طيوب عربية

“سَرمَدَان”… خَلْقٌ أسطوري جديد يليق بشاعرة

رواية (سرمدان) لـ:جمانة مصطفى
رواية (سرمدان) لـ:جمانة مصطفى

ذاكرة مترعة بالحكايات خرجنا بها من طفولة صنعتها الجدات بحكمة وحنان، وقلوب رقصت مع سندريلا قبل أن يضيع أميرها لتعيده فردة حذاء، وعيون تشربت الوسامة في وجه غول بشع فقط لأنه عشق الجميلة التي أعادته سيرته الأولى أميرا وسيما وشجاعا، الأطياف الملونة والرذاذ السحري والأضواء الشاردة، الحوريّات والعرّافون وساكنات المرايا والحيوانات الناطقة بالحكمة، الغول والعنقاء والخل الوفي، لقد جمعت “جمانة مصطفى” كل هذه الكائنات وأسكنتها “سرمدان” لتكون “إرادة الخير” الفعلية التي خلقت هذا العالم وهي حامية كل شيء فيه، فكانت روايتها الأولى خلقا جديدا يليق بشاعرة.

“الذاكرة قد تصبح حملا ثقيلا على البدايات الجديدة الخفيفة”، هذا ما قرأتُه كسبب وجيه يبرر عملية المحو الطوعي التي تخضع لها الكائنات في سرمدان للتخلص من ذكريات قد تحمل ألما أو حزنا أو خذلانا من أي نوع، وذلك لأن وجودها في أرض الخرافات “سرمدان” التي صنعتها إرادة الخير يعني أن لكل حزن قرارا ولكل ألم نهاية، لكن ذاكرة الإنسان الشرقي هي الرحم الدافئ الذي نبتت فيه كل الأساطير فظلت هائمة بين الوجود واللاوجود تتلاشى حينا وتظهر حينا آخر حتى قادتها إرادة شاعرة إلى مكان نأى بها عن كل الشرور التي رافقت الوجود الإنساني منذ الأزل: “إرادة الخير هي مآل السعادات ومرد الجمال وهي المكان الذي تذهب إليه الضحكات بعد انتهائها وتذوب فيه المشاعر بعد أن تنضج”.

والمشاعر في “سرمدان” لم تكن مجرد حس إنساني محدود الأثر، فالمتعة وعي والسرور وعي والحب وعي وكلها مشاعر تجمعت مع وعي الانعكاس ووعي الجمال لتشكل وعي الحرية بعد اكتمال هذه الباقة بوعي العدل الذي لا حرية بدونه، ولا وجود للوعي الكامل بدون وعي الحرية، الحرية التي تنبت على أشجار سرمدان وتقطف مرة واحدة في العام، أما الديمقراطية فهي حرية أسقطها النضجُ عن أشجارها، وليست وحدها من تمارس فعل الهطول في سرمدان فالأقمار أيضا تفعل.

وبروح شاعرة عذبة، ركزت الساردة “سرجنّة” على وعي الحب وهي البشرية التي أخذها جهل البشر إلى سرمدان حيث نقلتها إرادة الخير، فعشقت “فرهد” الخل الوفي الذي انتقل إلى هناك مع غول وعنقاء، وكانا محظوظَين لأن مشاعرهما لم تقع تحت طائلة قانون الحاكم عبسون “احترام ديموغرافية الأجناس المتشعبة”، وفشل هذا القانون أيضا في منع تدفق هذه المشاعر بين عاشقَين “أضاعا قلبيهما في الماء”، سنقباسية أجمل الحوريات والغول الطيب كليب، وعي الحب في سرمدان “دهشةٌ صغيرة احتضنتها رغبةٌ كبيرة”، والأمر هناك لم يترك لقلوب العشاق وحدها فالحب يوضع تحت الوسائد في أقراص وردية فيها كميات متساوية من الدهشة والرغبة والحنان مهمتها إسعاد الحبيب، وفي بلاد الخرافات الشرقية السعيدة كان الحب يكبر بالعناد ويسطع في الاختلاف كما في الاتفاق.

الشاعرة جمانة في معرض القاهرة للكتاب 2024
الشاعرة جمانة في معرض القاهرة للكتاب 2024

من خيال طفلة تسللت قطعان الماعز الخضراء هذه الكائنات الطيبة التي تربت على حزن الأطفال وتحضنهم وتبكي لبكائهم، وفي خيال شاعرة نبتت “سرمدان” بقنواتها المائية وحورياتها ومجانينها وساكنات مراياها، جزيرة أوان وجبل الرفاه والساحة الزمردية، حتى عبث الجن وثرثرة النسانيس فيها لا تنفي عنها مثاليتها، ومن لا يحلم بأرض لا تخضع فيها الأحلام لسلطة السياسيين والعرافين، أرض تحكمها إرادة الخير وتمنع عن كائناتها اللطيفة محاولات النفي المتكررة، أرض تسطع فيها الألوان فلا تنطفئ ولا تبهت ولا تصبح فيها السعادة نسيا.

“سرمدان” قصيدة تضج بالصور والجمال، خرجت منها وقد أرهقتني تفاصيل الدهشة فيها وخارت قواي وأنا أحاول اللحاق بكائناتها الهائمة بين السطور، والحكمة ظل الخرافة أيضا لم تُعجِز الكاتبة فسكبت منها ما يكفي لجعل المكان أكثر اتساعا:

“الوقار خيار متهور، أقرب إلى التحول إلى مقعد حجري، فهو يؤخذ مرة واحدة، فإذا قرر الكائن أن يحمل هذه الصفة فيستحسن أن يحملها إلى الأبد، لأنه لو قرر تركها فسيُتَّهمُ بأنه جُنّ وفقد عقله وأصابه الخبل”.

رواية “سرمدان” ببساطة دفتر مزخرف ناصع الصفحات، اقتنته شاعرة عذبة لتكتب السعادة في بلاد الخرافات الشرقية السعيدة.

مقالات ذات علاقة

باحثتان تدرسان قصص سناء الشعلان في جامعة محمد بوضياف

المشرف العام

الإمارات تطلق مبادرة «ألف عنوان وعنوان»

المشرف العام

الورق الأصفر سهرة صيف

إشبيليا الجبوري (العراق)

اترك تعليق