يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…
44
الأنُس..
إنه قرين الإنس ليس في اللفظ فحسب.. إنه شريك الإنسان.. رفيقه من أول وهلة يفارق فيها وحدته في رحم الأم.. إلى أن يشيّع مجددا لوحدته في لحد القبر.. بين الوحدتين يعيش أنيسا.. يخشى الوحدة.. بل يمقتها.. يقال أنه سمي بالإنسان لاستئناسه وحبه للاجتماع وبغضه للتفرد والوحدة.
واحتنا تمقت الوحدة وتعشق الأنس.. ربما لا يضاهيهم مخلوق في حبهم للأنس.. حتى أن الأسلاف تركوا خلفهم الكثير من الوصايا تحث على الإجتماع وتنفر من الوحدة.. تفننت الجدات كعادتهن مع الوصايا في صوغها في حكايا.. تزرعها في نفوس الأطفال.. لتنمو مع نمو أجسادهم.. تكبر في مداركهم.. حتى صارت الوحدة عدوا يُحذّر منه.. بل صار نقطة ضعفهم كثيراً ما استثمرها أعداؤهم من أمم الخفاء.
لا تحلو مجالس الأنس من لحن يُغنى تطرب له الأسماع وتهتز له الأبدان.. ليس هذا ما برعت به حسان الواحة فحسب.. بل برعن في صوغ اللحون والأشعار.. أما الرجال فقد برعوا في الاستمتاع بتلك اللحون والأشعار.. لا يقاومونها فيهتزون لها طرباً إلى حد الثمالة رقصا.
برعوا كذلك في استخراج تلك اللحون من قصبة الغيطة مصاحبين ذلك العزف بإيقاعات فريدة غريبة.. لا يملك السامع إلا الطرب لها بل والرقص على وقعها.
غارت النسوة من مجالس أنس الرجال.. فالغيطة آلة ذكورية لا قدرة لهن على استخراج اللحون من خلالها لما تتطلبه من جهد.. فكانت الربازة وسيلتهن.. شعرة واحدة مشدودة على وعاء مجوف مغطى بجلد رقيق ينتهي بذراع طويلة.. شعرة أخرى مشدودة على قوس كفيلة باستخراج لحون بديعة.
يقال أن أمة الخفاء أدمنت الإستماع لتلك اللحون.. سواء تلك التي تعزف على الغيطة أو تلك التي تعزف على الربازة.. يقال كذلك أنهم تقاسموا العشق أسوة بأهل واحتنا.. رجال تلك الأمة أدمنت سماع الغيطة وشهود مجالس أنسها.. أما أناثهم فأدمن سماع لحون الربازة.. لا يخلو مجلس أنس من حضورهم.. صار ذلك شائعاً معروفاً ملموساً.. كانت تلك نقطة ضعفهم.. يقال أن عازف الغيطة يستطيع أن يهزم جيشا كاملاً بغيطته.. أما عازفة الربازة فقدراتها تتجاوز ذلك بكثير.
سأله شيخ العرش:
– هل انت متأكد مما تقول؟
أجاب القادم الغريب:
– أنها نقطة ضعفهم.. إنها الوسيلة الوحيدة للدخول لعالمهم.. فقط عليها أن تتحلى بشيء من القوة .
كانت ترتجف خشية فشلها في التحكم في مشاعرها.. كانت كذلك ترتعد شوقاً لرؤية ابنها الضائع.. سأل كبير الأعيان:
– ماذا عن هذا الطفل؟.. ما مصيره؟.. قد تصرعه اللحون.
– لا عليك.. سألبسه هذه التميمة ولن تؤثر فيه.
أخرج تميمتين مغلفتين في جلد أسود كالح:
– ألبسيها له حين ينام.. وهذه لك.
سرت فيها رعدة.. قال مشجعا:
– عليك فقط أن تريه.. إياك أن تتجاوزي ذلك.. أي خطأ قد يؤدي إلى مصير مجهول.
أخرج من جيبه تميمة أخرى ملفوفة في جلد بني.. قال:
– عليك إلباسه هذا على رقبته فقط.
أومأت برأسها موافقة.. كانت الشقيقة حاضرة مشجع لها.
– تشجعي.. ستنجحين.. إنها فرصتك الوحيدة ..
قال القادم الغريب:
– بعد عودتك من رحلتك بنجاح.. سننفذ الشطر الآخر من الخطة.
في ذلك اليوم اجتمع الضدان لأول مرة.. امهر عازف غيطة في الواحة مع امهر عازفة ربازة.. ليس هذا فحسب.. طلب القادم الغريب حضور أمهر ضاربات الإيقاع في الواحة.