أسماء محمد السبوعي* | تونس
أصبح التّجريب الرّوائيّ مشغل كل مبدع ينشد الاستمراريّة والتّحدّي، إذ بدونه يصير الكاتب حبيس قوانين الكتابة التقليّدية ورهين النمطية. والتّجريب تجاوز للمألوف وخرق للسّائد، إنّه محاولة بحث دائم عن الجديد في الشّكل والمضمون معا وسعي حثيث للإبداع والابتكار، ومن شأن هذا كلّه أن يطوّر الرّواية العربيّة ويجعلها قادرة على مواكبة تطوّرات الرّواية الغربيّة. والأديب الذي يراود التّجريب هو أديب باحث وحركيّ ، يبحث في الشّكل ويمتحن اللّغة ويختبر المضمون ويغوص في الواقع ولا يقف عند حدود الشكل، بل يتجاوزه ولا يكتفي بالمضمون بل يتعدّاه، فهو مشروع، يبحث بحثاً جادّاً عن الاختيارات الأساسيّة في جماليات التّجريب، ويؤسّس لقواعد ذاتيّة منبعها فكر الكاتب.
فالأدب التّجريبيّ “هو ذلك الأدب الذي يعتمد في نظريّاته العامّة على جهده واجتهاده وعلى ما ينقده من متاحف الماضي، وما يقتبسه من مدارس الغرب اليوم، تماشيا مع مقتضيات المعاصرة لا مع متطلّبات الماضي”(1).
ومن المبادئ الأساسيّة، التي يعتمدها الأدب التجريبي،ّ هو رفع الحواجز الفكريّة التي ظلّت تهيمن على القرائح والمواهب طيلة سنوات، وتعطّلها في سيرها نحو الخلق، وتبعث فيها عقد النّقص ومركبات الاحتقار. فالتّجريب إذن مساءلة مستمرة وبحث لا يتوقّف عن كل جديد ومثير، يقترن بالأسئلة التي تسعى إلى تدمير سلطة السّائد والمألوف الفنّيّ ثقافياّ، بالبحث عن إجابات جديدة غير تلك التي جفّت وتكلّست، إجابات هي، التي تمثّل أجمل العلاقات وأعمقها، لكنّها تحمل بدورها أجنّة لأسئلة أخرى “. وقد مثّل التّجريب شاغلاً مهمّاً من شواغل كتّاب الرّواية العربيّة، إنْ على الصّعيد النّظري، من خلال سعيهم إلى الكشف عن ماهيته ومفهموه والوعي بشروطه النظريّة، التي يرتهن لها ،وإن على الصّعيد الإجرائيّ، من خلال ممارسته، فعلاً منفتحاً على المغامرة الباحثة عن المغاير، من أشكال الكتابة الرّوائيّة وبنياتها في صوغ عوالمها، التي يتعالق فيها المرجعيّ والمتخيّل، الذّاتي والموضوعي، الكائن والممكن.
ويخضع التجريب الرّوائيّ إلى جملة من الشّروط، إذ أنّ باعث الكاتب الرّوائي على التّجريب، ليس ذاتيّا فحسب وإنّما تتعاضد فيه عديد العوامل الأخرى ذات الصّلة بتحقّق فعل الإبداع، ذلك أنّه “ليس مستساغاً تفسير ظاهرة معقّدة كهذه الظاّهرة تفسيراً يتكئ على رغبة الفنّان الفرد، وولعه بالإبهار، أو شوقه إلى إبراز تفرّده. إنّ الفنّان، إذ يجد نفسه مُواجَها بواقع معقّد، متداخل العلاقات، لا يجد بُدّا من تفحّص أدواته ومدى قدرتها على خلق هذا الواقع خلقاً جماليّاً جديداً، حتىّ لا يكون فنّه مجرّد انعكاسٍ لما يدور في هذا الواقع، بل إبداعاً جديداً يومئ ويشهد، لكنّه -في نفس الوقت يشارك في فعل التّغيير”(2).
ويذهب روائيّ الستّينات “محمّد البسّاطي “إلى أنّ التّجريب مغامرة، فضلاً عن كونه محاولة بحث متجدّدة، عن مبتكر من الأشكال الفنّيّة وطرائق الكتابة، حيث يقول: “في كل مرة أنتهي من كتابة رواية يجتاحني إحساس بأنها كانت مغامرة، تركتُ نفسي لها، أرقبها في فضول وهي تنمو وحدها” ثمّ يضيف في ذات السّياق”كلّ رواية كتبتها جاءت بالصّدفة، مازلت أحاول”(3).
