للشعر منازله ومنطقه الذي يشق عصا كل منطق سواه. منطق لا يحفل بالثوابت ولا بدارج مدلول الكلام. منطق يطوي منطق الحدود، يبسط فسحة التأويل ويستشف جماليات الغموض ضاربا بالمسلمات عرض الحائط عينه دائما على البئر الأولى للغة حيث منازل الكلم. أو ليست اللغة منزل الوجود بتعبير هايدجر. الشعر يتخلق في هذه المنازل رؤى وأخيلة وبنات فكر. يقلب المبدع بين يديه وفي جنبات مخيلته بيادق الخلق بنتا بنتا وفكرة فكرة ثم يلبسها أحاسيسه وفكره في نسيج لغوي فريد ومفارق يتسم بالانزياح والتجاوز والاختراق نُسَمِّه شعرا.
لغة الشعر أو اللغة العليا عند مالارميه والتي يغالط البعض بالقول بانحسارها، قد امتدت لتطال أصنافا أخرى من الكتابة السردية كانت في أشد الحاجة لاقتباس أثرها وبثه في ثناياها. الشعر مملكته اللغة وهو مليكها الجالس على سدة عرشها طال أو قصر الكلام.
الشعر لعبة اللغة الأكثر إمتاعا وإعجازا والتي ظل النقاد على اختلاف توجهاتهم يحاولون جاهدين فك شفرتها ورصد جمالياتها المتواترة. قليل منهم يصيب وكثير منهم يغرد في غير واد.
حين ابتعدت الكتابة السردية عن أدبية اللغة وشعريتها اقتربت من السطحية والمباشرة فصارت مرتعا للكتابة التقريرية ولم يعد للقيم الجمالية بها ركن أثير وأصبح في إمكان كل صحفي أو أكاديمي أن يكتب ما سوف نحسبه أدبا أو سيرة او دراسة أدبية لمجرد تضمين العمل بعض الكليشيهات الأدبية.
المشكلة هنا ليست في تواجد مثل هكذا كتابات إنما في تصنيفها أدبا وليس للأدبية بها من نصيب.
إذا فقد السرد أدبيته وتحول إلى مجرد ثيمات تاريخية واجتماعية تدفع القارئ للتماهي معها بحكم تمثلها للواقع لا بحكم مخيالها وشعريتها وتناولها الحكائي للموضوع سقطت عنها صفة الأدب.
شعرية اللغة تخدم السرد دون أن تطمس موضوعه أو أن تُغرِّبَه إذا كان الكاتب مالكا لزمام الاثنين اللغة بجمالياتها وحمولتها البلاغية والحكائية بتقنياتها من بناء للشخصيات وتنام للحدث وتنوع في وجهات النظر أو ما بات يعرف بالتبئير. شعرية اللغة لا تعني تضمين السرد قصيدا أو نصوصا بل شعرية السرد ذاته. ثمة طوفان من القصائد التي تخلو من الشعر وسرديات تنضح شعرا. سالم العوكلي مثلا وهو شاعر لا يختلف اثنان على فيض شاعريته جاءت رسائله مع الطويبي أكثر شعرية من بعض نصوصه الشعرية. رسائل شعرية في غاية الجمال والإدهاش إن باحت أو حكت. لا شيء في تصوري قادر على إنقاذ السرد من أحادية اللغة مثل هذه الشعرية الوارفة..