إلى “ليال” ابنة أختي …….
في غبش النهار تخرج كالخنافس من ثقوب الأرض مئات من الفتيات يرتدين “الجرمبيول” الأسود و”الرقبة” البيضاء و”الناسترو” الأبيض المعقود على شكل “فيونكة”. منهن من يتدحرجن على الرصيف حتى يصلن إلى باب المدرسة الحديدي، وأخريات يأتين في سيارات تتزاحم أمام ذاك الباب، تفتح أبوابها وتخرج منها أجساد صغيرة ملتحفة بالسواد. هكذا كنا نتشابه، إلا من فروق بسيطة تكاد تنحصر في الطول أو الحجم أو اللون أحيانا. كلنا خنافس تتجمع في ذات المكان يوميا، تقف في طابور الصباح، تنشد النشيد الوطني، تحيي العلم بصوت جهوري واحد.
تطل أبلة منيرة مديرة المدرسة من حين لآخر على الطوابير المنتظمة، في عينيها بريق بالفخر. أبلة زكية وأبلة لولو وأبلة بدرية وأبلة آسيا وأبلة لطفية وأبلة فريدة وأبلة رضوى،يقدن طوابير الخنافس في صباح باكر وقد تجمدت أطرافها واحدودبت ظهورها بفعل الحقائب الثقيلة التي تحملها.
“مدرسة الظهرة الابتدائية للبنات” تقع في قلب حي الظهرة على الطريق الرئيسي المؤدي إلى سوقها الشهير، يدور حول سورها سياج حديدي قصير مثبت على الرصيف. بها مسرح يقدم عروضا سنوية ومهرجانات موسيقية، تقف على ركحه فتيات ” المدينة” يحملن آلات العزف الموسيقية يطربن بها أولياء الأمور والمعازيم، ترتج لها جدران البيوت القريبة وتتحرك على وقع إيقاعها أقدام الحاضرين وأياديهم في خجل. “ما تشوفوش لأهاليكم تحت”!.. رغم الأوامر المشددة إلا أننا كنا نختلس النظر إليهم، نبحث عنهم وسط جموع الجالسين، لتزدهر ابتسامات على وجوهنا وتحمر وجناتنا خجلا ويهجم علينا ذاك الشعور بأننا ارتكبنا خطأ لا مناص من ارتكابه.
**************
طوابير طويلة تتحرك يوميا بانتظام في الساحة، تتجه نحو باب واحد، تصعد السلالم وتتجه نحو الفصول المشرعة أبوابها على طول الممر الطويل. يقرع الجرس وتبدأ الحصة وتنتهي به. ثلاثة صفوف طويلة ذات مقاعد خشبية مستطيلة تتسع لاثنتين أو أكثر، محفورة أسطحها بكلمات وحروف ورسومات لفتيات جلسن في ذات المقاعد لسنوات خلت، التصقت أذرعهن وتلامست أجسادهن، تحادثن وضحكن وتعاركن وبكين معا…. خفن، وتشاكسن وامتعضن وتنابزن و قلقن وتحمسن وانكسرن ونهضن معا. في كل فصل تجلس الفتيات المجتهدات في الصفوف الأمامية و تتنافس الواثقات منهن على المقعد الأول في الصف الأوسط، وتفضل الأخريات الكراسي الخلفية حيث تقضي بعضهن الوقت في “الهدرزة” أو النوم أو الأكل أو مشاكسة الأخريات.
قلما تتحرك الأبلة في الفصل، وتدور حركتها ما بين طاولتها والسبورة، تركز اهتمامها على الفتيات المجتهدات، ويخف اهتمامها بالجالسات في الخلف شيئا فشيئا حتى تنسى وجودهن تماما.
كنا نرتعد في أغلب الأحيان… إما من البرد أو من دخول الأبلة إلى الفصل… تدخل بخطى واثقة.. تقف الفتيات كفسائل النخيل الجافة ولا يجلسن إلا إذا أشارت إليهن بالجلوس. تضع حاجياتها على الطاولة التي تتوسط الفصل والملاصقة للمقعد الأوسط.الحصة الأولى تكون الأشد وطأة على عقولنا وأصابعنا الطرية… لغة الأرقام تتطاير في هواء الفصل كالعصافير التي تظهر في أحلام اليقظة، وتزوغ عيوننا وتتجمد أطرافنا عندما تطلب منا الأبلة الانتقال إلى السبورة وحل المسائل الحسابية… تتعرقل الأرقام البيضاء على صدر السبورة الواسع وتتبعثر بين الإشارات و الخطوط و غبار الطباشير البيضاء…أما حصة المحفوظات فكانت تقتضي مهارة خاصة في الإلقاء السريع الذي قد يتعثر فنتصبب عرقا وتنساب الحروف من فتحة شفتينا وتنكسر على الأرض….