فالكتابة التّجربيّة اذن كتابة تتميّز بتفجير ثوابت السّائد في مسعى خلق وسائلها الجديدة ورموزها المبتكرة داخل بنية النّصّ الروائيّ، وهي إلى ذلك كتابة ينظر إليها البعض على أنّها قلّة ونخبة، ممّا يجعلها في قطيعة مع الفئات الواسعة من المثقّفين.
ويذهب محمد الباردي إلى القول: إنّ الرّواية التجربيّة هي رواية الحرّية، إذ تؤسّس قوانينها الذّاتيّة، وتنظّر لسلطة الخيال، وتتبنّى قانون التّجاوز المستمرّ. ولذلك فهي ترفض ايّة سلطة خارج النّصّ، وتخوّن ايّة تجربة خارج التّجربة الذاتيّة المحض.
إنّ التّجريب في النّهاية سعي دؤوب في مسارب جديدة لم تطأها قدم، وهو تجاوز مستمرّ للقاعدة والقانون. وهو مخرج الرّواية العربيّة الحديثة من ترهّلها، ولكنّه في الوقت نفسه يعكس حيرة تعاملها مع واقعها في زمن انهيار الثوابت”(4).
وتتعدّد مسالك التّجريب التي توخّاها كّتاب الرّواية العربيّة منذ الثمانينات من القرن الماضي، وتتنوّع في مسعى البحث عن أشكال تعبير، وطرائق صياغة جديدة تمتلك القدرة على استيعاب قضايا الواقع المعلوم وبلورة المواقف منها، بأفق يتطلّع إلى إنتاج رواية حداثيّة مغايرة للنموذج الرّوائيّ الساّئد. وهي رواية” تصدر عن كُتّاب استوعبوا العصر ووعَوْه فنيّاً وأدركوا عمقه اللإنسانيّ المعقّد ولا معقوليّته الصّارخة. هي رواية انسلخت من النّمط الكلاسيكيّ البسيط في بنائه المترابط الأجزاء القائم على تنامي الحدث وعلى كرونولوجيّة القصّة، التي تتّبع شخوصاً لها ملامحها الجسديّة والنّفسيّة والفكريّة والخلفيّة الاجتماعيّة، انسلخت من ذلك كلّه لتصبح كتابة جادّة كثيراً، ما يطلق عليها الكتابة الحداثيّة”(5).
وسنعمد إلى التّركيز على أبرز مقوّمات التّجريب التي تشكّل العلامات الدّالّة على الحداثة الرّوائيّة، وتتجلّى بصفة خاصّة في أشكال السّرد وبنياته، وما تقوم عليه من أنساق جماليّة ودلاليّة، تسم مختلف العناصر التّكوينيّة للعمل الرّوائيّ.
ولعل الكاتبة التونسية “أمينة زريق” من بين هؤلاء الذين آمنوا بتجديد الرّواية لأنّها تأبى الحدود والقيود، وتنشد التجاوز، فجاءت روايتها “هيباتيا الأخيرة” تمرداً على النتاج الروائي، وثورة ًعلى تقاليد الكتابة والقوالب الجاهزة، ويتجلّى التّجريب في رواية “هيباتيا الأخيرة” من خلال هذه العلامات الدالّة:
1) العنـــــوان: حداثةُ العنوانِ الروائي وانفتاحُ أُفقِ التّاويل
يُعدّ العنوان عنصراً مُهمّاً من عناصر النصّ الأدبيّ والرّوائيّ منه بالأساس، لكونه يمثّل المعبر إلى عوالمه الحكائية، ما يكشف عن علاقة تفاعليّة وتكامليّة بينها، فضلاً عن علاقته بالقارئ، الذي يتولّى قبوله، باعتباره أولى العتبات، التي يقع عليها بصره، فيمارس عليه نوعاً من الإغراء الذي يحفّزه على اكتشاف كنهه. ويضطلع العنوان بوظيفة إرباك ذهن المتلقّي، بأن يولّد فيه حيرة السّؤال وقلق البحث عن حقيقته الملتبسة، بفعل مراوغة صيغة إنشائيّة وغموض ملفوظ خطابه، ولذلك يرى “امبرتو ايكو” أنّ العنوان يجب أن يشوّش على الأفكار، لا أن يحوّلها إلى قوالب مسكونة”(6)، فالعنوان من “أهمّ العناصر المكوّنة للمؤلف الأدبيّ، وهو سلطة النصّ وواجهته الإعلاميّة، وهو الجزء الدّال منه، يساهم في تفسيره وفكّ غموضه، ولانّه مفتاح إجرائيّ، به تفتح مغالق النّصّ سيميائياّ”(7).
