قصة

أبلة وداد

إلى صديقتي صونيا خضر

التشكيلية الفلسطينية _ كنان الربيعي

تجلس على الأريكة، تقبض بيديها بقوة على الغطاء المرمي بإهمال على ساقيها، تحرك رأسها بتوجس وخوف وتشخص بصرها نحو السقف كأنها تنتظر سقوطا ما، ثم تخبئه تحت الغطاء، وتستكين.. تبدو صادقة في خوفها هذا لدرجة أنني كنت أنتظر معها وأنا انظر إلى السقف. 

بعد ثوان تكشف عن وجهها الذي انفرج عن بريق ابتسامة وعلى قسماته الارتياح. تميل برأسها وتشخص بصرها كأنها تستمع إلى صوت آت ببطء نحوها، لتعاود ذات الحركة من خوف وغطاء وانتظار ثم انكشاف عن راحة. لا تنفك هذه الحالة عنها إلا بعد أن تغط في نوم عميق، ويبللها العرق.

  ترتابني وأنا أقترب منها، أرى على صفحة وجهها رغبة في الدفع بي بعيدًا، تعبر عن ذلك بتملص من كتفيها.. لا أقبّلها، وأجلس على الكرسي المقابل لها.

– ازداد ارتيابها اليوم. قالت العاملة في الدار. ثم أضافت

– غريبة مسكينة ولا يزورها غيرك…

ابتسم لها دون رد.. لا رغبة لي في الحديث.

منذ علمت، أن أبلة وداد في الدار، حتى بادرت بزيارتها. 

رفضوا في البداية السماح لي برؤيتها بحجة انعدام صلة الدم، لكنني تمكنت بعد طول مفاوضات مع مدير الدار من نيل الموافقة، وأدرج اسمي في سجل الزوار.

– لا أحد يزورها.. غريبة هي كما تعلم من هويتها. قلت له

– نعم نعم أعلم، لكن هذه التعليمات.

– كانت مدرستّي، ومن حقها عليّ وعلى زميلاتي زيارتها، ألا ترى ذلك؟

غمغم مدير الدار… نعم نعم.

حمدت الله أنه لم يكن فضوليا ولم يسألني عن أبلة وداد أكثر.

لدي الكثير لأقوله عنها.

حين دخلت عليها، وجدتها على ذات الأريكة، تتعلق بالغطاء، تخاف من الآتي الذي يقترب، لكنه لا يصل إليها فستستريح.

في أول لقاء، غمرتها وبكيت. شعرت بارتخائها بين ذراعي، كأنها في اشتياق، لكنها سرعان ما تماسكت وتملصت بكتفيها، فابتعدت وجلست على هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن. 

حاولت أن انسج معها حديثا وكانت الجملة المعتادة الركيكة “تتذكريني أبلة وداد”؟ لكني سرعان ما شعرت بالسذاجة، فأمسكت عن الكلام.

التفت من حولي استطلع المكان.

غرفة بها نافذة خلف الاريكة مباشرة تطل على حائط من الطوب الرمادي غير المملس، لكن أشعة الشمس تتمكن من النفاذ فتلون المكان بالضوء. ثلاثة أسرة متباعدة وأريكة قماشية قديمة تجلس عليها أبلة وداد، وكرسيان بلاستيكيان، وبعض الحاجيات والأكياس المتناثرة على الأرض، وحمام عند المدخل. لم يكن في الحجرة سوانا.

بعد حوالي الساعة، أطلت سيدة بدينة وقصيرة تبدو على ملامحها الطيبة، أقبلت عليّ مبتسمة…

-تعرفيها؟ مش ليبية وإلا لا؟

– هززت رأسي بنعم.

أتت بالكرسي الثاني إلى جواري ورأيت فيها كل علامات الفضول …ابتسامة ماكرة، والتفاف اليدين، والضغط على الأصابع، كان واضحا أنها في غاية الشغف للمعلومة.

– مش متحجبة وما تصليش… مش زينا؟ خيرها.. ديما خايفة؟ ما تبيش تدوي معانا.

لحسن حظي أن جاءت العاملة، واستدعت السيدة إلى الغداء كما دعتني بلطف، فالتفت نحو أبلة وداد، أذكرها بحركة من يدي بها.. 

– بالك أبلة وداد تبي تمشي تاكل..

– لا لا.. ما تخالطش، تخاف من كل شيء. نجيبولها في ماكلتها هني.

كنت قد أحضرت معي كيسًا قماشيا فيه بعض الأكل والفواكه.

انتظرت حتى أحضروا غذائها ووضعوه على الكرسي الآخر..

