنقد اللاذع للرئيس الأمريكي جورج بوش يعود لتوجيه سهامه إلى الأفارقة فيقول عنهم (.. هذه الخطوة تدل على مدى العقلية المتخلفة التي تسير الحكومات الأفريقية) وهو حين يصف عقليتهم “بالمتخلفة” فإنه بكل جرأة وشجاعة يبعث رسالة إلى الحكومة الليبية مفادها أن من تتحدون معهم وتؤيدونهم وتنحازون إليهم وترتبطون معهم بعلاقات سياسية واقتصادية متينة وقوية هم في الحقيقة دون مستوى التفكير الحضاري، وبالتالي فإن ما تقومون به هو مضيعة للجهد والوقت وإهدار لإمكانيات الوطن. وهو بهذه الإشارة المشاكسة يعلن عن مواجهة مباشرة مع الحكومة الليبية حين يطعن في قدرات أصدقائها وحلفائها وينعتهم بالتخلف. ولا يتوقف عند هذا الحد بل يستمر في الغوص لتعرية العقلية الغانية المتخلفة حين يختتم مقاله بالقول (.. أما الذي يثير الشفقة والرثاء على الحكومة الغانية أنها تقوم بإصدار قرار بتسمية أحد أكبر شوارعها على هذا السفاح الأمريكي في ذات الشهر بل في الأسبوع نفسه الذي تقوم فيه أكثر من عاصمة أوروبية بإقامة تمثال للمناضل الإفريقي “نيلسون مانديلا” تقديراً وعرفاناً وإعجاباً… وهروكي يا حكومة غانا..). وهكذا يختم هذا المقال بنفس العبارة القوية التي تصدرت عنوانه.
أما المقالين التاليين للمرحوم محمد طرنيش فلابد من التأكيد على أنهما اعتبرا من أخطر ما كتب في الصحافة الليبية عن نقد الأداء السيء للحكومة الليبية بجانب مقاله الذي نشره بعنوان (أمناء من قيام الثورة إلى قيام الساعة). وقد أثارا هذين المقالين عواصف شديدة من الإجراءات التعسفية ضده. فالمقال الأول (صدقة ويا ليتها كانت جارية!!) المنشور في زاويته بصحيفة مال وأعمال جاء استمراراً لنفس النهج والأسلوب الساخر في نقده الإجراءات الإدارية وعقلية التفكير والتخطيط للحكومة ولجانها الشعبية ومسئوليها. ومنذ بداية المقال وبشكل غير مباشر يتهم المرحوم طرنيش “اللجنة الشعبية العامة” سابقاً بالغياب عن معايشة هموم الليبيين ونومها وانعزالها وغيابها عن متابعة أحوال وأوضاع الليبيين، ثم يوجه سهام نقده اللاذع لما تفتق عنه ذهنها وتوصلت إليه من تفكير وتدبير وتنفيذ منح الليبيين مبلغ بسيط محتشم وصفه “بالصدقة غير الجارية” أي المنحة التي تصرف لمرة واحدة ولا تستمر بعدها (وأخيرا استيقظت اللجنة الشعبية العامة من سباتها العميق واكتشفت أن هناك من الليبيين يحتاجون إلى نجدتها ومساعدتها وشعرت “أدامها الله لسنوات قادمة” بأن هناك فئات من أبناء هذا الشعب تستحق اهتمامها ورعايتها وحنانها وعطفها فتصدقت عليهم بصدقة يتم صرفها للغلابة من أبناء هذا الوطن لمرة واحدة!! “ليست صدقة جارية..“).
