خلال مسيرة كتاباتي لأجل المرأة الليبية، انتبهت أن النساء كن أقسى عليّ من الرجال. سألت نفسي عشرات المرات لماذا؟ ما الذي أقوله أو أكتبه ولا يجد إلا التجاهل والصد والكثير من الإهانة والنميمة الفاحشة منهن؟ فأنا لم أطلب يوماً إلا أن تكون لهن أدوار الشراكة في صنع القرار، وتصدّر المجالات الحياتية، وإنتاج المعرفة الخاصة بهن دون إدانتهن على أساس الجنس!
جاءت أحداث فبراير، ورأيت النساء يتحركن في شوارع بنغازي، يصعّدن من طلباتهن بالإفراج عن الزميل فتحي تربل، المحامي عن بعض ضحايا سجن بوسليم، إلى المطالبة بالتغيير والإصلاح الشامل، وسرعان ما انتشر صوتهن في الهواء الملّوث بالديكتاتورية والقمع ومحاصرة النقد، لتتلقفه بلهفة آذان النساء الأخريات والرجال، في البيضاء، والمرج، ودرنة، وحلقّ الصوت النسائي المطالِب بالتغيير بكل مكان، فألهب الزنتان وطرابلس ومصراتة ومدن غرب ليبيا ووسطها وجنوبها، تململت المدن على وقع الصراخ، وخرجت هادرةً في الشوارع وكانت النساء في المقدمة وفي الوسط وفي الخلفية.
يومها بالذات، قلت في نفسي: “بس خلاص يا بنت”، سقط الجلاد! سأرى أخيراً المرأة الليبية التي كتبتُ لها وحلمت بها في خيالي وقد حققت كل أمنياتي لها، فإذا بي أتلقى صفعةً على قفاي المتعرّق لأستيقظ من حلمي الساذج.
أعترف، كان رأسي مملوءاً بالأمنيات الفائضة عن حاجة بنات بلدي، فاعتكفت بحثاً عن إجابة سؤالي القديم، لماذا كانت النساء أقسّى عليّ من الرجال طوال الوقت؟ ولماذا تكون المرأة عدوة نفسها دائماً؟!
تطلّب الأمر وقتاً، حتى انتبهت أن المرأة الليبيّة، قد قامت بثورة على جلاد لتستبدله بجلادٍ آخر، وأنها بالثورة قد غيّرت فقط وجهة الرضوخ، وأنها حين لم تثر على خطاب تعدد الزوجات يوم التحرير، ولم تخرج في مظاهرات عارمة، يوم استبعاد سارة المسلاتي من مراسم تسليم السلطة للمؤتمر الوطني، لأنها لا ترتدي الحجاب، ولم تعاود إلهاب المدن المتفرقة في فراغ ليبيا المترامي يوم اغتيال سلوى بوقعيقيص وانتصار الحصائري، أيقنت أنها ما زالت تعيش في غرف الحرملك، وأنها تخاف من أن تفتح باب الزنزانة وتغادر المكان إلى الأبد.
المرأة الليبية هي جارية منكوبة، تجلد ظهر أخرى متمردة بسوط سيدها، متبّعة أوامره بصرامة لتحصل على ثقته وبعض الامتيازات، ساعة إضافية في الهواء الطلق، السماح لها بالعمل بالمدرسة التي أمام البيت، مع أنها تحمل مؤهلاً في الهندسة المدنية، مغادرة منزلة الجارية بالترقي إلى منزلة المحظية!
الخمول الذهني للمرأة الليبية التي تربّت على العبودية، منعها من إدراك أن كل جلدة على ظهر تلك المتمردة، إنما هي حكم على نفسها بسنة إضافية في العبودية، وعلى الأجيال القادمة لكل الفتيات بالذل الأبدي.
الجارية التي حُرمت من حريتها، في أن تعيش علاقةً رومانسية صحيّة وعلنية مع زميل الكلية، أو أن تسافر وحدها بحريةٍ للعمل والسياحة والدراسة، أو أن تعيش بدون وصي ورقابة على كل حركاتها وسكناتها، وأن تستقل مادياً وتطالب بمزايا استقلالها، وأن تسير بدون غطاء أسود للرأس والجسد في الفضاءات العمومية، تلك الجارية ما إن يتقدم بها العمر قليلاً، حتى تصير كتلةً من الحقد الخام، وحين تنتبه إلى أنها قد خسرت شبابها ومتعتها، دون أن تعيش طبيعتها، واحتياجاتها العاطفية والجنسية والنفسية براحة، سيخفف من عذابها أن يحصل الشيء نفسه مع غيرها، ستثور من جديد لكن للدفاع عن المنظومة الفكرية التي جعلت منها نصف إنسان، ففي “المأساة الجماعية” و”القدر المشترك” يكمن العزاء والتخفيف.
تلك الجارية التي عاشت نصف حياة، ستدهس بكعب حذائها أي متمردة ترفع رأسها لتعيش حياتها كاملةً، ستقص جناح كل من أرادت الطيران خارج القفص، أو التحليق خارج التصورات الجاهزة لمفهوم المرأة، لن تمنح بركاتها أبداً لأي امرأة أخرى تعيش حريتها وتتذوقها بصورة طبيعية، ستقدم كل متمردة تراها على مذبح العهر الديني والمجتمعي لسيدها، حتى لا تجرؤ أي واحدة على مغادرة الزنزانة، وتلك الجارية ستصبح حارساً متطوعاً في خدمة تمتين وإعلاء سور الثقافة الذكورية، لتنهش بأظافرها وأسنانها كل من يهدد لبنات هذا السور أو ارتفاعه، حتى الرجال من عائلتها، سيصبحون ضحاياها، تربيهم وتعاملهم طوال الوقت على الإمساك بزمامها، وتوجيهها وتكريس هوانها.
واليوم، وبعد قرابة العشر سنوات قضيتها في كتابة الروايات والقصص والمقالات، أدق بها المسامير في الجدران الصلدة، أزرع بها الحرية على عتبات الليبيات، لا أشعر بأي تأنيب للضمير، أحب وأتزوج الرجل الذي أختاره أنا، أعمل بأي وظيفة تتوفر لي بلا خجل، أضع “جربندية” على كتفي، وأقطع تذكرةً وأسافر لأي بلد تتحمله محفظتي، أقرأ نوال السعداوي وسيمون دي بوفوار ومارتن لوثر كينج قبل أن أنام، أسمع الفادو وبوب مارلي وخطب تشي جيفارا وأخرس صوت عبد الباسط عبد الصمد، فقد أديت فاتورتي كاملة نحوهن، ويؤسفني أنني لن أستطيع أن أمد لهن طوق النجاة أكثر من ذلك.
نشر بموقع ليبيا المستقبل
2 تعليقات
المرأة الليبية مكرمة ومعززة
هي حرة في إتخاذ قرارات حياتها
ولها مكانة عظيمة
تستطيع المرأة الليبية بأن تدرس وتعمل وتصدر رخصة تجارية ورخصة قيادة وتكون وزيرة وللمطلقة والارملة لها راتب
المرأة الليبية في نعيم
نشكر مروك الكريم