من أعمال التشكيلية ريم جبريل
قصة

كيلوباميا

.

ستيقظ عندَ أولى فتحَاتِ الفجر على ركلِ أرجلِ أختِها الصغرى النائمة بجانبها في الفراش ، تُزيحها عنها بلطف و سكينة … ترسمُ لاسمها الملامح الخاصة به ، تنتمي لمملكة اللطافة و الحنان … هذا هو اسمها و وصفها و الشيء الذي يميزها ، فهي ” لطيفة ” شوهها اللسان الليبي فقال عنها ” لطفيّة ” ، تغسَل وجهها الطفولي اللطيف … تقبل يدا أمّها ، ثم تخرج لفناءِ المنزلِ الصغير نحو ” بُراكة السعِي ” المليئة بالقَمل ، تتوخى الحذر ، فأخر ما تريده هو أن تقفز حشرة قميئة في رأسها ، تأتِي بخرطومِ المياهِ العتيق ، بصعوبة تتمكن من فتح صنبور المياه النُحاسي فتخرج المياه المشبعة جداً بالمَلح نظراً لارتخاء الأرض قربَ مياه البحر المالحة .

توقظُ أختها الصُغرى ، تشذبُ لها شعرها على هيئة ” قرينات ” تنفصلُ كل واحدة في اتجاهات خاصة بها ، يتداخل الشعر كحبل الغسيل فيما بينه لينتهي بانفتاح بسيط في أخره تقوم بربطه بقطعة ” ياستيك ” بيضاء صغيرة تضعها بين أسنانها حتى تُكمل عملية التشذيب بسهولة ، تتألم أختها تحاول أن تحبس دمع عينها عن تخلل المِشط داخل شعرها المنفوش ، تغمسُ إصبعيها في قدر قليل من زيتِ الزيتون و تمررها بين خصلاتِ شعرِ الصغيرة ، تمرر المشط … تتألم الفتاة … تُزيتُ شعرها بلطف . بعد أن تُنهي ذلك ، يأتي دورها لكيْ تسلم رأسها لأمها ، تجلسُ القرفصاء أمام الأم .. تمسك رأسها باحتراف ، تسلم نفسها كاملةً لها دون أي ألم و تغيب وسطَ عالم غريب خاص بها ، حينَ تنتهي أمّها من ذاتِ العملية التي كانت تصنعها مع أختِها الصغرى ، تسمعُ صوتَ بائِع الخُبز يصيحُ في الطريق ، تنسلُ من يدي أمِّها بفستانِها الأبيض المُورّد ، بسرعة تأخذ القروش منها ، و تخرج حافيةً مسرعة لكيْ تلحقَ بالبائِع ، تصيحُ فيه ، يلتفتُ لها العجوز متبسماً ، تحييه … تُعطيه ” قرشين ” لتعود ظافرةً بخبزِ الصباح .

بعد الانتهـاء من الإفطار الممزوج بالشايْ و زيت الزيتون ، تتحرك و أختها نحو ” البراكة ” تفتح البوابة للأغنام … تحاصرها لكي ترسم لها مساراً نحو الهضبة المرتفعة قليلاً عن المنطقة حيث تنتهي ” المشاي ” شمالاً عند انتهاء ضريح ” سيدي المشّاي ” الرجل الذي قيل عنه أنّه من أصحابِ الرسول الكريم جاءَ ” ماشياً ” إلى هذه الأرض ناشراً الدعوة الإسلامية .. يختبئ الضريح خلف حديقة من أشجارِ النخيل الزاهية ، في الضُحَى يعجُ بالناس المتبركين بفضائله و يناجونه أن يداوي مرضاهم و يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، تقدم له النِساء بعض ” الطعام ” قرباناً لكي يُسهِّل زواج بناتهن الأبكار مؤكدات له أنّهن في السن المناسب للزواج فبالرغم من أنّ بعضهنّ لازلنَ يُقاسمنَ الحياة زينة الطفولة كلطيفة و التي لم تبلغ الرابعة عشرة بعد ، تُقسم أمهاتهنّ أنّ صدورهنّ قد انتفخت و أنّ شفاههنّ صارت مغرية ، تتباهى إحداهنّ أنّها حجبت ابنتها عن أبناءِ عمّها و لم تعد تسمح لها باللعبِ مع أطفالِ الحي و أنّها ” حمرة و جرّاية و ما تاكلش شعير ” فهي ” نظافة ” و ” تعرف أطيّب ” و ” ما تاكلش هلبا ” .

