حين زرناها أنا وعلي العكرمي، رئيس رابطة سجناء الرأي الليبيين، تهللت وابتهجت بقدومنا، كما لو أننا أصدقاء عمر، أو أقارب أعزاء. استقبلتنا على سرير المرض في مستشفى بباريس وأنبوبان لدائنيان يدخلان فتحتي أنفها حاملين الأوكسجين إلى رئتيها. كانت قد غادرت غرفة العناية المركزة منذ أيام، ولم يسمح لها الأطباء بالخروج. ديبورا بيريز، إحدى طالباتها، كانت رفيقتنا في الزيارة، ووجدنا لديها طالبة أخرى اسمها مارغو.
إنها الأستاذة هدى أيوب، اللبنانية المقيمة في فرنسا والتي تمارس التدريس بدار المعلمين العليا في باريس منذ حوالي خمس وعشرين سنة، وهي التي كانت وراء مشروع دعوتنا إلى باريس وإقامة ندوة حول أدب السجن في ليبيا، وهي التي تولت، رفقة طلبتها في قسم الدراسات العربية بالدار، ترجمة النصوص إلى الفرنسية.
كان بيننا تواصل عبر الهاتف (هي التي كانت تتحمل عبء المكالمات) وعبر النت قبل ذهابنا بمدة، لتنسق إجراءات التأشيرة والسفر، أو للاستفسار عن بعض المسائل في نصوصي، خاصة الجمل الواردة بالعامية. وعبر هذه الاتصالات نشأت بيننا مشاعر ألفة وود. حكت لي مرة أنها استقلت سيارة أجرة في القاهرة وكان السائق يضع شريط قرآن. سألته عما إذا كان لديه تسجيل بصوت المقريء الشيخ الحصري. ففوجيء الرجل وسألها ما إذا كانت تستمع إلى القرآن. أجابته بنعم وأنها تحب أن تسمعه بصوت الشيخ الحصري. قال لها بأنها ليست محجبة، فكيف تستمع إلى القرآن؟؟!! قالت له وأنت أيضا لست محجبا وتستمع إلى القرآن!! قال لها أنا رجل! فردت عليه: وأنا امرأة! فضحك السائق ولم يجد بما يجيب وقال لها أول مرة تفحمه امرأة. هدى أيوب تدرس لطلبتها نصوصا من القرآن والحديث النبوي والتراث الإسلامي إلى درجة أن كُتبت عنها تقارير أمنية، من داخل هيئة التدريس، تنبه إلى خطورة فعلها هذا.
في زيارتنا لها في المستشفى لست أدري كيف ورد ذكر التبولة، فقلت لها بأنني حين كنت صغيرا كنت أستمع إلى أغنية نجاح سلام”ميل يا غزيًّل” وكانت تعد حبيبها بأنه لو زارها فستطعمه تبولة. خطر في بالي، حينها، أن التبولة أكلة فريدة إلى درجة أن امرأة محبة عاشقة ستخص بها حبيبها عند اللقاء، فإذا بي أكتشف أنها مجرد معدنوس!. ضحكت وقالت بأن التبولة في الأصل أكلة أحبة. إذ يعدها شبّان وصبايا القرية في جوار عين ماء القرية أي الينبوع، من الأعشاب والخضار التي يزرعها أهاليهم حول العين ويجعلون منها نزهة جميلة يلتقون بها ببعضهم فتنمو بذلك أواصر الصداقات وينعم العشاق بالقرب من أحبتهم، ولذا فإن لها علاقة بالحب والعشق.
حاولت هدى أيوب قدر الإمكان أن تدير برنامجنا من سريرها بالمستشفى وحزنت كثيرا لكون الحدث لم يجر كما أرادته وأنها لم تتمكن من الحضور.
خرجت من المستشفى قبل مغادرتي باريس بيومين، وغداة خروجها من المستشفى وعشية سفري دعتني إلى الغداء في بيتها. قبل ذهابي قلت للحسناوات الثلاث بمكتب الاستقبال بالفندق أنني ذاهب إلى زيارة صديقة في بيتها فماذا ينصحنني أن آخذ معي. نصحنني أن آخذ باقة زهور أو علبة شكلاطة. قلت لهن أنني لا أعرف الأمكنة هنا وأعتقد أن العثور على محلات تبيع الشكلاطة أيسر كثيرا من العثور على محلات بيع الزهور. فقلن نعم. لكنني وفقت في العثور على محل بيع زهور قريب من سكنها، فحملت إليها باقة صغيرة من أزهار برتقالية اللون لا أعرف اسمها. فرحت بها كثيرا وذكرت لي اسمها بالفرنسية والعربية إذ قالت إنها من “شقائق النعمان” التي تحبها كثيراً ، ثم وضعتها في مزهرية على المنضدة التي بيننا. كان الأنبوبان اللدائنيان مايزالان عالقين بأنفها، وأثناء جلستنا لاحظت أنها تحقن نفسها. قلت: لا بأس. قالت: لا أراك الله بأسا. كنت لا أريدك أن تنتبه. لكنك انتبهت.
هي عميقة الثقافة وتمتلك حساسية لغوية شديدة. قالت لي: في أحد نصوص كتابك” سجنيات” ورد تعبير”كواسر الغابة” وكنت تعني به الحيوانات المفترسة. لفظة كاسر أو كواسر تطلق على الطيور الجارحة فقط. قالت أعرف أنك ارتأيت بأن كلمة وحوش أو حيوانات مفترسة أو سباع تتناشز مع مناخ النص. لكن كلمة كواسر لم تكن صحيحة.
قالت لي بأن جدها كان كاهن” ضيعتهم”(خوري).
وهنا اكتشفت أن الأستاذة هدى أيوب مسيحية مارونية(حتى في ليبيا أنا لا أسأل معارفي عن أصولهم القبلية أو الجهوية، ما لم يتطلب ذلك سياق الحديث، ولا أسأل معارفي من غير الليبيين عن دياناتهم أو مذاهبهم).
جدها هذا، رجل الدين المسيحي، كان عالما في اللغة العربية ومتغلغلا في التراث العربي والإسلامي وكان يحفظ شيئا من القرآن، باعتباره مكونا من مكونات شخصيته العربية، كما كان يجيد السريانية ومتعمقا في آدابها الدينية والدنيوية، إضافة إلى أنه أول الذين أخذوا على عاتقهم محاربة الأمية في ضيعته بشمال لبنان. كان في منتهى التحرر العقلاني والتفتح الفكري، تقول. ولقد ورث أبوها ذهنيته. كجدها، درست هدى أيوب أجزاء عديدة من القرآن والحديث على شيخ أزهري وفي باريس.
كانت التبولة عنصرا بارزا على مائدة الغداء، ومثلما أن هدى أيوب كانت تدرس الثقافة العربية والإسلامية لطلبة دار المعلمين العليا بباريس، علمت خادمتها الرومانية إعداد التبولة.
كانت الجلسة لقاء إنسانيا متعدد الأبعاد:
لبنانية وليبي، مسيحية ومسلم، أستاذة جامعة وكاتب، يلتقيان في باريس، بينهما على المنضدة شقائق النعمان الفرنسية ونبيذ فرنسي وطعام لبناني، أعدته فتاة رومانية، تهيمن عليه تبولة شهية لم تكن”مجرد معدنوس”.
كثيرا ما نكتشف، في آخر المطاف، أن الآخر المختلف إنما هو “شقيق الروح”.
_________________________________
(*) اطلعت الأستاذة هدى أيوب على المقال قبل نشره، فصححت بعض المعلومات وأضفت عليه لمسات مهمة.
عن بوابة الوسط