الأحد, 30 مارس 2025
المقالة

التصوف مفتاح فهم الشخصية الليبية (2)

الصوفية الليبية: قصة الروح التي نحتت جغرافيا المدن والمناطق

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي
من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

أينما توجهت تعبد اللهَ ربَّ العالمين بالسير في مناكب أرض وطننا، سيقابلك اسم عَلَم ما يسبق إلى ذهنك قبل أن تصل إلى منطقته. حتى في كبرى حواضر بلادنا، تطغى أسماء الأعلام على أحيائها: سيدي الهدار، وسيدي المصري، وسيدي خليفة، والسبعة، وسيدي السائح وغيرها في طرابلس. وفي بنغازي، كل الأحياء بأسماء أعلام كرام طالما بعثوا فيها الحياة والنماء، فباستثناء الصابري، ستجد سيدي خريبيش، وسيدي الهواري، وسيدي فرج، وسيدي يونس وغيرها. لم تكن تلك المناطق والأحياء كما هي عليه الآن، بل كانت الجغرافيا فيها وكأنها ترفض الحياة، حتى اخترقتها روح التصوف قفرها وفضائها، فبنت فيها مدنا من العدم، وأعادت ما كاد يندثر، تنسج خريطة ديموغرافية تحمل في كل اسم من أسمائها حكاية صوفي حوّل الفراغ إلى عمران، والاسم المنسي إلى تاريخ.

الواقع أن الصوفي الليبي لم يكنِ مجرد زاهد يبحث عن خلوة في قضاء أو قفرٍ ينزوي فيها منسحبا من الحياة، بل لا نبالغ إن قلنا إنه كان مهندسا اجتماعيّا يقرأ الأرضَ بعينٍ استراتيجية، ويحوِّل المواقع المقفرة إلى مراكز حضارية تجمع بين الأمن والتعليم والتجارة، لتصبح الزوايا نواة لمدنٍ تحمل أسماء مؤسسيها، وتُخلّد ذكراهم في ذاكرة المكان.

تبدأ قصة الصوفي الليبي باختيار الموقع الذي قد يظهر للبعض عشوائيا، لكن ما أن نتفحص طبيعة المكان حتى نكتشف أنه يحمل في طياته عبقرية التخطيط، فالصوفي الذي ينزل في أرض قاحلة عند تقاطع طرق القوافل، أو قرب عين ماء خفية، لم يكن عندها يلقي عصا التسيار أو يقف مجهدا، بل كان يضع أسسا لمشروعٍ عمراني يُعيد تشكيل الخريطة السكانية للبلاد، ولسنا هنا نفترض أو نتحدث من خيال، فعلامنا نتجاهل تشكيل الإمام محمد بن علي السنوسي – بعد أن سكن مدينة البيضاء – لجنة من كبار أصحابه برئاسة الشيخ عمران بن بركة، جابت الدواخل لدراسة تحديد موقع جديد لبناء معقل طريقته الجديد؟ قبل أن تصل إلى “أرض الجغابيب”، وعادت بتوصياتها المؤكدة على توفر مقوّمات بالمنطقة يمكن البناء عليها، فشرع وتلاميذه في حفر آبارٍ من طبرق إلى الجغبوب، قبل أن يبني الزاوية كمركزٍ لنموّ سكاني تحوّل سريعا إلى مركزٍ حضاري طالما اجتذب أنظار البعيد قبل القريب. فمن منطقة يتحصن فيها قطاع الطرق إلى مدينة تزخر بالحياة، فليس لأنه أراد العزلة بل لأنه فهم أن الموقع الاستراتيجي هو مفتاح التحكم في حركة التاريخ.

لم تقتصر عبقرية الصوفيين على تأسيس مدنٍ جديدة، بل امتدت إلى إحياء مدنٍ كادت تختفي تحت ركام النسيان، فبنغازي، التي عُرفت قديمًا باسم “برنيق”، كانت أثرا بعد عينٍ حين استقر فيها الصوفي سيدي حسن بن غازي في القرن السابع الهجري (أخطأ من قدَّر أن اسم المدينة نُحت من “برينكي” أو نُسب إلى الشيخ محمد غازي المكناسي، والصحيح هو سيدي حسن بن محمد المغازي بن حسن العادل الذي كان على قيد الحياة سنة 665هـ/1267م – للمزيد عنه يُنظر: موسوعة القطعاني، ج1/ص264)، فبنى رباطه قرب ساحل البحر، ودشّن دورة حضاريةً جديدة للمدينة حتى أصبحت تحمل اسمه إلى اليوم. والأمر نفسه ينطبق على البيضاء شرق ليبيا، التي كانت تُعرف بـ”بني زرقاء” قبل أن ينهض بها الإمام السنوسي من تحت ركامها عندما سكنها وأسس فيها “الزاوية البيضاء”، فاجتذبت المهاجرين من القبائل والعلماء من الأقطار، لتعود للحياة بعد أن كادت تندثر عاصمة للعلم في شرق البلاد. هكذا يحول الصوفي الخرابَ إلى إرث حضاري، والاسم البائد إلى عنوان جديد للوجود.

إن نظرة فاحصةً لتؤكد أن التوسعَ العمراني في المدن والمناطق لم يكن مجرد نموّ عشوائي، بل بسبب سكنى شخصيات أدت نوعا آخر من المهام الجليلة، تزيد من تأكيد أن اختيارهم لمواقع سكناهم كان ضمن عملية مدروسة تعكس رؤية لربط الأطراف بالمراكز الحضرية، فالشيخ الصوفي إبراهيم المحجوب (كان حيّا سنة 750هـ/1349م) لم يبنِ زاويته في ضاحية غرب مصراتة ليكون بعيدا عن صخب الحياة، بل ليكون جسرا يربط مكان سكنه بقلبها، وهو ما تحقق بالفعل؛ فاليوم تمتد المدينة إلى “المحجوب” غربا، كما قابله الشيخ الصوفي أحمد زروق بسكناه في منطقة “قصر حمد” شرق المدينة لتتصل بها المدينة وتصبح امتدادا لها، بل شكلا أهم معلمين للمدينة بأدوارٍ أساسيةٍ في حركة التعليم من خلال مدرستي الزروق والمحجوب. وفي سبها أعاد الشيخ عبد الله الناعمي (بين 800هـ/1398م – 850هـ/1446م) تشكيل الخريطة السكانية بزاويته في منطقة “الجديد”، حتى صارت أهمّ أحياء المدينة. وإذا ما عدنا للحديث عن بنغازي ورصد أسماء أحيائها، بدءا بسيدي بن غازي في القرن السادس الهجري وانتهاء بسيدي عبيد في أوائل القرن الماضي، لوجدناها شواهد حية على أن كل امتداد عمراني في المدينة كان حلقة جديدة في سلسلة بناها الصوفيون، فصاروا بذلك مهندسي نموها المتواصل.

لكن اللافت أن دور الصوفيين لم يتوقف عند تأسيس المدن أو إحيائها، بل تجاوزه إلى تطويرها وتوسيع نطاق تأثيرها. ففي مرزق، وسط الصحراء الكبرى، أعاد الشيخ امحمد الفاسي الحياة لمدينة مرزق عندما سكنها في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، وبنى بها زاويته، مُدشّنا فيها طورا حضاريا جديدا، فبعد أن كادت تُنسى أصبحت مركزا اقتصاديا وسياسيا في وسط الصحراء. والأمثلة تخرج عن الحصر: في “العجيلات” حول زاوية سيدي محمد أبوعجيلة، وفي “نسمة” حول زاوية سيدي أبوبكر البصير، وفي “طبقة” حول زاوية سيدي محمد الجروي، وقبلها مدينة “الزاوية” حول زاوية أولاد سنان. هذا النموذج التكاملي، بين الاقتصاد والأمن والتعليم والتثقيف، هو ما جعل الزوايا مراكز للاستقطاب ومحركات للتنمية الشاملة.

الحقيقة أن البعد الطبونيمي في المدن والمناطق الليبية لم يحظّ بأي عناية في المكتبة الليبية على الرغم من شدة ظهوره وعمق أثره، باستثناء مبحث موسعٍ عقده أستاذنا مؤرخ التصوف الليبي الشيخ أحمد القطعاني، رحمه الله، في مقدمة موسوعته (ج1، ص82 وما بعدها)، رصد فيه إحصاء ضم 92 حيا ومنطقة ومدينة ليبية تأسست حول أضرحة زوايا الصوفيين أو عادت للحياة بسبب سكناهم فيها، كاشفا عن حقيقة عميقة مفادها أن أسماء المدن الليبية ليست مجرد علامات جغرافية، بل شفرات تُخبرنا بقصة صوفي وتأثيره في المكان الذي سكنه، إلى حد تأثيره في تشكيل هويته بخصائص تميز كل منطقة عن غيرها.

الواقع الذي لا يمكن إنكاره أننا لو وضعنا خريطة البلاد وأزلنا عنها أسمائها، لغاب عنا جزء كبير من تاريخنا، فهذا الارتباط العضوي بين الاسم والمكان يظهر بشكلٍ جلي دور الصوفيين إلى حد نسيان أسمائها القديمة، وكأنما الصوفي لم يكن يبني حجارة فحسب، بل يبني رموزا تخلد ذكرى المكان.

اليوم، حين نتأمل خريطة بلادنا، لنجد أنفسنا أمام لغزٍ عمراني: كيف انتشرت المدن في صحارى شاسعة، أو كيف استعادت مدن عتيقة شبابها؟ والجواب لا يكمن – باعتقادي – في العوامل الجغرافية أو الاقتصادية وحدها، بل في تلك الروح الصوفية التي حوّلت التصوف من تعبد برسم الزهد والانعزال والانسحاب من الحياة، إلى مشاريع مجتمعية، فـ”سيدي المصري”، و”سيدي الهدار”، و”سيدي خريبيش”، و”سيدي الهواري”، ليست مجرد أحياء وطرقات وأبنية، بل شواهد على تحالف بين الروح والمكان، ورسائل من غيب التاريخ تُذكّر بأن الحياة لم تُبنَ بالمال أو القوة فقط، بل بالروح التي فقدتها مدننا ومناطقنا اليوم عندما تنكرنا لجميل دور بناة الحياة وعبثنا بسير حيواتهم الكريمة. فمِنّا من تجاوز حد التبرك بهم إلى التقديس، ومنّا من اعتبرهم علامة على التخلف، ومنّا من وصم من يحترمهم بالابتداع ومن ويقيم لهم القباب والاضرحة ويعكس عليها فنه ووجدانه ويحولها الى أدلة أركيولوجية بمقارفة أفعال الشرك. وضاع وسط هذا التيه المعنى الصحيح للبركة تحُلّ حيث يحلّ الصوفي. البركة التي كانت السر الذي جعل التصوف أداة لصنع الحضارة: قدرته على تحويل الإيمانِ إلى طين يبني مدنا، والاسم إلى تاريخ يروي نفسه كلما مر أحدنا بحي يحمل اسم صوفي.

مقالات ذات علاقة

ابن الرايس ..الهادى بولقمة جغرافيا لوحده

سالم الكبتي

أين ليبيا التي عرفت؟ (34)

المشرف العام

هل لدينا مدن..؟؟

عطية الأوجلي

اترك تعليق