أخذت الملعقة، رغبت في إطعامها بيدي من صنيعي… ملئتها بالأرز المشبع بالمرق الأصفر واتجهت به نحو فمها، فتحته وشاهدتها بفرح تلعق شفتيها وتحاول اصطياد حبة أرز كادت أن تسقط وكأنها تستطعم الأكل. قطعت لها لحم الدجاج وناولتها إياه، فإذا بها تطلق يدها من الغطاء وتمده إلى الصحن وتتناولها بيد مرتعشة. لم تبدو جائعة لكن من الواضح أن طبيخي أعجبها كثيرا.

ناولتها بعض الماء، حينها كانت قد تركت الغطاء تماما، ساعدتها في النهوض، وبصعوبة حاولت أن أساعدها نحو الحمام، لكن العاملة جاءت بسرعة بكرسي متحرك، قلت لها

– تقدر تمشي..

– لا لا بالله عليك فكينا توا تطيح وما فيش من يعانيها.

أخذتها بالكرسي، أصرت على الغطاء، فغطيتها، غسلت لها يديها ومسحت ببعض الماء على شعرها الذي خف إلى حد كبير لكنه ما يزال ناعما. حينها نطقت بصوت خافت “تكرمي”… لولا ابتسامتها ونظرتها المشبعة بالامتنان لاعتقدت جازمة أنني أتخيل.

توجهت بنظراتها نحو السرير.. أخذتها إليه. تمددت وغطت رأسها وسرعان ما نامت.

رحلت، وقررت منذ ذلك اليوم أن أواظب على زيارتها، اعتنيت بملبسها خاصة الداخلي القطني، أحاول أن أغسل لها على الأقل ما هو متاح لي بالمسح على رأسها وتحت إبطيها.

كانت أحوالها تتحسن ببطء، لكن ما أن اغيب عنها حتى أجدها على هذا الحال من الخوف والارتياب والتخفي تحت الغطاء.

أجلس أمامها، سأناولها الطعام بعد ساعة…

– شكلك تحبيها وتديري في الخير.. قالت العاملة.

قررت من اليوم الأول ألا أحكي عن قصتها، لكن بعد كل هذا التنكيل والقتل والدمار.. أتيت اليوم مصممة أن أحكي عنها، إذ لا سبيل للحديث معها، أعيش معها الأوقات في غيمة لا تمطر وأرض لا تنبت، لا أملك إلا الجلوس والنظر في قسماتها التي أحببت، ومحاولة تهدئة روعها من خطر لا يأتي.. لكن الخطر أتى وعم البقعة التي ولدت وقاومت فيها ثم تركتها مختارة أو مضطرة.. ذاك المنعطف المهم من حياتها الذي لم يهتم أحد بمعرفته. يمزقني الغضب ويفجعني الحزن، أشعر بحاجتي للصراخ أو على الأقل الكلام مع من حولها، هذه العاملة التي تؤدي عملها برتابة ولكن كما يجب، أو ذاك المدير الضجر، الذي فقد القدرة على البهجة وانطفأ منذ زمن.

طلبت من العاملة أن أقابل المدير..

لم تتأخر ونادتني.

قبل أن أصل إلى مكتبه، سمعت صوت المذيع ينطلق عاليا من قناة الجزيرة يصف الحال في غزة، دخلت ورأيت غضبًا يتشكل على وجهه وجسده النحيل، عيناه تضيقان وشفتاه ترتعشان وكتفاه مرتفعان حتى يكادا أن يلتصقان برأسه، وشعور بالأسى يمسح الضجر والملل الذي كان كخيوط العناكب يستكين بين ملامح وجهه وتعلن لكل من يقابله أن لا رغبة له في الاستماع ولا فائدة من القول. هذه المرة كان الأسي مشتركًا يرافقنا كظلنا، طيف ثقيل وحزين وذليل. لذا ما أن رآني حتى أطلق زفرة لا ليتخلص منها، بل ليترك لأخريات المجال أن تفلت وتهدأ من ثورة في صدره، كان أشبه بالسعال الذي يتجدد لكنه مر وجاف…

بادرته…

– تعرف أبلة وداد من وين؟

– لا والله نعرف أصلها أردني أو فلسطيني.

– وين أوراقها…

– ايه وين بنلقاهم توا.. الله أعلم. استعاد وجهه الضجر سريعا.