“هيباتيا الأخيرة”، وردت صيغة العنوان مركباً نعتيّاً.المنعوت “هيباتيا” رمزٌ لقيم الفلسفة والتّنوير والعلم في مواجهة التعصّب والجهل، تعرّضت إلى السّحل والاعتداء الصارخ بسبب أفكارها التنويريّة، وصار موتها خاتمة رمزيّة يؤرّخ بها لانقضاء عصر فلسفة الإغريق، ولفظت الفلسفة الإغريقية أنفاسها الأخيرة بعد مقتلها، وحلّت بعدها العصور الوسطى المظلمة تدريجيّاً، وقد اعتبرت هيباتيا أعظم إمرأة في تاريخ الفلسفة ورمزها الأبديّ.اما ّالنعت”الاخيرة” فيحمل في طيّاته الى التعدّد والكثرة فيدفعك ما تكتبه امينة زريق الى التّساؤل عن الاخريات السّابقات لهذه الاخيرة، الا تكون امينة زريق هي هيباتيا الاخيرة، التي تروم تغيير واقع عصرها من خلال عملها الرّوائيّ؟
وبما أنّ أهمّ ما في النّصّ هو عنوانه باعتباره العتبة النّصيّة الأولى، التي ينبغي أن تكون مكثّفة وموجّهة، تختصر بين جوانبها المبنى الروائيّ كلّه، فقد وفّقت أمينة زريق إلى حدٍّ بعيد في هندسة عنوان يلفّه الغموض، مما يزيد من نهم القارئ وفضوله لقراءة الرواية.
2) تكسيرُ خطيةِ السّرد / تكسيرُ الزّمن
تتميّز الرّواية بحداثيّتها، وتعدّد أزمنتها، وتداخلها في مستوى البنية وتكثيفها في مستوى الصّياغة والدّلالة في آن، وهو التّكثيف، الذي يفيد تلك العمليّة الدّقيقة والمعقّدة، التي “تقوم على ضغط الرؤية في جمل مركّزة ولغة مجازيّة وكائنات رمزيّ، وفي حجم روائيّ صغير، تتفتّت تلك الرؤية في رؤيات متعدّدة ومتقابلة ومتكاملة”(8).
وقد خرجت “هيباتيا الأخيرة” عن مفهوم الزّمن الخطيّ التّعاقبيّ، الذي كان دعامة أساسيّة في الرّواية التّقليديّة، فتشظّى في روايتها وتكسّر وخرج عن المنطق التّسلسليّ الخطيّ، وهو ما نلحظه في القول الذي جاء على لسان السّاردة “إنّها نهاية العالم، لابدّ أن نبدأ الرّواية بالنّهاية إذن”.
إنّ الزّمن الرّوائيّ، كما يبدو في هذه الرّواية، بنية تحدث الآن، لها خصوصيّتها ومنطقها الدّاخليّ، من خلاله تجد معناها ومن خلاله تحقّق دلالتها. وقد غلبت على هذه الرّواية الفوضى العارمة وهيمن عليها العجائبيّ. وقد وصف عبد الله المتّقي أحداثها بأنها “أحداث أشبه ما تكون بالغرائبيّة أو الخيال العلميّ أو رواية الدّيستوبيا”(9).
“أحداثٌ نشأت نتيجة الإعلان عن خمسة أيام متاحة للهجرة اللامشروطة، تفتح خلالها ايطاليا وفرنسا واسبانيا حدودها أو معابرها بمقتضى أتفاق أممي، لاستقبال التّونسيين الرّاغبين في الهجرة دون تأشيرة”(10).
ومن خلال ما تقدّم تبدو رواية “هيباتيا الأخيرة ” مختلفة عن رواية الخمسينات والستينات، إذ أنها تجاوزت الرّواية العربية التقليديّة، من حيث تخلّيها عن التّتابع الخطيّ بكسرها الزّمن بحثا عن بنية جديدة للزّمن تكون نابعة من محدّدات العمل الدّاخلية، ومنسجمة مع دلالتها العامّة وخصوصيّة التّجربة.
3) الرّاوي المتعدّد في “هيباتيا الأخيرة” (التعدّديّة السرديّة):
تتعدّد مظاهر التّعدّديّة السرديّة في الرّواية الحداثيّة وتتنوّع لتمثّل علامات دالّة على اختلافها وتميّزها عن النّموذج الرّوائيّ التّقليديّ، وهي تسهم مجتمعة في ترادفها مع بعضها البعض وتنافذها في إغناء العمل الرّوائيّ جماليّا ودلاليّا.
