.. حين قالوا لمواطننا (مطرود الجالي) في قِسْم النفوس بأنّه ساقِط قَيْد.. صفعتْه كلمة (ساقِط ).. تدفَّق الدم الحامي في عروقه حتّى أُصيب بالرُّعاف.. أُصيب أيضاً بالحمَّى في تلك الليلة .. أخذ يهذي :
– ساقِط .. ساقِط .. ساقِط
.. حاولْنا أن نُفهمه أن لا أحد نَعَتَه بالساقِط .. وبذلْنا جُهداً فائقاً كي نجعل الكلمتين تدخلان معاً في ذهنه ملتصقتين:
(ساقِط قَيْد).. أخيراً فهم .. أو هكذا يبدو.. تنفّس بعمق .. زالت عنه الحُمَّى .. لكنّه لَم يفهم لماذا هو ساقِط قَيْد ؟ وهو المولود في الجبل الأخضر أباً عن جَدّ .. متجذِّر كما شجرة خَرُّوب .
.. في الصباح تأبّط ملفًّا محشوراً في كيس من النايلون .. جَرَّ حذاءه المفروك .. الذي ظلّت جوانبه تبيضّ وتتقشَّر شيئاً فشيئاً حتى غدا بلا لون .. لفّ لثاماً باهِتاً حول رقبته .. غادر برّاكته في سفح الوادي .. انحدر نحو المدينة ..
صرخ في وجهه موظف السجلّ المدني من خلال فتحة النافذة الضيّقة :
– ملفّك ضائع ! امتلأت عيناه بالنداوة .. مسحهما بطرف اللثام .
زعق في وجهه موظف صندوق الضمان الاجتماعي :
– ليس لك ضمان .. قدِّم الإجراءات في طرابلس . أضاف وهو يتأمّل هيأته من اللثام الباهِت إلى الحذاء المفروك:
– طرابلس قريبة.. ألف ومائتا كيلو متر فقط
شعر بشيءٍ ما طقطق في رُكبتيه .
في المصرف -بعد طول وقوف في الطابور- كان الصَّرّاف أكثر تَهذيبا ً.. فأخرج له لسانه من خلف الزجاج:
– أنت خارج المنظومة !
شيء ما تكتك في عموده الفقري .
وهو يَعْبُر الشارع ضغط صاحب السيارة الفارهة المنبِّه مُلَوِّحاً بيده :
– من قال لك اعْبر من قدّامي يا حُثالة .
أحسّ بوخز في أعلى صدره .
في منتصف النهار كان يَجرّ حذاءه صاعداً من أسفل الوادي .. البرّاكة لا تزال بعيدة .. الشمس لا ترحم .. يسبح في العَرَق .. عَرّج على شجرة خَرُّوب .. تأمّلها .. الساق ضخمة ناهضة من وسط الصخر.. الجذور متفرِّعة .. ممتدَّة بعيداً حتى مجرى السيل . … أغمض عينيه .. استرجع في ذهنه حصيلة رحلته :
– ساقِط قَيْد .. ملفّك ضائع .. ليس لك ضمان .. خارج المنظومة .. حُثالة .
مسح جبينه بذراعه .. استلقى في ظلّ الخرُّوبة .. توسَّد حذاءه .. ومات .. !
2008