كان يرقب والده وهو يعانى سكرات الموت.. كانت النهاية تقترب منه كثيرا.. سقطت الدموع من عينيه.. كان عاجزاً أمام ذلك الموقف الرهيب الذى لفه بثوب اليأس في عدم قدرته عن فعل أي شيء.. وهو يرى والده يتألم تحت وطأة الموت.. وما هي إلا لحظات حتى غاب والده عن الوجود..
لقد ذهبت أنفاس والده.. وظل جسداً مسجى لا حراك فيه.. إنه الموت نهاية الوجود أو الحياة.. لن تعود صورة والده ثانية..
يقولون لنا إن الجسد فاني وأن الروح تصعد لخالقها.. لقد أدركت أنني لن أرى والدي ثانية يسير بيننا.. وأدركت أن الموت الحقيقي يكمن في غياب الوجود.. لم يعد لوالدي وجود بيننا.. ذلك الشخص الذى كان يصر على الوجود بيننا ويلفنا بردائه في كل لحظة..
إن غيابه عنا يشعرنا بغياب الوجود.. لقد كان هو صورة الحياة التي ترفل من حولنا.. كنت أرى في الموت فاجعة الوجود.. وهو النهاية الأبدية.. كنت أرى الموت يزحف بردائه الأسود فوق اسوار المدينة عندما كان الإرهاب يسيطر على المدينة.. كان يشاهد أجساد الموتى في (بنغازى) وهى تحمل نحو مقبرة المدينة بشكل شبه يومي ولا ينفك المشيعون عن حمل توابيت الموتى من القتلى الذين لقوا حتفهم جراء مقارعة الإرهاب الذى لف بردائه الأسود سماء المدينة..
كان الموت لا يتوقف في مدينتي.. كان يعلم أن الموت ناجم عن القتل أو المرض في معظم الأحوال.. كان الموت في المعظم اختراع إنساني أو هو كامن فينا.. كان يرى مدن كاملة تتهاوى على رؤوس سكانها كان يرى أجساد الناس تتمزق تحت الركام.. أو على مقاعد السيارات وكأن القتل هواية.. لا ينفك بني الانسان عن ممارسته.. شعر وأنه يقف أمام المرآة أن جسده بدا يزحف نحو الموت.. لقد قسى عليه الزمن دون رحمة.. وبدأ قوس الموت يشكل هاله حوله.. كان يقال له إن الإنسان الصالح سوف يكون قربى الله كما تذكر الاسفار المسيحية أو يكون في جنة عرضها السموات والأرض كما يذكر القرآن.. أي أن هناك حياة ثانية بعد الموت الوجودي..
ليس من السهل تصور عالم افتراضي بعد الموت.. وكان تصور الجنة لا يخرج عن معطيات الحياة الآنية.. قد صور القرآن الجنة وفق إمكانياتها الوجودية وبكل ترف الحياة الآنية.. حياة أبدية دون نغص.. وتساءل وهو يرى حركة الحياة من حوله لا تنفك عن النقائض.. فلا يمكن تصور السعادة دون ألم.. فهو لم يتحقق بأن هناك حياة دون نقائض فالحياة الدنيوية لا تهدأ أبدا من صراع و نفى ذاتها.. وكل لحظة من حولنا تحقق وجودنا.. ونحن كل يوم نرقب الحياة تجرى من حولنا في صيرورة أبدية.. ونحن نأمل دائما في الغد.. فتفكيرنا لا يتوقف عن أستلاب المستقبل.. ماذا فاعلون في الغد وما بعد الغد؟؟؟ ولعل هذا السؤال وماذا بعد؟ أي هل نظل في رحاب الآخرة دون حراك؟؟
أيقن أن ما يحاط بموت والده.. أنه سوف يسرى عليه في الغد ومن ثمة على أحفاده وأحفاد أحفاده وأن مسلسل الموت لا ينقطع.. فهو لا يستطيع أدراك الحياة دون أن يلامس نقائضها.. هل يتصور نهراً في الجنة دون أن يشعر بالظمأ وهل يشعر إن الفاكهة تقطف دون عناء منه..
طفلته المولودة حديثا خرج بها إلى الشارع لترى الوجود من حولها.. أول مرة وأنا اشاهد عينيها وهي ترقب الوجود لأول مرة.. كانت عيناها تتجولان وهما ترقبا حركة الوجود من حولها في اندهاش.. كان يرى إن خروج فتاته الصغيرة إلى الوجود فاجعة الوجود.. كان يرى إن تلك الطفلة سوف يلامسها الموت.. إن الامر لا يتوقف حول ملك الموت يزحف من حولنا ومن حولها دون توقف قد طال سيدنا (نوح) بعد سنين طويلة من الحياة.. هكذا تذكر الأسفار الدينية.. مع إن تلك أيقونة الموت تزحف نحونا إلا أننا نظل نصارع الوجود وينفك عن السؤال فيما بعد ولن يستطيع أن يكون مثل (البكائيين) الذين التصقوا بمعابد (أثينا) ولم ينفكوا عن العويل عن فاجعة الوجود.. هناك شيء يدفعنا الى الحياة حتى ونحن نصارع الموت.. كل أفكارنا السوداء تسقط من تفكيرنا.. ونحن نصارع الوجود.. يبدو لنا من الصعب تصور حياة أبدية دون صيرورة لا تتوقف.. تدفعنا إلى التصور بعد ذلك.. أي ماذا بعد؟؟ أي تأملنا للوجود لا نهاية له من بعد.. فكذا تدفعنا الحياة الى التطلع فيما وراء الوجود لا يتوقف ابدا ولا يمكننا التوقف عن الاستقراء فيما حولنا ووجودنا لا يتخطى بما حولنا من تصور يغذى أفكارنا.. أن تصورنا للجنة لا يمكن أن يقرر بدون تخطى فكرتنا عن النار والعذاب.. وأن الآن يسعى نحو فكرة الغد.. ففكرنا عن الحياة لا توقف في سكون.. بل نزوع نحو الحركة التي لا تتوقف أبدا.. فتخطى الزمان الوجودي أمر شائك المعرفة لما بعد؟؟؟
نحن نعيش في صيرورة دائمة ولا يتوقف وجودنا عن التفكير (فيما بعد)؟؟؟ إن بزوغ الديانات ما هو إلا التفكير فيما بعد.. كان المصريون القدماء يعبدون إله (آمون) إلهة الشمس للتفكير فيما بعد الليل.. كان الوثنيون يعبدون الأوثان للتصور إن الله من حولهم وجود دون انقطاع.. نظر من حوله ليتفرس الوجود من حوله بكل ألوان الوجود وقفز الى ذهنه سؤالا:
وماذا بعد؟؟
وظل السؤال بدون إجابة.. ولم يعد يتلمس الوجود إلا من حوله.. وشعر بدوامة هائلة تلف فكره وتحجب عنه ضوء الحياة من حوله.. لقد غاص في تفكير دون جدوى منه: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟؟؟ ظل السؤال دون إجابة.