وتخلّت “هيباتيا الأخيرة “عن مفهوم الرّاوي كلّيّ المعرفة، الرّاوي المتحكّم بالسّرد، الذي يعكس أُحاديّة الرؤية وأُحاديّة الموقع، لينفتح السّرد على مختلف الأصوات ووجهات النّظر المتباينة، معلنةً أنَّ الصّوت الواحد والرّؤية الواحدة، اللّذين يؤطران السّرد ويرتّبان أشكاله في مواضعها بوضوح ودقّة، لم يعد لهما من معنى في ظلّ واقع متشابك ومعقّد، أصبح فيه الرّاوي/ الكاتب مجرّد طرف في السّرد، وكفّ عن كونه النّاطقَ بالحقيقة أو مدّعياً المعرفة بكلِّ شيء، لأنه أصبح هو نفسه ، ككلّ الكتّاب الحداثيّين “مشحوناً بالرّعب أمام الحقائق، وعديم الثّقة بالواقع وبنفسه كذلك”(11)، فتعدّدت الأصوات في “هيباتيا الأخيرة “، حيث نجد صوت الرّاوية، التي تمنح لنفسها حقّ التّدخّل العنيف “سأكسّر مملكتها وأباغتها ربما أُردِيها قتيلة حين تفتح الأوراق فتجدني أَسرُدها، أمحقها ثمّ أُعيد تشكيلها كما أريد. ستتغدو “أمينة زريق” مجرد شخصيّة من الشّخصيات”(12). أمّا الصّوت الثّاني فصوت “كافكا القيرواني” وهو صوت سرديّ رصين “يومها بكيت “كاتبي” أجل بكيت فراقنا، تمنيت لو أسعدته أكثر”(13). لتتوالى الأصوات بعد ذلك فنجد صوت القارئ المشارك بدوره في الأحداث، مشاركة تجسّد الصّلة المتينة بين الإبداع والتّلقي “لن أغيّر السّرد ولن أغيّر مسار الأحداث، لكنّني أغير مجرى القراءة”(14). وتحضر المؤلّفة صوتاً من الأصوات، التي تؤثّث الرّواية داعية إلى الاستغناء عن الرّواة “انكشفت الوجوه الحقيقيّة وتعرّت الأنامل الوهميّة وظهرت سوءات الحقيقة والخيال”(15).
ومن هنا نخلص إلى أنّ الرّواية التي تتعدّد فيها الأصوات، هي رواية الرّفض والتّغيير، تعبّر عن وعي حادّ وعميق بواقع متغيّر، تهدف الرّواية التجريبيّة من خلاله إلى خلخلة الجاهز من الكتابة والجاهز من الوعي، بهدف إرساء علاقة جديدة بالقارئ، فقد تخلّى الرّاوي / الكاتب عن النّظرة العارفة، وفسح المجال أمام القارئ الذي يعطي النّص دلالته من خلال القراءة المنتجة، فأصبحت بذلك “القراءة عملية مركّبة تحتاج إلى جهد وبحث، إلى تحليل وتركيب، إلى محاورة النّصّ لا التّماهي فيه عبر القراءة المطمئنّة القائمة على التّلقي السّلبيّ، القراءة المريحة المستريحة، التي تهدهد المشاعر وتدغدغها، قراءة ما قبل النّوم التي تكون غايتها جلب النّعاس لا الانتباه واليقظة، ذلك أن كلّ إنتاج أدبي، هو إنتاج شكّل استقبال معيّن للأدب”(16).
وإضافة إلى توتّر علاقة رواية “هيباتيا الأخيرة” بالرّواية التّقليديّة وأشكال الكتابة السّائدة وتأسيس علاقة جديدة مع القارئ، يمكن أن نلحظ سمة أخرى تمثّل خصيصة مهمّة في هذا النّص، وتعني خروجه عن نظريّة الأجناس الأدبيّة، وسعيه إلى تأسيس نصّ جامع يجمع بين مختلف الأجناس ويتجاوزها في الآن نفسه.