“مدي ايدك…”
نستجيب ونمد اليد بتردد، نسحبها حين نرى العصا تهوي نحوها… تجلد العصا الهواء وتسقط ذراع الأبلة، فتصرخ…
“مديها باهي!”
تصطدم العصا باليد اليمنى ثم اليسرى وتتراوح عادة ما بين أربع إلى ست ضربات، ومع تكرارها تعتاد اليدان على العصا و يخف الألم قليلا، منهن من تفضل الإسراع في مد يديها حتى تنتهي من الضربات سريعا وأخريات يترددن فتزداد العقوبة…
تنتفخ اليدان وتحمران ويسري فيهما حرقة و تنميل، نغلقهما وننفخ فيهما ونحن نشهق بالبكاء.
إذا لم تكن الأبلة مسلحة بعصاها الخشبية…تطلب من الفتاة المعاقبة أو غيرها النزول إلى الساحة والبحث عن عصا “مناسبة” لنُضرب بها، أيهما تختار الصغيرة من بين العصي المختلفة الأحجام التي ستهوي إحداها وتضرب يديها أو يدي زميلتها….
**************
“استراحة” !
ننتظر الاستراحة بفارغ الصبر، شعورنا أنها تمضي سريعا… كالمياه التي تنساب من بين أصابعنا من صنابير مثبتة في الساحة فوق حوض أبيض كبير ومستطيل.
نحمل إفطارنا وننزل إلى الساحة، بعضنا يتجه إلى مقصف المدرسة، يتزاحم وهو يمد ذراعه من الشباك الحديدي….يصرخن ” نص بالطن…. نص بالدحي” كانت السندوتشات لذيذة رغم شح فحواها.
“الخليطة” لم نسمع بها إلا في المدرسة، تعلمنا التشارك في كل شي، وبدأنا ننسج حكاياتنا معا.. نحكي و لا نتأمل إلا في مزيد من الحكايا… نشاطنا في ألسنتنا… تتحرك بسرعة … كان كلامنا صراخا متداخلا تقطعه قهقهات من حين لآخر.
“خُلّيطة” ! ننزوي في ركن قصي في الساحة غالبا على إحدى العتبات، تفتح كل منا كيسها أو حقيبتها الصغيرة وتخرج إفطارها وتقدمه للأخريات بكل ود… نمد أيادينا ونتقاسم كل شئ معا، إلا أن “الخبزة ” الأطعم هي تلك التي تكون قد امتصت أكبر قدر من “هريسة الحوش” ذات المربعات الحمراء… نتقاسمها ونحن نمسح أنوفنا بأكمام “القرمبيول”… نأكل بنهم وصخب… نلم فتافيت خبزنا وأكياسنا وحقائبنا ونعود إلى الفصل ونحن نتقافز فرحا كالأرانب.
نلعب في الاستراحة “النقيزة”، نخطط مربعاتها بأصابع الطباشير على أرضية الاسمنت أو نرسمها على التراب ونتقافز بين أضلعها بعد أن نرمي بالحجر. نلعب “الياستيك” نضعه بين أقدامنا ونمطه لتقفز واحدة أو أكثر داخله وتتنطط بين خيوطه كالكنغر الصغير. ونلعب “السبيتا” نختبئ وراء الأعمدة أو وراء ظهور الفتيات، نصرخ ونجري إلى “السبيتا” نلمسها لنتحصن بها و نفلت من الإمساك بنا.
ما إن يحل الربيع… حتى تقرر المدرسة رحلة للفصول كلا حسب مستواه الدراسي… “رحلة…. رحلة”… تنقسم الفتيات إلى مجموعات.. يعددن قائمة بالأطعمة والمشروبات، ويقتسمنها فيما بينهن.
