أوراق في حب (درنة)
محبوبة خليفة
(كانت إذا تمشي ترافقها طواويس وتتبعها أيائل)*.. معظم طواويس هذه المدينة يعرفون خطواتها الرشيقة وهمسات نعلها على الأرض، ذلك النعل المصنوع بأيدٍ تعرف مسبقاً أنه لها فوضعت فيه حشاشة قلبها وروحها الهائمة بطلَّة هذه السيدة ومشيتها، فأتقنت الصنعة فتفرّد حتى إنك لن تجد له مثيلاً إلا ذلك الذي إن مشتْ به تقوم المدينة على رجلٍ واحدة ولا تعرف للجلوس سبيلا.
نعلها (صبّاطها)*الجلدي الفريد بلونه الأصفر المشوب بالبرتقالي وبنقش الزهور الصغيرة التي تحيطه بألوانها المنعشة الجميلة كفرادة جمالها وهيئتها ومشيتها الموحية بشخصية قوية ونافذة، يضاف هذا لأصل الجمال في منبت الحُسن الذي تنتمي له وبعض كبرياء ظاهر للأعين المشرئبة ، من يلومها؟.
كان خرّازو* المدينة المعروفون كلما شاهدوها يميل أحدهم على من بجواره مبتسماً ومباهياً بأنه هو صاحب الصَبَّاط وأنه صنعة يديه وتنتبه هي لابتسامة الفخر على وجوههم فتتبسّم سخريةً فصانع الصَبَّاط ليس من بينهم بالتأكيد
أما لفة الجَرْد الأبيض وتقاسيم الجسم المتناسقة التي لا يخفيها ذلك الجَرْد -المقرر عليها عند الخروج كما على نساء المدينة الصغيرة- فتفعل فعلها هكذا تصير الأمور كلما قررت الخروج فتتبعها الطواويس أينما حلّت يمنّون النفس بقربها والتطلِّع إلى الحسن المخفي إلا من عين واحدة يُسمح لها -ككل النساء- بكشفها لتتبين طريقها.
كانت ثنية الجَرْد عند الرأس تُظْهِر العين في وسط مثلث مُتَشَكَّل من الثنية بالأبعاد الدقيقة المسموح، بها تلك التي تشبه شعار الماسونية!!. هل زار أحدهم هذه المدينة وشاهد عيون نسائها من تحت (الجَرْدّ) فاستلهم الشعار الغريب لا أحد يعلم!.
لا يخفي (الجَرْد) السيقان المتناسقة والجورب الدرناوي المميَّز الذي يصل للركبة فهو صنعة الأمهات يَحِكْنَهُ بألوان ربيعية حسب لون الأردية في تناسق يُمليه ذوقٌ وحبٌ للجمال متوارث وغير مصطنع.
أهل المدينة لهم باع في التغزل بسيقان النساء ومن ألأقوال الأثيرة لديهم (البيت رواق والمرا ساق)* وربما كان هذا أحد أسباب هذه المسيرة المُلفتة كلما قررتْ الخروج.
إلى أين ستخرج إن لم تكن لتعزية أو لعرس أحد أفراد الأسرة أو لطهور أو ربما لحفل عصيدة فرحاً بقدوم مولود جديد يضاف إلى سكان المدينة السعيدة بانضمامه إليهم
ليس في مخطط خروجها أو خروجهن شيء ٌمبهج ، لا سوق ولا تسوّق ولا تسكّع بين المحلات ولا جلوس في مقهى مع الصديقات ولا رحلة للطبيعة الفريدة المحيطة بالمدينة، لن يحدث هذا وإلا ستتنبأ الأرصاد الجوية بقدوم الوادي أو ربما بصواعق شتاء درنة المرعبة (الطراقيع) -كما يسميها أهل المدينة-وربما سيرتفع المدّ فيختلط بمياه الوادي-لاسمح الله-فيهدد تلك الراقدة في سكونها الأبدي بين الجبال المحيطة بها وبين أمواج المتوسط التي تحتضنها في حنو منذ الأزل وحتى ذلك النهار حين قررت السيدة المغناج الخروج .
قيل إن شاعراً معروفاً بالتغزّل اللطيف بالغاديات والرائحات في مشاويرهن التي اتفق عليها العُرف وسمح لهن بها قد لمحها فأذهلته مشيتها فقال فيها:
زول اللي مبرومة ساقه
حلو ارماقه*
ياعون اللي امعاه تلاقى*
وقيل أيضاً إن أحدهم كان يجالس أقرانه في مقهى المدينة بميدانها الرئيسي وما أن لمح مشيتها حتى ترك فنجان قهوته وسيجارة لم يطفئها ومشى خلفها على غير هدى لكنّها ضيّعَت مساره بمكرها، حين دخلت أحد الأزقة ولم ينتبه، وضلّ طريق عودته أو ربما لم يعدّ، خجلاً من رفاق المقهى وقد وعدهم بقرب التعرف عليها وربما مصاحبتها بأي وسيلة فهزمته وأطاحت بأحلامه .
كانت تمضي في طريقها غير مهتمة بما يدور حولها. فلتقَم المدينة ولا تقعد ماالذي سيضيرها؟،ليُجَنَّ رجالها ولا يعودون لرشدهم ماالذي سيضيرها؟.
كل ما يجري حولها تعرفه وتنتظره
ويجعلها تبتسم فرحة منتصرةً تحت الجَرْد الذي يلفها، إنه يمنحها حرية الابتسام وبعض سخرية من هؤلاء المساكين، أي سعادة وأي حرية أن تطلق لمشاعرك العنان تحت لحاف سميك لايراك أحد من خلاله !!
هي تعرف أنهم سيعودون إلى نسائهم متجهمين مدّعين الوقار والرزانة ثم سيسألون عن الغداء متى سيجهز.. وكبقية النساء ستخرج هي من مطبخها لتؤكد لرجلها أن الغداء على النار وتسأله والسخرية تملأ قلبها أن يُمهلها قليلاً فيتطَلّع إلى الساق ويُذهل من شدّة الشبه بينه وبين ساق التي مرّت من أمامه وقال فيها بيت الشعر الشهير.
* (كانت إذا تمشي….: من قصيدة بلقيس لنزار قباني
* الجَرْدّ: الرداء الأبيض الذي ترتديه النساء عند الخروج ويسمّى الفرّاشية في غرب ليبيا.
* الصَبَّاط: النعل أو الشبشب المصنوع يدوياً
* الخَرّاز:حائك الجلد
* البيت رواق ….قول متداول في المدينة
* زول اللي مبرومة…..: من قصيدة للكاتبة