طالع: روايةُ (هيباتيا الأخيرة): تساؤلاتُ فنتازيا السرد التونسي
4) شعرية الرّواية:
في هذا الإطار كان انفتاح “هيباتيا الأخيرة” على الشّعر من خلال اللّغة المجازيّة والصّور الشّعريّة واندراج السّرد ضمن بُنى إيقاعيّة وموسيقيّة، وهي ظواهر حاولت من خلالها “هيباتيا الأخيرة ” التّأسيس لجماليّة جديدة لا تقوم فقط على شعريّة الحكاية وإنما أيضاً على شعريّة الخطاب. ويقرّ شفيع بالزّين باستخدام السّاردة تشابيه واستعارات مبتكرة لتهويل المشاهد وتخييل كارثيّة الوضع، نذكر منها: “كأنّها بالوعة”، “كأنّ المدينة قد عدّت كومة من النفايات”، “جعل البيت هيكلاً عظمياً جعله يغدو كوخاً مفتوحا ًعلى الخراب”، “أمواج الفوضى”، “الأصواتُ بدت جيشا ًمن الغربان الناعقة”، “هستيريا الهجرة”، “صرعة مجتمع”، “للرّيح صرير يشبه نعيق الغربان”، “دوار البلاد وكرابسها”، “عري البلاد وبشاعة سوأتها”، “البلاد تتقيّأ أبناءها”، “البلاد في مهبّ الرّيح”(17).
وبما أنّ الكتابة الإبداعيّة حسب أدوار خراط “قد أصبحت اختراقاً لا تقليداً، واستشكالاً لا مطابقةً، وإثارةً للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمةً للمجهول لا رضى عن الذّات بالعرفان”(18)، فإن هذا الوعي النّظري يقرّب الرّواية التّجريبية من مفهوم الميتاروايةMétafiction بما هو ممارسة الرّواية نفسها للنّقد، ذلك أنّ النّصوص الحديثة عامّةً تحمل نصّاً موازياً لخطابها الرّوائي والأدبي، وهو نصّ يقدّم بشكل غير مباشر تصوّراً أو مفهوماً خاصاً للرّواية، ويقول كونديرا في ذلك “ينطوي كلُّ عمل روائي على رؤية مضمرة لتاريخ الرّواية، وعلى فكرة تماهي الرّواية، وقد حاولت أن أجعل الفكرة المحايثة لروايتي تتكلّم”(19)، وهذا التّرابط بين القصّ والنّقد تقنية ما بعد حداثية جاءت لكسر العمود التّقليدي للكتابة الابداعيّة، والاشتغال عبر اجراءات نصيّة تتأرجح بين التّعليق والنّقد، والتنظير، وهو ما عبر عنه النّاقد المغربي سعيد يقطين بحضور بنية الخطاب النّقدي في الرواية.
والمتأمل في رواية “هيباتنا الأخيرة” يرى أن الكاتبة تسعى إلى فضح لعبتها السّردية من خلال التّعليق عليها واللّعب بأحداثها وتحريك شخوصها ومحاكاة المتخيّل الرّوائي، لتحضر الرّواية بقصد التّمرّد على الرّاوية والكتابة “أنا التي رويتُ، أنا التي شكّلتُ ووضعتُ الملامح التي أحبّها لشخصياتٍ طالما تنافرتْ في ذهني. مَنْ تكون الكاتبةُ إذن؟ هي لا أحد. بل لا شيء. دميةٌ أحركها وأتجسّد فيها”(20).
وتتعدّد القضايا النّقدية في الرّواية وتتداخل فمنها الخاص برواية “هيباتيا الأخيرة” ومنها الخاص بالخطاب الواصف العام الذي يتناول قضايا الرّواية والسّرد بصفة نظريّة”(21). أمّا الخّاص برواية “هيباتيا الأخيرة” فيتجسّد في منح سلطة السّرد والتّحكم في مسار الأحداث “إلى الكاتبة وحدها “أمينة زريق” هي المسؤولة عن كل مصائر حروفها”(22) وتصرّح قائلة “أنا أقحم نفسي في السّرد كي أجد لي مكاناً وسط هذه الفوضى العارمة”(23)، ثمّ سرعان ما تتراجع معلنة عجزها عن السّيطرة على الأحداث، وتقول “لأول مرّة أركضُ خلف الأحداث ولا أصلُ إلى حبكة تعجبني”(24) .
وحول هذا الجانب يذهب شفيع بالزين “إلى أن هذا التّضارب في المواقف من السّارد والكاتب في علاقتهما بعملية السّرد تعكس الجدل النّقديّ وتضارب النّظريات السّردية، بخصوص هذه المسائل، وهو ما يفتح رواية “هيباتيا الأخيرة” على ضرب آخر من الفوضى متأتٍ من فوضى النّقد والنّظريات السّرديّة، انعكس على الخطاب الواصف فاضطربت مواقف السّاردة من عملية السّرد وعلاقتها بالمسرود والكتابة”(25).