وإمعاناً في التهكم على الحكومة ممثلة في اللجنة الشعبية العامة “سابقاً” فهو يدعو لها بالبقاء والدوام لسنوات تالية ويظهر ذلك من خلال عبارة “أدامها الله لسنوات قادمة” التي يضعها بين قوسين بارزين، ويستمر في قرعها وتذكيرها بقوانينها “الظالمة وسيئة الذكر” كما يصفها (بعد ربع قرن من صدور قانونها الظالم سيء الذكر رقم 15 الذي أذاق المواطن الليبي مرارة المذلة وظلم الهوان فتتصدق على المواطن بمبلغ هزيل يشكل في مجموعه وأحماله ما يتم إنفاقه في حفل عرس لأبن أحد كبار رجال الدولة من الليبيين “الدرجة الأولى” وهو المبلغ الذي أقل ما يقال عنه أنه ضحك على ذقن المواطن البسيط الذي قيل عنه في يوم ما “صاحب المصلحة الحقيقية في الثورة”). ويواصل إبراز وإظهار عباراته الرمزية بوضعها بين قوسين فجاءت عبارة “الدرجة الأولى” كتلميح عن الفوارق والطبقات الاجتماعية وعبارة “صاحب المصلحة الحقيقية في الثورة” كإعلان عن زيف الشعارات التي رفعتها الثورة.
بعد ذلك يسترسل في نقده للجنة الشعبية العامة “سابقاً” وتوجيه أسئلة حساسة وخطيرة إليها يبدأها بالتشريعات والنصوص القانونية التي استندت عليها في قرارها المعني واستخفافها بحقوق المواطن الليبي بدل صونها وحمايتها (كيف يمكن لهذه اللجنة الشعبية العامة وبعد ربع قرن من الاستقطاعات المتواصلة، والتي كان أغلبها إن لم يكن جميعها، لا يستند إلى أبسط المراجع القانونية والتي ساهمت في تقطيع أوصال المرتب الهزيل أصلاً حتى أصبحت رواتبنا طرفة نادرة تتندر بها الشعوب من حولنا. كيف يمكن لها أن تستهين بالمواطن إلى هذه الدرجة..؟).
ويواصل المرحوم طرنيش مقالته عارضاً مشكلة قانون المرتبات وبعض الحلول المقترحة لمعالجته شارحاً إجراء صرف المنحة الذي طال حتى الليبيين المحرومين من الثروة، مستفسرا في آخر هذه الفقرة عمّن حرمهم أساساً منها! وهو سؤال خطير لا أظن أن اللجنة الشعبية العامة “سابقاً” كانت تقدر أو تملك أن تجيب عنه لحساسيته ولعلاقته المباشرة برأس هرم السلطة الحاكمة، وهو بالتالي يضعها في موقف صعب ومحرج في مواجهة الليبيين (.. وبدلاً من علاج آثار كارثة قانون 15 وإعادة النظر في الرواتب بصفة عامة وحل المشكلة من جذورها، ها هي تخرج علينا بهذا القرار الذي ينص على توزيع بضعة آلاف من الدنانير على المواطنين بما في ذلك المحرومين من الثروة “ولم نعرف حتى الآن من الذي حرمهم منها”؟.).
وبعد أن تصاعدت وثيرة المقال بهذا السؤال صار الكاتب لا يضع سقفاً أو حداً للمواجهة مع اللجنة الشعبية العامة “سابقاً فواصل تقريعها والسخرية منه والتأسف عليها مستعيناً كالعادة بالمثل الشعبي (لا شك أنه أمر مؤسف حقاً أن لجنة شعبية عامة أثقلت كاهلها واجتمعت بكامل عددها وأطقمها وبما لديها من خبراء لتقرر هذه الصدقة التي ستسجلها ذاكرة الأجيال كواحدة من أغرب غرائب قرارات اللجنة الشعبية العامة في تاريخ ليبيا “الجنازة كبيرة والميت فأر“).
وبعد أن وجه ضربته القاضية وفجر غضبه واستيائه حاول في نبرة أخف حدة مما سبقها أن يخاطب خبراء وأعضاء تلك اللجنة بكل هدوء ليبين لهم أن إجراءهم وقرارهم مخجل جداً مستدلاً بفارق القيمة المالية التي صرفتها السلطة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني والتي تعتمد في ميزانيتها على المنح والهبات الدولية (..أود أن أهمس في أذن الخبراء الذين تفتقت أذهانهم على قيمة وطريقة توزيع هذه الصدقة أن السلطة الفلسطينية وهي تعيش في ظل احتلال صهيوني وعلى مساعدات وهبات الدول الأجنبية والجمعيات الخيرية العالمية قررت الأسبوع الماضي صرف مبلغ قدره 340 دولاراً لكل موظف، ويعلم الجميع أن هذا المبلغ يساوي 442 دينار ليبي!! وهو ضعف ما تصدقت به اللجنة الشعبية العامة التي تعيش في دولة تقع على بركة من النفط والغاز!!.).
وكما تعود من الكاتب الراحل الأستاذ محمد طرنيش أن ينقل هموم ومشاعر وتعليقات المواطن وكلام الشارع الناقد لإجراءات الحكومة يختتم مقالته بالقول (ختاماً.. أطرف ما سمعته كان من مواطن يستلم هذه الصدقة من المصرف بأيد مرتعشة وهو يقول: “اللي يجي منهم .. خير منهم”) وهو قول يعكس مستوى قبول الحكومة الليبية لدى مواطنيها.
أما مقاله الثاني (عشوائية البناء .. وفوضوية الإزالة) الذي عرّض الكاتب المرحوم لعقوبة الحرمان والمنع من مواصلة الكتابة الصحفية يبدأه الأستاذ طرنيش بفتح ملفات الماضي للحكومات المتتالية وما سببته من هلاك للبنية التحتية فجاءت كلماته عميقة الإحساس والدلالة ومعبرة ومؤثرة انطلقت بزفرات حزينة وآهات مؤلمة يكرر فيها عبارة “ربع قرن” عدة مرات إشارة إلى المدة الزمنية البالغة خمسة وعشرين سنة ضاعت بلا إنجازات حقيقية لهذا الوطن (ربع قرن بكامل سنواته كانت فيه حكوماتنا المتعاقبة تنام في العسل اللذيذ، فقد توقف تخطيطها للمدن طيلة هذا الربع قرن. ربع قرن من الزمان كان كفيلا ببناء دولة بمرافقها ومؤسساتها، قضته حكوماتنا المتتالية تغط في سباتها العميق.(.
ويواصل بث شجونه للقارئ عازفاً على وثيرة العشق للوطن والاعتزاز بالانتماء إليه، وينقل ذلك المعنى من خلال إبراز عبارتين يضعهما داخل قوسين وهما “يا كبدي على بلدي” و”يا حبة عيني يا وطني” فيقول (.. ربع قرن “يا كبدي على بلدي” كانت كافية لبناء الإنسان الليبي الجديد الذي وعدونا ببنائه خـُلقا وثقافة ووعيا ووطنية وانتماءً وسلوكا. ربع قرن “يا حبة عيني يا وطني” ضاعت من عمره الحبيب وتسربت كما تتسرب المياه ما بين الأصابع سريعا فائقة السرعة.(.
ويواصل (.. ربع قرن من الزمن مرت بلا تخطيط ولا بناء ولا تشييد وقضاها المواطن الليبي في حيرة من أمره فأزمة السكن فاقت كل تصور وتحولت إلى كارثة تقض مضجع الليبيين ولا سبيل سوى البناء العشوائي في غياب كامل مذهل للدولة العجيبة، هذه الدولة التي رفعت يديها عن معاناة المواطن وتركته (يحوس في كسبرة).. ها هي اليوم تزيل عشوائياته وتستعين بكل ما لديها من رجال أمن، فإما الإزالة في أيام معدودة أو الهدم على ما فيه وما يحتويه!!).
هنا نجده يحدد الموضوع الذي يتناوله في المقال منطلقاً من أزمة السكن التي يعاني منها المواطن والتي بسببها اضطر إلى الاعتماد على نفسه وبناء مسكنه بشكل عشوائي وفقاً لإمكانياته المادية المحدودة والفنية المتواضعة فكان أن اختار التصميم الهندسي الذي يتلاءم ويتماشى مع حاجته وموقع البناء الرخيص الذي يستطيع تدبير سعره وتكاليفه، بعد أن تخلت عنه الحكومة وألقت به في شباك الحيرة أو كما وصفه الكاتب القدير (يحوس في كسبرة) وهو تعبير يشير إلى حالة الارتباك والتخبط والعجز وعدم المقدرة على اتخاذ القرار التي يعاني منها المواطن.