كان أحلى أيام السنة يوم “الرحلة”. تتولى أمهاتنا إعداد صنوف الأكل وتجهيزها في “ساكوات”، نحملها هذه المرة بفرح غامر ولا نشعر بثقلها، نركب الأتوبيسات ونتزاحم على الصف الأخير حيث نجلس معا ونمسك بعنق “الدربوكة” و بين أيادينا “البندير” نتغنى طوال الطريق بأعلى صوت ، نهجر كراسينا وننحشر وسط الممر الضيق ونحن نصفق ونميل على بعضنا البعض نكاد نسقط…
“سواقنا ما قنينته يبي حلوة مينته”.. تميل مع الأغنية يدا السائق على المقود ونشعر بالأتوبيس يتراقص على الأسفلت..نرفع أصواتنا و نصرخ ” ياسواق اجري في المية … ما تخافش ع البطارية”..”يا سواق اجري في ميتين… ما تخافش ع العجلتين”.
خُلّيطة الرحلة ذات مذاق خاص… نتفق على طريقة الأكل تلقائيا.. نبدأ بالشاي والحلويات أو السندوتشات الخفيفة، ثم يكون الغداء عادة دجاجا أو “امبطن” أو كفتة مع المشروبات. نلعب الحبل والكرة والسبعة رشادات والمضارب ونتحلق في مجموعات تكبر فتكبر حتى تنصهر في مجموعة واحدة كبيرة… ونغني ونرقص…
لا تختلط المدرسات بالفتيات، ويجلسن معا… على مبعدة … لا يقتربن و يهبننا حرية لا نستطعمها على مدار السنة…
“أهو وصِنَّا فوق احصنَّة”… نتعانق فرحات ونعود إلى بيوتنا..
**************
كانت الصحائف وردية اللون.. ننتظر استلامها في يوم مشهود كأنه يوم الحساب.. تنادي الأبلة على أسماء العشرة الأوائل، ثم تسمى الأخريات “بدون ترتيب”… يوم مشهود يختلط فيه الفخر بالفرح بالدموع والإحباط… يتساوى فيه بكاء الراسبة وبكاء الناجحة التي لم تتحصل على مبتغاها وتنتظر تقريعا بالبيت…
كانت الصحيفة من صفحتين من الورق المقوى ، الأولى بها خانات تكتب فيها المواد وأمامها الدرجات، بينما الصفحة الأخرى بها ملاحظات المدرسة و التقدير. وقد ترسم في خانة الدرجات دوائر حمراء تشبه اقراص الكعك وتعرف به.. “راسبة” بقدر الكعك الذي يزين خاناتها..
**************
كبرت الخنافس وخلعن المريلة السوداء… أصبحن أمهات …ارتدت بعضهن البالطو الأبيض، أو رداء المحاماة الأسود، أو قبعة الهندسة البلاستيكية، أو تأبطن الحواسيب أو وقفن في قاعات المحاضرات … بعضهن عدن إلى ذات المدرسة مدرسات.. اختفت العصا وحل محلها استدعاء ولي الأمر أو الطرد من الحصة…
حين أقف اليوم على مقربة من سور “مدرسة الظهرة الابتدائية للبنات” تصل إلى أذني من بعيد أصواتنا الصاخبة دون موسيقى وهي تنشد:
يا إلهي يا إلهي يامجيب الدعوات
اجعل اليوم سعيدا وكثير البركات
وأعني في دروسي وأداء الواجبات
وأنر عقلي وقلبي بالعلوم النافعات
يا إلهي يا إلهي…….
2 تعليقات
نص رائع ، مُذهل …
رُغم بعد المسافة بين جيلينا إلا أنني أستطعمتُ ما حكيته و كأنّكِ تحكينَ قصةَ عمري مع المدرسة ، العصا ، صياح المدير ، الأبلات ، المُشاجرات الصبيانية ، و أحياناً ” الهروب ” ، المرواح و مذاقه اللذيذ .. مواسم لعب ” البطش ” و غيرها حيث تجمعات الطُلاب في الساحة و كأنّها أولمبياد ، رقص ، لعب ، غناء ، أرقام ، حروف ، أشعار و ” صباح الخير مدرستي … صباح الخير و النورِ ” . إليكِ اشتقتُ في أمسي … و زاد اليوم ” تفكيري !!!!! ” .
استمتعت …
كما فال الأخ محمد النعاس نص رائع استطاعت الكاتبة الكريمة أن تعود بي الى أكثر من ربع قرن بل استطاعت أن غوص في اعماقي وتحرك وجداني حتى أحسست بالدموع تنسكب على خدي وهي تدكرني بالأيام الخوالي بارك الله فيك استادتي