المقالة

دمشق العصّية

قبل ألفٍ وأربعمائة عام ، حاصرت جموع الهمج البدو أسوار دمشق ، مدعية أنها تحمل رسالة من السماء إليها . واستطاعت تلك الجموع الهمجية إجتياح دمشق وباجتياحها لدمشق إجتاحت قلب الحضارة وعاتت فيه فساداً ودمارا .

فسقطت الحضارة صريعة بين أيدي القبائل المتوحشة وتحولت دمشق من عاصمة لحضارة الدنيا إلى عاصمة لمملكة التوحش والتخلف والإنحطاط.

دارت الأيام دورتها وسقطت مملكة التوحش تلك لكن أثار توحشها وتخلفها ظلت لحقبٍ مُتطاولة مُختلطة بهواء وماء وتراب دمشق ، وعانت دمشق المرارات لتطهير نفسها من ذلك الوباء البدوي.

اليوم وبعد ألف وأربعمائة عام يعود ذات البدوي الحامل لأوبئة الدنيا كلها ،يعود ليقف عند أسوار دمشق من جديد بعد أن عدّل في هيئته ، فاستبدل عِقال سلفه المنسوج بالليف بعِقال مغزولٍ من خيوط حريريه ، وأستعاض عن قطعة القماش المتسخة التي كان سلفه يغطي بها رأسه بشماخ ملون بالوان زاهية منسوج بأنامل شقراوت العالم المُتحضر ، وظن لحمقه أن إصلاح هيئته سيُصلح داخله المليء بالقبح والتقرحات والوساخات.

عاد خلف ذاك الهمجي ليقف عند ذات الأسوار التي وقف عندها سلفه ، مدعياً نفس الإدعاء الذي إدعاه أسلافه بأنه جاء يحمل رسالة من السماء لدمشق ،تلك الرسالة التي حملها سلفه على أسنة السيوف والرماح ، وجاء هذا الخلف يحملها مُقرطسة في دولارات نفطه وغازه القذرة.

لكن دمشق إستوعبت الدرس وأدركت أن اللصوص وقطاع الطرق هم من يدعون أنهم رسل السماء وحملة وصاياها ، فغلّقت أبوابها دونهم ، وأستعصت أسوارها عليهم وعلى غلمانهم الذين اشتروهم وجمعوهم من أسواق نخاسة العالم .

وقفت دمشق لسنوات أربع شامخة كشموخ قاسيونها ، تسخر من محاولات ذاك الأعرابي وغلمانه تسلق أسورارها ، ليقع في كل مرة وقعة أشد من سابقتها على مؤخرته المُتهدلة ، وسيظل يحاول وسيظل يقع حتى تتهشم مؤخرته كما تهشمت مؤخرة جده إبن فرناس عندما تصدى لما هو ليس أهلاً له .

لعل الوقعات المتكررة تجعل عقل هذا الاعرابي ـ إن كان له عقل ـ تجعله يعمل ، ويدرك أن وقوفه عند أسوار دمشق جلب له العار والفضيحة لأن وقفوفه عند تلك الأسوار جعل الدنيا بأسرها تقارن بين تلك الأسوار الشامخة الضاربة بقوة في طبقات الأرض والسماء وبين حجمه الصغير والقميء الذي يجعله يظهر على تلك الأسوار كدودة حقيرة بائسة تتطلع لما لا تدرك.

مجيء هذا الإعرابي في نسخته الثانية وأندحاره سيحمل خيراً كثيراً لدمشق ، فهو سيمنح دمشق قدرة أكثر على التطهر من بقايا الأوبئة التي حملها أسلافه في رسالتهم الملغُومة بالأوبئة التي إدعو أن السماء كلفتهم حملها.

ستكون دمشق الأن أكثر مقدرة على التعافي والتطهر ، وستعود بعد التخلص والتطهر من أدران تلك الرسالة الملغومة ،ستعود لما كانت عليه قبل إجتياح قطعان الجراد لها قبل ألف وأربعمائة عام ، ستعود لتكون كما كانت دائما عاصمة للدنيا وواحة للنفوس العطشى للجمال والفن .

سيندحر الأعراب وسيعودون ليختفو خلف كثبانهم الرملية المتحركة ، وستبقى دمشق دائما هي المكان الذي تستريح فيه النفوس أكثر من أي مكان في الدنيا .

ليس فقط لأبنائها بل لكل من إلتقاها يوماً

مقالات ذات علاقة

نقد الذات الليبية

المشرف العام

التغريد خارج السرب

عمر عبدالدائم

حكاية عن كاتب لم يثرثر

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق