“اوال” بالأمازيغية تعني ” الكلام” و لاوال واد طويل، قضينا به ليلة كاملة، كنا قد سمعنا بان من يمضي ليلة بهذا الوادي، يغمره نهر الكلام بالكلام، بالشعر والنثر، بالمديح والهجاء، بصيحات الحروب وأنات الجرحى، بزغاريد الاعراس وصراخ المواليد، بزخات المطر وهدير السيول، بأغاني الحصاد واغاني الرحى، بكل كلام الميلاد والموت والحياة، فوادي “اوال” او “وادي الكلام ” يحيا كلاما، يولد بشره كلمات وتكبر كلماته لتزرع وتحصد وتعشق وتتزوج وتنجب كلاما، يخوض حروبه كلاما ويحقق انتصاراته وحتى هزائمه كلاما، يزرع الكلام ليحصد الكلام، يتفنن في صناعة الكلام، يشرب خمر الكلام فيسكر وقهوة الكلام فيصحو، مهده كلمات وقبوره كلمات، تاريخه وككل التواريخ “اوال” ومستقبله بالتأكيد كلام، فلا يخرج من ” الاوال ” الا الأوال .
في “وادي اوال“ بغرب البر الليبي، وبعيدا عن ضجيج الساحل، يخيم السكون، فلا كائنات تدب، ولا كلام يسمع طوال النهار، كل شيء ساكن ويغط في نوم عميق، لن تسمع هناك الا دقات قلبك، وشهيقك والزفير، هكذا هو وادي الكلام، نهاره كما سمعنا ساكن وصامت واقرب الى صمت المقبرة، اما ليله فحالة اخرى، كلام وكلام وكلام، يتدفق الوادي كلاما، وتمطر سماؤه كلاما.
الليبيون يقولون محذرين ابناءهم ان “النهار بعويناته وان الليل بوديناته” فعليك ان تنتبه نهارا وليلا، فالرقابة تتابعك عيونها نهارا واذانها ليلا، ربما كان هذا سر وجود هذا الوادي، “وادي الكلام“. ليتدفق كل الكلام ” المباح وغير المباح ” دونما خوف من الرقيب.
ربما كان اسلافنا الاولون قد لجأوا الى هذا الوادي ليقولوا ما حرم عليهم قوله، ربما اطلقوا العنان لكل كلامهم الممنوع والمصادر عبر فضاء هذا الوادي، تحت جنح ظلام الوادي، كي لا يراهم احد، ربما كانوا بالعشرات او حتى المئات يتكلمون في نفس الليلة واللحظة فيسمع احدهم الكلام دون ان يرى المتكلمين، ويتكلم دون ان يمنعه الاخر الذي لا يراه وان سمعه.
ربما كان المغني يلجأ للغناء هنا والشاعر لقول الشعر وراوي القصص الممنوعة للقول هنا، بعيدا عن الرقيب واطلاقا للمحبوس في الصدور.
وادي الكلام الليبي كان وعلى ما يبدو ” هايدبارك ” في عصورنا الغابرة، سبق بالتأكيد وبآلاف السنين وادي الكلام الانجليزي، ولكنه وببكل اسف لم يعد يحتفظ من تاريخه الا بالاسم ” وادي اوال ” او ” وادي الكلام “.
الكلام في ليبيا هجر واديه، وتحول الى اشكال اخرى، اخد شكل الخلوات والمرابيع والمقاهي وحتى البارات، “بالطبع اعني الكلام الذي كان يقال في وادي الكلام ” ولا اعني بكلامي عن ” الاوال ” هنا الكلام المباح، فلا اعتقد ان المباح كان بحاجة لوادي “اوال ” فلقد ظل يضج في الواحات والبوادي والارياف الليبية طليقا وممدوحا.
الليبيون وكغيرهم من الاشقاء منحهم العصر وديانا حديثة للكلام، منحنا العصر وديان ” السوشل ميديا ” المتنوعة والمتعددة، وصار بإمكاننا ان نقول مالا يقال، فقط على قائل ما لا يقال ان يتخفى بليل مستعار، فأوال ” السوشل ميديا ” لا ليل يستره.
حرية الكلام او التعبير كما يسميها العصر، كانت ولا زالت بالنسبة لنا بحاجة لوادي اوال، واد بعيد وليل دامس لنطلق حبيس الصدور، ونعبر عن ذواتنا المقهورة المنتهكة في كل العصور، واد ” كوادي اوال ” اسلافنا، الذين عانوا القمع والاحتلال والحرمان، ونعموا بواد للكلام.
ملاحظة: قضيت ليلة بوادي اوال دون ان اسمع كلمة واحدة.