أمّا بشأن القضايا النّقديّة المتّعلقة بالرّواية عامةً وقضايا السّرد مطلقاً، فقد طرحت قضايا عديدة منها على وجه الخصوص “قضايا الراوي مثل هويته وعلاقته بالمرويّ بين الحضور والاختفاء أو بين الهويّة والامّحاء أو بين الذّاتيّة والموضوعيّة”(26)، فهي تنفي عن الرّاوي هويّته الخاصّة وتصفه بالحياديّة “تذكرت ألاّ لقب لي، نحن الرّواة ينسبوننا إلى الكُتّاب”(27). كما أنّها تُثبت للرّواة جنساً أو هويّةً، وتؤكّد أنّ لجنس الرّواة أثراً كبيراً في أعمالهم، فالصّوت الأنثويّ يختلف عن الصّوت الذّكوريّ في السّرد.
وقد ذهب البعض إلى اعتبار الرّواية الواصفة مظهراً أساسيّاً من مظاهر التّجريب في الرّواية المعاصرة، وملمحاً بارزاً من ملامح رواية ما بعد الحداثة، ويرى رضا الأبيض أنّ الجمع بين الإبداع الرّوائي والنّقد الرّوائي، أي بين السّرد والميتاسرد، إذا كان عن وعي هو “اختيار جماليّ توجّهه خلفيّة نقديّة، يمكن وسمها بأنّها تجريبيّة تجعل الرّواية مغامرةً في الكتابة أكثر من كونها كتابةً مغامرة.
وسعت الكاتبة إلى “تحقيق حداثة نصيّة من أهم ملامحها الخروج من أسر المرجع الواقعيّ، وتشريك القارئ في بناء المعنى، وتفعيل النّقد الذّاتيّ، ونسف التّصنيفات التّقليديّة: كتابة / قراءة”(28).
وهكذا يعدّ الميتاروائي “ممارسة ما بعد حداثيّة، بفضلها يتآزر مساران ضمن الإبداع الرّوائي، فيكسران التّميّز التّقليديّ القّائم بين الإبداع والنقد”(29). ويذهب شفيع بالزّين إلى القول بـأنه “لا شكّ أيضا أن أحداً لا ينكر البعد التّجريبيّ والمابعد حداثيّ في الحيّز الواسع الذي منحته الكاتبة للخطاب الواصف في “هيباتيا الأخيرة(30).
وينتهي شفيع بالزين إلى الإقرار بأن “هذه الرّواية ليست ككلّ الرّوايات بل هي رواية مضادّة للرّواية الواقعيّة”(31). واستنادا إلى تصريح أمينة زريق “أنا لا أؤمن بالواقعيّة في الرّواية” لتنتقل في مرحلة لاحقة إلى إعلان نفسها ” قائدة السّرد الجديد”(32)، وتقول: “لعله آن الأوان كي نغيّر السّرد وطقوسه وقوانينه”(33).
5) بنية التشظّي وفوضى الكتابة.
إنّ تعقّد الواقع المعاصر في مختلف المجالات، حيث تحوّل الواقع إلى لا واقع، والمنطق إلى لا منطق، والمعقول إلى لا معقول، أسهم في تحويل الانظمة التي يحتكم إليها -إلى نوع من الفوضى- حيث فقد التّماسك بين مختلف عناصره، ليتّسم بنوع من التشظّي الذي طال مختلف مكوّناته، وقد حاولت “أمينة زريق” صياغة مظاهر هذا التشظّي وصوره في أشكال نصوص وبنيات خطابها السّرديّ، فلم تعد الأحداث والأزمنة والأمكنة وحركة الشّخوص وأفعالها مبنيّة في تصاعد وتنام وتراصّ، لها مقدّمات ونتائج كما في الرّواية الكلاسيكيّة بل كل شيء مبعثر في الرّواية. فالأحداث منشطرة ومجزوؤة والأزمنة لحظات متداخلة ومتفجّرة. تقول السّاردة: “لم يكن في الحسبان أبدا أنّ الفرصة التي كانت من المفترض أن تحلّ مشاكل الهجرة تسبّبت في فوضى عارمة”(34). وتقول: “لم تكن سهير تعرف بأنّ خبراً كهذا الذي أذيع سيدخل البلاد في هستيريا الهجرة”(35).