ويستمر في تكرار جملته اللازمة “ربع قرن” فيقول (.. ربع قرن من الصمت الرهيب وها هي اليوم تحيله إلى صراخ على التغيير الذي سيحلق بالوطن في مستقبل أيامه المشرقات!! وتعود الدولة بعد غيابها عن هموم المواطن ومشاكله المزمنة وقضاياه المتشابكة وتركه وحيدا تائها يتخبط وسط بحر هائج تلتهمه التماسيح المتوحشة وتدك عظامه أسماك القرش لا رحمة ولا رأفة ولا شفقة .. وهي ذات الدولة تعود إليه اليوم عارضة على المواطن الهدم والإزالة بالسعر الذي تحدده والمبلغ الذي تفرضه .. وهي تفعل ذلك كعادتها دون تخطيط مسبق ولا ضمان لما ستأتي به الأيام(.
وبعد هذا السرد المأساوي والعرض المؤلم يطرح الكاتب سؤاله الخطير (من المسئول عن البناء العشوائي؟ هل هي الدولة أم المواطن؟) لتكشف الحكومة إثر ذلك عن وجهها البشع وأنيابها وتفتح حمم براكاينها البوليسية القمعية وإجراءاتها الإرهابية المرعبة ضد الأستاذ الراحل وتفجر كارثة مريرة تعصف به وتنسف موضوعية وهوامش حرية الكتابة الصحفية في ليبيا.
وهو لا يتوقف عند طرح ذلك السؤال الشرارة بل استمر يغوص في حيثيات العلاقة بين المواطن والحكومة أو الدولة فيعرض عليها مقترحاته ويطالبها بالالتزام بواجباتها تجاه مواطنيها (..كان على الدولة عندما عقدت النية على الهروب من مواجهة المواطن من ربع قرن مضى، أن تفعل ما بوسعها في الحد من تكاثر أبناء الشعب الليبي .. أما وقد فعلوها وأصبحوا ستة ملايين غير ربع “ملاحظة: حي شبرا في القاهرة يراوح في أطناش مليون” فعليها أن تتحمل تبعات ما يطالب به المواطن وهو من حقه دون منة من أحد عليه(. ومن سطور هذه الفقرة نلاحظ أن أسلوب اللمز والغمز لا يمكن أن يغيب في كتابات المرحوم محمد طرنيش حين أشار إلى عملية تناسل الليبيين وعدم قدرة الحكومة على الحد منها وأن عددهم في كل الأحوال لا يتجاوز سكان أحد أحياء العاصمة المصرية، مورداً الرقم اثنا عشر مليوناً باللهجة الليبية “اطناش مليون” لتسهيل معرفتهم بالعدد بكل تحديد ودقة!!!
ولا يقتصر نقده للحكومة ومسئوليها فحسب في هذا المقال بل يلتفت إلى المواطنين أيضاً ويوجه إليهم نصيحته التي تبدو ظاهرياً جادة ولكنها مبطنة بقوالب ساخرة مثيرة حين يدعوهم للاقتداء بالوزراء، وإذا علمنا بأن نظام القذافي لا يوجد به وزراء بل يسمّون أمناء وفق النظام السياسي البائد، فإنه بإطلاق صفة “الوزراء” عليهم يورطهم ويطعن في انتمائهم الأيديولوجي للنظام، ويقذف بهم في متون عواصف متشابكة ومتقاطعة معه، ويختم هذا المقطع بسؤال استفزازي يؤيد كل المقترحات التي عرضها (..في ذات الوقت كان على المواطنين أن يفعلوا ويقتدوا بالإخوة الوزراء في روعة تطبيقهم للقانون وإتباعهم للنظم واللوائح قبل أن يبنوا “حواشينهم” عشوائيا .. فهل رأيتم “حوش وزير” جاء في الإزالة؟). أما إصراره على وضع كلمتي “حواشينهم” و”حوش وزير” بين قوسين فهو للإشارة إلى أصول المسئولين البدوية والريفية التي لا تتكافأ مع مستوى المعيشة في المدن ولا تؤهلهم للتفكير والتخطيط بما يتناسب والحياة المدينية، وهو بذلك يعمل على إبرازها بشكل مشاكس للقارئ والمسئول على حد سواء في نبرة تحدي أساسها الجرأة والشجاعة والغيرة على المدينة والوطن التي برزت في سؤاله الإنكاري الخطير.