عندها فجرت له الخبر

– أبلة وداد من غزة، كانت مع الفدائيين. شفتوا أثار الحرق على ساقها الأيمن؟

ما تزال العاملة تقف خلفي، ما أن سمعت الخبر حتى كتمت صرخة بيدها، وأكدت وهي تهز رأسها.. “صح.. صح أثار الحرق في ساقها..”

نهض المدير.. وهو يصرخ.. مش معقولة.. مش معقولة.

لم أتحرك من مكاني.. أمسكت بكلماتي جيدًا ورصفتها على الطاولة التي كانت تفصلنا كلمة كلمة، كأنني أضع أوراق “الكارتة” معلنة الفوز.. ثم رسمت كل القصص التي عرفناها عنها والتي نسجناها حولها.

أبلة وداد.. هي أبلة الرياضة في المرحلة الإعدادية، لم تعلمنا الرياضة فقط ولكن الشجاعة أيضا.

التقيت أبله وداد في أول يوم دراسي.. رحلنا عن الابتدائي بعد سنوات ست، تدرجنا في طفولتنا حتى بدأنا نغادرها ببطء إلى مرحلة التيه ما بين الطفولة والمراهقة، نتصرف كالأطفال لكننا نكتشف العالم من حولنا، الشارع وأزقته، الصبيان في المدرسة المجاورة، وحركة النساء في بيوتهن وأمامها، ولأول مرة قصص الحب وشكاوى عن الأهل.. نشهد تغيرات متفاوتة في أجسادنا، منا من فاجت تضاريسها ومنا من لايزال جسدها يقاوم هذا التغيير المفاجئ.. وكانت أبلة وداد شابة، مكتملة بجسدها النحيل المرن تقفز أو تجري في حين مدرسينا يمشون بثقل، تهلل وتضحك وتشاكس، لكنها في أحيان تنزوي وتتوه نظراتها بعيدًا.. ذات النظرات الشاردة التي أراها اليوم.. نتحلق حولها وننتشلها من استغراقها، أعجز الآن عن ذلك وأكتفي بالجلوس أمامها وأتذكر.

تقع المدرسة وسط حي سكني راق، يضم دور أرضية تحيط بها حدائق غناء تتسلق الجدران وتطل على الشوارع المرصوفة، مبناه من طابقين على الطراز الإيطالي، أما أشجاره العالية والوارفة فلابد وأنها غرست في زمن بنائه، له بابان حديديان يطلان على زقاقين.

حين وقع بصري على أبلة وداد، رأيتها تتكأ على جذع شجرة وتستند بساق واحدة عليها، ترتدي بنطالًا من الجينز وقميصًا ضيقًا محشورًا فيه بعناية. يحيط ببنطالها حزام جلدي، تضع حذاء رياضيا ويتدلى من رقبتها خيط معلق فيه صفارة ملونة وملفتة للنظر. لا تضع قرطًا ولا سلسالًا، فقط ساعة جلدية حرة الحركة في معصمها الأيمن.

 منذ ذلك اليوم لم أرى أبلة وداد إلا بالصفارة، نسمع صفيرها في الفصول، حين يكون الصفير مرتين متباعدتين نتخيلها وهي تعطي الأوامر وتحث الطالبات على الركض ثم تعلن نهايته، وحين تكثر من الصفير تعلم أنها بصدد القيام بالتمارين، إما حين تكون الصفارة مرة واحدة وطويلة نعلم أنها غاضبة.

ضئيلة الحجم، حنطية بشعر حريري قصير لا يتجاوز شحمتي أذنيها، سريعة الحركة، تعيش وسطنا، نقتسم معها الخبز في الاستراحة. لا تدخل قاعة المدرسين، ولا نراها بينهم إلا إذا استدعى الأمر ألا تكون معنا.. وحتى حينها تنظر إلينا بشوق وتبتسم فنبادلها الابتسام.

لذا، أحببناها.. اقتربت منا فكنا معها، وفي ذات الوقت لم نشعر أننا ندًا لها، هي المعلمة الظريفة القريبة المرحة النشطة.. ثم وصلتنا الأخبار، أبلة وداد فدائية فلسطينية، وأن ارتدائها الدائم للبنطال لإخفاء تشوه من جراء عملية ما.. كانت كل هذه المعلومات تزيد من تعلقنا بها.. هذه الهالة الغامضة تشع الفضول في داخلنا، لكن لم يكن هناك من سبيل لمعرفة القصة كاملة، بفصولها الثلاث الفدائية والحرب والهجرة إلى بلادنا. كان عمرنا القاصر حاجز خجل للسؤال ومحفز لين للخيال، وكان اللهو يعيق الحاجة للإدراك.