يبدو سرد الفوضى غالباً على “هيباتيا الاخيرة” ويتجلى في صور عديدة ومظاهر مختلفة أخذت منحى تصاعديّاً وازدادت وتيرته وحدّته من فصل إلى اخر، وكلّما تنامى السّرد وتطوّرت الحكاية ازدادت الأحداث كارثيّة واتّسعت دائرةُ الفوضى مكاناً وزماناً وشخصيّاتٍ وأحداثاً، وكذلك حكايةً وخطاباً، أو مسروداً وسارداً، أو مكتوباً وكاتباً. ففي مستوى المكان لم تقتصر الفوضى على مدينة القيروان، وإنّما أخذت رقعتها تتّسع تدريجيّا لتشمل البلاد التّونسيّة كلّها (تونس للبيع، يحرقوا في الدنيا الكل…) لتصل في مرحلة لاحقة إلى اليمن والبلدان الأوروبية (كانت أوروبا قبلة الكبير والصّغير).
أمّا في مستوى الزمن، فقد أخذ الحيّز الزّمني الذي تجري فيه الأحداث يتّسع تدريجيّاً، ويتجاوز الايّام الخمسة التي سمحت فيها الدول الأوروبيّة بالهجرة الجماعيّة إلى سنوات (السّنوات التي مرّت كالكابوس). ثم تطال الفوضى الشخصيّات في مرحلة لاحقة، فانصبّ الاهتمامُ في البداية على شخصيتي (العربي مخ الهدرة والمزوغي) ثمّ اتّسع قليلاً ليشمل عاىلتيهما وبعض الشخصيّات المقرّبة (للاّ حلّومة، سهير،خذلونة) ثمّ اتّسع ليعمّ سكّان المدينة كلّهم (كانت الفوضى تأخذ الجميع).
وفي مستوى الأحداث، تركّز السّرد في البداية على مظاهر الفوضى التي نتجت عن إعلان فتح المعابر للهجرة الجماعيّة، وهي نفسها تجاوزت مظاهر الفوضى النّاجنة عن الازدحام والتّدافع على المعابر إلى فوضى عامّة أو عارمة (غرقت كلُّ الأحياء الشعبيّة وغيرها في غيوم البعوض الأصفر -وابل السباب يهطل دون توقّف- الريح الضارية لم تشهدها المدينة من قبل- النّفايات غطّت الطّرقات…).
ومن هنا نخلص إلى أنّ إنسان هذا العالم يعيش غارقاً في الواقع الخاصّ به والواقع العالميّ بمشاكله وإشكالياته، وفي نفس الوقت يعجز عقله عن تفسير ما يحدث حوله، وأحيانا عن استيعاب سرعة التّحوّلات، ويصبح أمام أسطورة، وفي نفس الوقت يلجأ إليها، يواجه عالماً تتكاثر فيه وجوه تشظّيه إلى درجة الالتباس المتجاوز حتّى لطاقة التّخييل والمنفلت من أيّ تشخيص منتظم. فرغم صرامة المعرفة العقليّة فيه إلاّ أنّه يتشكّل تشكّلاً لا معقولاً وبذلك فإنّ الرّواية نتاجٌ لهذا العالم المتشظّي لا يمكنها إلاّ أن تتأثر به -وهي تستوعب إشكاليّاته- على مستوى أنساق شكلها وبنية خطابها السّرديّ وأنساق لغته.
إذاً تعتبر “هيباتيا الأخيرة” رواية تجريبيّة تتجاوز الرفض إلى البناء، والنقض إلى التّأسيس “ذلك لأنها ترفض السّائد وتخرج عن معايير الرّواية التّقليديّة لتؤسّس لمعايير جديدة وترسي جماليّة مختلفة وشعريّة بديلة”، ومن هنا نخلص إلى إعتبار أن رواية “هيباتيا الأخيرة ” للأديبة أمينة زريق هي محاولة جادّة للبحث المتواصل، عن أشكال جديدة تكون قادرة على التّعبير عن اللّحظة الرّاهنة، وخلق علاقات جديدة بين الإنسان والعالم. فقد انتهجت صاحبتها مذهباً تجريبيّاً في إنشاء عوالمها الممكنة، كانت أولى علاماته الدّالة العتبات النصّية وتجاوز النّسق التّتابعي لبنية الزّمن التقليديّ، لتتّسم بالتّداخل، والتّشعّب والتّعقيد، فلم تكن تسعى هذه الرّواية التّجريبيّة لإرساء قواعد جديدة تكون موجّهة للإبداع اللاّحق، وإنّما كانت بحثاً عن قواعدها الخاصّة، التي تنشأ لحظة تشكّل النّص وليس قبل ذلك، ممّا يضمن لها حداثتها التي تتحقّق من خلال الخروج عن السّائد، بشرط أن يكون هذا الخروج حركة ًواعيةً أو يكون نابعاً عن “معرفة” على حدّ عبارة بارت، وما الأدب التّجريبيّ إلاَّ مرحلةً مؤقتةً وانتقاليّةً ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازه.