تصعدُ الفتاتان نحو الهضبة تلاحقان الأغنام المسرعة نحوَ الوليمة حيث الكلأ و ” كرمة ” الجُرف المتراخية الأغصان بحيث يمكن الوصول إلى أوراقها دون مشقة ، عندما تصلان إلى القطيع الصغير الذي لا يتجاوز الخمس نعاج يصحبها كبش فحل و حملان يتقافزان في الأرجاء ، تحاولان تنظيم القطيع و من ثم ترسمُ ” لطيفة ” بالعصا على التربة الخشِنَة خطوطاً ، تراقبها أختها باهتمام ، عند الانتهاء من رسم الخطوط ، بعد عراك طويل عن من تبدأ اللعب أولاً ، تقترح الأخت الصغرى ” الكيلو باميا ” كحل وسط لاختيار البادئ ، تشد شعرها منبهةً إياها أنّ ” الكيلو باميا ” لا تُجرى بين اثنين بل تحتاج لأكثر من ذلك ، ثم تمسكُ حجر اللعب و تأمرها بأن تختار ، ” المخبشة و إلا النظيفة ؟ ” ، تشير الأخت الصغرى نحو السطح الأملس لتختار ” النظيفة ” ، ترمي لطيفة الحجر عالياً ، يسقطُ و السطح الخشن إلى الأعلى ، تصرخ ” لطيفة ” فرحةً بأنّ دورها الأول ، تبكي الأخرى طالبةً منها إعادة الكرة لأنّها تعتقد أنّها تعمدت إلقاء الحجر هكذا ، ” أني بنرميها ” تأخذ عنها الحجر … ترميه ، يسقط و السطح الخشن إلى الأعلى ، تعاود الكرة مرة أخرى و أخرى حتى يأتِي دور السطح الأملس ، تضحك الأخت الصغرى ، تتذمر ” لطيفة ” لكنها لا تعترض ، و تبدأ ” النقيزة ” بإلقاء الحجر نحو أحدِ المربعات المرسومة على الأرض .

تُراقب هي قفز أختها حول المُربعات بانتباه مع حرصها على أن تتلفت نحوَ الأغنام بين الفينة و الأخرى لتطمئن بأنّها لازالت في مكانها تأكل بنَهم الأنعام ، يمتدُ نسيمُ البحر ليتخلل رئتيها ، تستقبل البحر بصدرِ واسع ، تلتفتُ إلى شروق الشمس حيثُ القرص الوليد صانعاً مع ” الضريح ” ألقاً قُدسياً غريباً ، تترصد العجائز المتلفعات أرديتهنّ البيضاء الملتفات حول الضريح كأنّهنّ ملائك الرحمَان ، تترقبُ أفقَ الشمال حيثُ المقبرة ليست ببعيدة و الكلاب المسعورة تتخطف الأرض تتسابق فيما بينها ، شريط من البحر يظهر من بعيد حيثُ تتلاحم الزرقتان في خط أفقي عريض ، كان يمكن للإنسان في وقتها أن ينظر البحر من أعلى الهضبة قبل أن تنزرع المباني مخفيةً البحر عنها ، لم يكن البحر بعيداً .

عندما يأتي دورها في اللعب ينكسرُ حظها مجدداً بعد أن تشاهد والدها يتقدم نحوهما للاطمئنان ، تتملك ذاتها ، يصيبها نوع من الرجفة الممزوجة بالاحترام ، تقفان كالحارسات حول الأغنام ، تلقي عليهِ التحية ، يقف محاذاتهما متفحصاً الأغنام و كأنّه يعدها ، يمسكُ بالعصا ، ” لطفيّة بري أوقفي جنب النخلة الطايحة” ” زكيّة أنتِ أوقفي هني” … يجلسُ معهما هُنيهَة ، ثم ينسحب بجرمهِ الطويل الغليظ صائحاً من بعيد ” روحي بالسعي قبل الضحَى ” ….” حاضر ” ، عندَ الضُحى يتضحُ من بعيد صاحب الكارطون ” الحاج محمد ” تبتسمُ مُسرعةً ، تأمر أختها الصغرى أن تعود بالأغنام إلى المنزل ، تبرطم الفتاة بكلمات تدل على عدمِ الرضا ناظرةً بعينِ الغبطة نحو أختها الكبرى التي صنعت مع ” الحاج محمد ” صداقة تسمحُ لها بركوب الكارطون و التفسح فوقه حول المدينة .

تسرعُ ” لطيفة ” الخُطى نحو ” الحاج محمد ” صُحبة ابنهِ صاحبِ الاثنين و عشرين عاماً و الذي يفصلُ بينها و بينه تسع سنوات تقريباً ، تسلم على العم الذي ينحني لكيْ يصطحبها معه في رحلة قصيرة ، تجلس بجانب الابن الشاب خلفَ ” الكارطون ، باسمةً في سحنته المليئة باللاهتمام ، يبادرها ابتسامة اعتاد أن يرسمها في وجهِ الأطفال ، تتلألأ عيناها في عينيه المنطفئتين و كأنّها ترى فيهِ زوجاً مستقبلياً ، يتمادى الأفق في صنعِ ضريحِ ” سيدي المشّاي ” لتصنع في مخيلتها أمنيةً ما ربما ستتحقق مستقبلاً .

مقالات ذات علاقة

مـاريـــتـا

عزة المقهور

طواجين الخبز

حسن أبوقباعة المجبري

أقاصيص.. أقاصيص!

محمد زيدان

اترك تعليق