والآن لم يعد بوسعي معرفة كل التفاصيل التي غفلت عنها، كم أنا نادمة، وبخت نفسي لماذا لم أسألها، أو بالأحرى لما لم نسألها، وكنا كالعصافير حولها نغرد لها ولا نستمع إليها.  حتى الفتيات اللاتي اقتربن منها أكثر بحكم تقارب السن أو تفتحهن قبل غيرهن في السباق نحو النضوج فضلن الحديث عن أحوالهن إليها أو الضحك معها دون أن يسألن عن رحلتها من غزة إلى طرابلس، هل يا ترى جاءت بالبر عبر مصر، أم أنها اجتازت الحدود، أية حدود يا ترى ثم استقلت الطائرة، هل تحصلت على عقد عمل، أم أنها فازت به عند مجيئها. ولماذا الرياضة، هل بسبب عملها الفدائي وتدريباتها؟  كل مواد الجغرافيا والتاريخ وعلم المجتمع لم تحرك فينا الجرأة لسؤالها.. كانت بيننا ومعنا ولم نكن معها.

ما زال مدير الدار يضرب كفا بكف ويقول بأسى

– كيف لم نعلم بها؟ 

– أنت قلت إنها فلسطينية أو أردنية؟ يبدو أنك تعلم. صارحته

كان كمن يدفع عنه تهمة أمام المحقق

– لا لا والله نسيت…جيت لقيتها قدامي في الدار، الله غالب.

رأيت الندم يحل محل علامات الضجر التي عُرف بها.. ذلك الندم المركز كشراب التوت الأسود المصحوب ببعض المرارة. فجأة انسكبت مشاعره التي لم أكن أتصورانها دفينة ودفيئة في مكان ما في نفسه.

تحرك من خلف مكتبه وهو يصافح يديه وكأنه يستعد لعمل ما..

– أبلة، أريد الذهاب إليها.. أعطيهم خبر، التفت نحوي وقال.. هيا معي.

انتظرنا قليلا، حتى أذنت لنا العاملة بالدخول إلى العنبر.

اتجهنا ثلاثتنا على عجل نحو أبلة وداد، وكأنها نزيلة جديدة..

كانت ممددة على فراشها، يداعبها النعاس وكأنه يتسابق معها في عدو يومي نحو القيلولة، لاحت على وجهها ابتسامة قصيرة كتلك التي تزين وجوه الأطفال ثم سرعان ما تختفي.. رأيتها اليوم مختلفة تستقبل زوارًا، يقبلون عليها ويتحلقون حولها، كتلك الصورة التي كانت تتزين بها في المدرسة ونحن نثرثر حولها وهي تستمع وتبتسم. أي صبر ذاك الذي تحلت به وهي تستمع لأجيال تتعاقب، دون أن تحكي لنا حكايتها.

اقترب منها المدير مناديا بصوت هادئ

– أبلة وداد.. انت من غزة؟ كان سؤالًا ساذجا كذلك الذي طرحته عليها في أول زيارة…

أردت أن أقول له.. أنها منا.. عاشت بيننا حتى وصلت إلى هذه الدار.. مرت كنسمة عابرة.. طيف أحببناه، أجيال أتت ورحلت وأبلة وداد في مكانها تستقبلنا بصفارتها، وحين نغادر إلى الثانوي لا تكون في وداعنا. وكلما سألنا عنها يقولون ما تزال في المدرسة تتحرك وتجري وتصفر كعادتها فنطمئن.. لكننا لم نعد إليها ونسألها عن حالها، كان العمر يتقدم بنا أما هي فتجمدت في ذاكرتنا في تلك الصورة المتحركة النشطة وصفارتها المدلاة من رقبتها وبنطالها الجينز ونعلها الرياضي. أي ندم هذا الذي يجتاحني الآن حتى أكاد أن أفقد وعيي.

لم أقل شيئا… انظر إليه.. يكاد يبكي وهو يقترب منها حتى قبّل رأسها.. ثم أجهشنا ثلاثتنا بالبكاء.

لندن | 8. 12. 2023


معاني الكلمات في الحوار:

ما تبيش تدوي معانا = لا ترغب في الحديث معنا.

نجيبولها في ماكلتها هني = نحضر لها أكلها هنا.

فكينا توا تطيح وما فيش من يعانيها= دعينا من هذا، ستقع ولا يوجد من يهتم بها.

وين بنلقاهم توا = أين سأجدهم الآن.

مقالات ذات علاقة

العطاء المقهور

المشرف العام

الكسوة البرتقالية

عزة المقهور

غناوة عزيزة

المشرف العام

اترك تعليق