وتبقى عمليّةُ الاحاطة بمختلف مظاهر التّجريب في هذه الرّواية الحداثيّة أمراً لا يخلو من عسر، باعتبار كثرة المظاهر الدّالّة على تجريبيّتها، والآليّات المستخدمة في تشكيلها، والتّقنيّات المعتمدة في إنشائها، إلاّ أنّ التّجريب الذي انخرطت في مذهبه كاتبة رواية، “هيباتيا الاخيرة”، ودلّت عليه العديد من العلامات التي وسمت عناصر هذه الرّواية التّكوينيّة، وكانت له حدود دلّت على عدم تخلّص الكاتبة من بعض الآليّات التقليديّة في إنشاء الرّواي.
*أستاذة باحثة بكلية الآداب بجامعة سوسة – تونس
الهوامش:
[1]- عز الدين المدني: الأدب التجريبي، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1972، ص 10.
2 – عوني، كرومي، المسرح والتّغيير الاجتماعي، دراسة مفهوم العرض المسرحيّ وعلاقته بالواقع الاجتماعي، القاهرة، مجلّة فصول، العدد الاوّل، يناير 1995م، ص127.
3 – محمد البساطي: تجربتي الروائية، بيروت، مجلّة الآداب، الرواية العربية: أبحاث وشهادات، العددان7-8، تموز(يوليو) آب (اغسطس) ،1997، السنة46، ص42.
4- محمد الباردي: النّخّاس-عين الفرس- أبواب المدينة،ذات التّجريب،وانهيار الثّوابت بيروت مجلّة الاداب”:التّجريب والتّجديد في الرواية العربية،العدد5-6ايار مايو،حزيران يونيو،1977،السنة 45،ص20
5 – محمد أفضاض:حداثة ام كتابة جديدة؟ضمن كتاب: سؤال الحداثةفي الرواية المغربيّة،ص22.
6 – امبرتو، ايكو: الكتابة السرديّة (نصوص حول تجربة خاصة) ترجمة سعيد بنكراد، اللاذقيّة، سوريا، دار الحوار للنّشر والتوزيع، ط1، 2009، ص22.
7 – جميل، حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، الكويت، مجلّة “عالم الفكر” ،مج25، عدد3
8 – محمد، افضاض: حداثة أم كتابة جديدة؟، ص23
9 – عبد الله المتقي، ورشات الكتابة في هيباتيا الأخيرة، من ضمن مجلة ميريت الثقافية، بتاريخ 31 جويلية 2021
10 – هيباتيا الأخيرة، ص 7
11 – بيكولوف، …. (آخرون) ثورة الفنّ والرّواية، ضمن نظريات في مستقبل الرّوية، ترجمة محسن جمعة، ،منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، ط.1، 1981، ص 33
12 – هيباتيا الأخيرة، ص 55 .
13 – نفس المرجع، ص 196.
14 – المرجع نفسه، ص 134.
15 – نفس المرجع، ص 224
16 – دراج فيصل، الانتاج الأدبي والطليعة الأدبية، مجلة الكرمل، العدد 1، 1981، ص 124.
17 – شفيع بالزين، التخيل والتّأويل، دار الأمينة للنشر، الطبعة الأولى، مارس 2024 .
18 – هيباتيا الأخيرة، ص 56
19 – سليمان نبيل، فتنة النقد والسرد، دار الحوار، ط 1 ، اللاذقية سوريا 1994 ، ص 42.
20 – هيباتيا الأخيرة، ص 8
21 – شفيع بالزين، التأويل والتخييل.
22 – هيباتيا الأخيرة ، ص 224
23 – نفس المصدر ، ص 171 .
24 – المصدر نفسه، ص 54.
25 – شفيع بالزين، ص 79.
26 – المصدر نفسه، ص 78 .
27 – هيباتيا الأخيرة، أمينة زريق، ص 74.
28 – الروائي الناقد ابن عربي للنشر، تونس ، ط 1 ، 2019 ، ص 379 .
29 – نفس المصدر، ص 223 .
30 – شفيع بالزين، ص 81.
31 – نفس المصدر، ص 78.
32 – هيباتيا الأخيرة، ص 171.
33 – نفس المصدر، ص 12
34 – المصدر نفسه، ص 8
35 – المصدر نفسه، ص 88