وفي ختام مقالته يلجأ الكاتب القدير محمد طرنيش إلى أسلوب الوعظ والخطاب الديني ويختم مقالته بجملة تمادت في سخريتها وأزعجت أركان النظام (… على المواطن الليبي أن يصبر ويتحمل وأن يثق كما يقول علماء الفقه، في رحمة الله وكرمه وعفوه ورضاه ورحمته .. فلن يرضى سبحانه وتعالى على الليبيين أن يعذبوا في الدنيا والآخرة!) وحقاً فإن الله سبحانه وتعالى بعدله وحكمه لا يمكن أن يعاقب الإنسان مرتين جراء جريرة واحدة، وهو ما استند عليه الكاتب في أن الليبيين لن يتعرضوا للعذاب مرتين أحداهما في الدنيا على أيدي المسئولين في الحكومة الليبية، وهي عبارة جاءت هادئة لغوياً ولكنها في مضمونها صارخة وكافية لإعلان معركة المواجهة مع مسئولي الحكومة .. وقد حدث ذلك فعلاً.
5- خاتمة
من خلال مجموعة المقالات التي تركها لنا الكاتب الراحل الأستاذ محمد رجب طرنيش والتي عرضتها في هذه القراءة البسيطة، وربما غيرها أيضاً، يتضح أنه كان على درجة عالية من الوعي والإدراك بهموم الوطن، ومعايشته التامة لها، وعلى علاقة وثيقة بجل شرائح المواطنين البسطاء الذين استمد منهم العديد من الأفكار ونقل عنهم التعبيرات والتعليقات اللاذعة تجاه سياسات وإجراءات وممارسات الحكومة.
كما أنه سخر بكل اقتدار أدواته الفنية التي امتلكها عن جدارة في الكتابة وقدرته على إيصال رسالته الصحفية لما يتمتع به من ثقافة واسعة مكنته من التعبير عن أفكاره بشكل سهل وواضح، وبلغة بسيطة سلسة تقتبس من النص الديني والمأثور الشعبي وتوظف كل تلك العناصر من أجل الموضوع الذي يتناوله أو يتعرض له بمقاله النقدي الساخر.
أما من الناحية التقنية فقد غلب على مقالات المرحوم طرنيش الاختصار والاختزال وعدم الإطالة والتعبير المكثف البليغ، وهذا الشكل يعد من أصعب أنواع الكتابة النقدية التي توجه رسالتها مباشرة في قالب ساخر مؤثر وفعّال. إضافة إلى أن بعض مقالاته لا تخلو غالباً من التلميحات أو الإشارات الرمزية التي تستهدف الجهات العامة أو المسئولين بصفاتهم الإدارية.
وإذا كانت خصائص التخاطب بلغة صحفية بسيطة ومفهومة قد مكنته من توطيد علاقاته مع الناس وزيادة عدد قرائه ومحبيه ومتابعيه فإن من نافلة القول التأكيد على أن قوة العبارة الصادقة وحساسية المواضيع الاجتماعية التي تناولها في مقالاته الصحفية المتعددة تنم عن جرأة وشجاعة قل ظهورها في ليبيا خلال نظام القذافي البائد في الوسط الصحفي.
وفي ختام هذه القراءة لابد من القول بأن الكتابة النقدية الساخرة في بلادنا منذ عهد “أبي قشة” وحتى الآن بحاجة لمن يغوص فيها ويقدم دراسة تحليلية وتأريخية متعمقة تبرز خطورة الكلمة النقدية وأسلوبها الساخر للمساهمة في بناء الدولة وتوجيه المسئول والمواطن على حد سواء لما فيه المنفعة العامة والصالح العام. وبالطبع فإن هذا لا يتأتى إلا من خلال توثيق وفرز ومطالعة كل الأعمال التي أنتجت هذه المقالات الجادة والتي من بينها ما تركه لنا المرحوم الأستاذ محمد رجب طرنيس، وهو ما هدفت إليه من خلال هذه القراءة المتواضعة والتي آمل أن تكون بداية لمشوار يتولاه المختصون في النقد والصحافة في ليبيا الحبيبة أو آخرون غيرهم.
___________________________________
* (مقتطفات من كتاب “طرنيش في القلب” للكاتب يونس الفنادي)