عديدة هي الدراسات التي اهتمت بهذا الكائن الواقع بين فكي البحر والصحراء ، وكثيرة هي الملاحظات التي دونها الرحالة العابرون في رحلاتهم إلى ليبيا وعن الانسان الليبي ، وكثيرة هي الكتب التي اهتمت بهذا الكيان والمكون الذي يقبع منذ آلاف السنين تتقاذفه رياح القبلي ويضرب وجهه ملح البحر ، فلا يجد بدا من الانزواء خلف شجرة تقيه أو وراء جبل يعصمه أو داخل مغارة أو كهف يحميه . كثيرة هي التوصيفات التي حظي بها المكان فللمكان عبقريته الساحرة التي فتنت جميع من مرّ به وكثيرون وقعوا في غرامه ، لكنهم أجمعوا على أن المستوطنين يختلفون اختلافا كليا عن هذه الروعة ويبتعدون أميالا عن هذا الجمال ، فاتحدوا في وصف يكاد يجتمعون حوله وهو العزلة ، والانطوائية والخوف من الغريب . هذه السمة تتردد في كثير من كتابات الرحالة ومن مروا بهذه البلاد ومن كتبوا وأرخوا لها ، فهل حقا أن إحدى مسلمات الشخصية الليبية هي “الانطوائية” والانعزالية ؟ ، وهل لهذه الفرضية أو التهمة إن جاز التعبير ما يبررها أو يدلل عليها ؟. قرأت الكثير والكثير مما كتبه الرحالة حول ليبيا وكذلك من انتضوا لموضوع الشخصية الليبية مفردا ، منذ صرخة “عبدالحميد البكوش” رحمه الله حول الشخصية الليبية وإليه يعود الفضل في طرق هذا الباب مرورا بالكيان الليبي وبالهوية وبثالوث الغنيمة إلي المجتمع الليبي وكتب عبداللطيف حميدة وابوصوة والتير وغيرهم مما ترجم او أُلف مباشرة ، ولقد أرهقني تتبع هذا الموضوع واجتمع لي حوله الكثير من المعلومات والملاحظات ، ولعل المشاهدة والتقريب والعيان لهذه الشخصية الليبية المعاصرة التي تعيش معنا وسلوكها وثقافتها ومميزاتها وتعاطيها مع شؤون الحياة خير مثال لا يوجد في الكتب ، أذكر انني كتبت مقالا في مدة سابقة عنونته بــ (شعب الله الفناص) ،، و(شعب الله القصقاص) وهاتين الصفتين هما من مميزات هذه الشخصية التي دوخت المؤرخين وأبهرت المؤلفين ، فتجد (التفنيص) عادة أصيلة مارسها الآباء والأجداد منذ القدم وكذلك (التقصقيص) أو علم القصقصة وهو الذي انبثق منه الفرع الحيوي لجهاز الاستخبارات المركزي ، فالشخصية الليبية تحمل من هاتين الصفتين الكثير ، هذا ما كان يحمله مضمون المقال ثم استمر البحث والتنقيب وفي كل مرة أسمع بكتاب حول هذا الموضوع أسارع إلى اقتناءه أو الاتصال بمؤلفه ، وحدث في المدة الماضية أن سمعت ببحث حول هذا الموضوع كان ذلك في محاضرة للدكتور عبدالله مليطان حول المؤلفات الأدبية وأثرها في الثقافة وكنت من الحاضرين رغم اعتزالي الشأن الثقافي بجغه ومغه ، وقد انتهزت الفرصة لأسأل الدكتور المحاضر حول رأيه وما تكون لديه من قناعة حول الشخصية الليبية وهو الذي تعامل مع المطبوعات الليبية وجمعها في معاجم عدة فلم يجب الدكتور بل تملص منعا للإحراج ، وفي ختام المحاضرة أشار لي أن أحد الحاضرين قد كتب في هذا الموضوع وله بحث منشور ، غمرني الفرح حين عرفني بالدكتور “مختار قشوط” الذي استشاط فرحا حين رأي اهتمامنا به وبما كتبه وأخذنا الحديث معه حول الكتاب ، كان معي صديقي محمد فرج الذي أصر على أن نقتني نسخة من الدكتور ممهورة بتوقيعه وكان الدكتور في غاية الدماثة والتعاون وحدثنا عن المشاكل التي واجهته في طبع الكتاب وأن النظام السابق كان له ولكتابه بالمرصاد مما دار في خلدي أن النظام السابق ترك جميع القضايا في الكون وانشغل بمتابعة الدكتور وقلمه الذهبي وهذا مما زاد في شوقي وغرامي للكتاب خصوصا حديث “قشوط” حوله والصعوبات التي قفزها إلى أن انقذته جامعة غريان بارك الله فيها ونشرت الكتاب أو الكتيب الذي اتضح فيما بعد أنه محاضرات موجزة قدمت للطلاب لكي يجتازوا الامتحان بيسر وسهولة ، المهم تواعدنا مع الدكتور وتبادلنا أرقام الهواتف وعبر لنا عن سروره بأن أحدا اهتم ، وضرب لنا موعدا في الغد حيث سيحضر لنا نسخة من الكتاب وبعض ما كتبه أيضا كل هذا وأنا أستمع إلى معلقة مديح لا ينتهي وتقريض للكتاب غمرت فؤادي بالشوق فاسعجلت الغد ،، ويا خوف فؤادي من غدِ .. أخبرنا أنه يسكن قرب كوبري الثلاجات وأن نمر عليه ظهرا ،، وبتنا نحلم بفهم الشخصية الليبية وفك رموزها على يديه وجاء الغد والموعد انهمر وانهمر المطر رحمة وخيرا ،، واتصلنا به فكان المطر عائقا وحجة ، ثم انقشعت سحائب الرحمة وصار الجو حارا واتصلنا به ليخبرنا أنه في “السواني” ثم اتصلنا به ثم اتصلنا به ، أسبوع كامل ونحن نتواعد ونتخالف ، وفي المرة الأخيرة اخبرني أنه مطارد أو أنه خائف أو شيء من هذا القبيل لم أفهمه على الهاتف لكني سمعته يقول بوضوح : أنا مشغوووووول ،، مشغول . خرجت هذه الدرة من فمه أخيرا ، ولكن أما كان من الأجدى ان تقول لنا ذلك منذ البداية وأن (توزعنا) بلطف ، فلماذا تعد ولماذا تماطل ولماذا تتهرب وهنا قلت لصاحبي لماذا نبحث عن الشخصية الليبية وأمامنا شخصية ليبية مكتملة الصفات هاهي أمامك أولا : متباهية ثم مجاملة مداهنة ثم متبجحة ثم متهربة ثم كاذبة ثم خائفة من المجهول وتتبنى بطولات وهمية وتظن أن الكل يطاردها وأن رجال البوليس يتلصصون عليها فتصاب بالتقوقع والإنعزالية والإنطوائية المفرطة ، هاهي أمامك شخصية ذات بُعد غريب وشكاكة ، المهم لم أيأس وعذرت الدكتور فهو ليبي أولا وأخير وبحث عن الكتيب واشتريته فوجدته قد أُلف لطلبة كلية الآداب في مادة المجتمع الليبي وهو من القطع الصغير وبـ 135 صفحة في حجم اليد أو أكبر قليلا ،، وتوكلت على الله بقراءته بعد ثمانية دينارات خسرتها جزافا ، فوجدته يكثر من جملة : ومما تقدم نخلص إلى أن ، وجملة ومما سبق نخلص إلى أن ،، مع أنه لم يتقدم شيء ولم يخلص إلى شيء ذي أهمية تذكر ، فالكل يعلم علم اليقين أن كلمة (مارشبيدي ) وكلمة (سبيزا) وكلمات مثل كوجينة وبوسكو وستوفا وفوركيتا وبريمس) هي كلمات ايطالية وتسعمل في الدارجة الليبية (ص78) مع أنه ناقش موضوع الزعامة وشيخ القبيلة و”التصعيد” لكن الحق يقال لقد حاول الدكتور واجتهد ولكن ذلك فظل الله يؤتيه من يشاء مع أنه يعترف في نهاية كتابه أن هذا الجهد مقدم إلى طلبة الكلية وان هذه محاظرات قد أملاها عليهم وأن هذا الجهد قابل للنقد والتعديل والتطوير ، فبارك الله فيه وبارك في طلبته عماد المستقبل .
المنشور السابق
المنشور التالي
خالد درويش
الاسم: خالد درويش
تاريخ الميلاد: 8/10/1972
مكان الميلاد: طرابلس/ ليبيا
مجالات الكتابة: الشعر
تعريف قصير: ليسانس من كلية اللغات جامعة الفاتح- قسم اللغة العربية، رئيس قسم النشاط بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وأستاذاً للغة العربية بذات المعهد. عمل منسقاً لتحرير الملف الثقافي لصحيفة الجماهيرية، ومشرفاً على تحرير الشمس الثقافي.
إصدارات: بصيص حلق، زقزقة الغرب فوق رأس الحسين، أنا من راود التحنان يا كوب، أنا الليبي متصل النشيد، من أين يأتي كل هذا الليل، عندي من التسبيح فاكهة، مختارات في الحب والحرية أحبك والهوى.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك