قراءات

قراءة في كتاب (محمد كرازة، رحلتي مع عالم التصوير، من Box  إلى الــ Digital)

كتاب (محمد كرازة، رحلتي مع عالم التصوير، من Box  إلى الــ Digital)
كتاب (محمد كرازة، رحلتي مع عالم التصوير، من Box إلى الــ Digital)

صدر هذا الكتاب في شهر سبتمبر من العام الماضي 2023م، أعدَّه وحرّره الكاتب المسرحي والمخرج والمثقف الأستاذ نوري عبدالدائم أبوعيسى، وقد تفضّل وأكرمني بنسخة منه ممهورة بإهدائه الرقيق، ويحكي بين غلافيه سيرة شيخ المصورين الليبيين الأستاذ محمد كرازة، (ولد في 1944م) من ميلاده إلى أن بلغ من العمر نحو الثمانين، ويبدو أن الكتاب قد جاء ثمرة لقاءاتٍ طويلة بين الأستاذ نوري والأستاذ محمد كرازة، فهما يرتبطان بصداقة منذ أكثر من عقدين من الزمن.

وهذه السيرة جديرة بالقراءة، لما فيها من تجربة عميقة، وإرادة صلبة لطفلٍ ولد في بلدة نائية في الجبل الغربي، وأصبح من أشهر المصورين ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العربي.

يقع الكتاب في طبعته الأولى في 243 صفحة من القطع المتوسط، وغلاف كرتون، ومُقسّم إلى بابين، وملحق للصور والوثائق، وهذا الملحق يضم مجموعة نادرة جداً من الصور التي التقطها الأستاذ كرازة خلال العقود الماضية بعدسته الخاصة، والكتاب من إصدارات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، وافتتحه الأستاذ محمد كرازة بإهدائين، الأول لصاحبة المكتبة الناشرة للكتاب الأستاذة فاطمة حقيق، والثاني للإعلامي محمود شمام.

الميلاد والأسرة:

ينتمي الأستاذ محمد كرازة لأسرة من بلدة كِكَّلة بالجبل الغربي، سُجن جدّه محمد مرات عدة أثناء الاحتلال الإيطالي بتهمة المقاومة المسلحة، وصادرت السلطات الإيطالية أمواله وممتلكاته، ومات بالسُّم في سجنه في عام 1924م.

وعَمل والده الطاهر كرازة (1918-1983م) في شركة إيطالية للإنشاءات، ثم بمحطة المياه والكهرباء في عهد الحكم الإيطالي لأنه كان يتحدّث الإيطالية، وبعد خروج إيطاليا من ليبيا سنة 1943م، استلمت الإدارة البريطانية مقاليد الأمور في البلاد، وعُيّن الطاهر كرازة مديراً لمحطة المياه والكهرباء في مدينة يفرن؛ حيث ولد ابنه محمد عام 1944م.

تعليمه وشغفه بالتصوير:

انتقل محمد صحبة والده وأسرته إلى مدينة جادو احدى مدن الجبل الغربي حسب ما اقضته ضرورات عمل والده، وفي هذه المدينة أمضى فترة طفولته، والتحق بمدرسة جادو الابتدائية، وفي المدرسة سمع لأول مرة بكلمة (المسرح) [تياترو كم كان يُعْرف]، عندما طلب منه أحد الأساتذة المساهمة بتجهيز مكاناً لعرض مسرحية داخل المدرسة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

وفي مدينة جادو تعلّم كرازة تشغيل آلة عرض الأفلام السينمائية على يد أحد أقاربه الذي كان يعمل عارضاً سينمائياً في المركز الثقافي الأمريكي.

وبعد أن أنهى الصف السادس الابتدائي انضم محمد لمعهد المعلّمين بمدينة جادو، واستمر شغفه بالتمثيل المسرحي حتى في المعهد. وكانت أول مرة يشاهد فيها عدسة تصوير في مدينة جادو أثناء زيارة الزعيم بشير السعداوي قبيل الاستقلال، فشاهد بالقرب من السعداوي رجل يحمل صندوقاً بين يديه، ويحاول أن يكون في مواجهة الجمهور لالتقاط الصور، ومنذ هذه اللحظة، بدأ اهتمامه بعالم التصوير الذي سيمضي فيه بقية حياته، وأخذ يسأل عمّا يقوم به ذلك الرجل صاحب الصندوق، وكيف يعمل الصندوق، فوجد اجابات شافية من أحد جيرانه، بأن الصندوق هو كاميرا، وقدّم له أول درس في عالم التصوير، عندما أَطْلعه على كاميرته الخاصة من نوع المنفاخ، ووضّح له كيف تَعْمل، وعَرَض عليه نماذج من شرائح النيجاتيف.

انتقاله إلى طرابلس:

وقد أُخذ محمد كرازة بالحياة في العاصمة طرابلس، وأخذ قراراً بأن يعيش فيها، فتحصل على رخصة قيادة سيارة درجة ثانية، وغادر إلى العاصمة للعمل والعيش بشكل دائم، وعمل مع إيطالي يملك دكان لتحميض وطباعة الصور، وهي المهنة التي جذبته منذ الطفولة، وكان حريصاً على تعلّمها حتى تساعده في هواية التصوير، وكل ذلك تم بوساطة من المصوّر الأستاذ علي الريّاني الذي كان له فضل عليه في عالم التصوير.

وبعد اجتهاده في عمله كمصوّر، انتقل للعمل مع معلّمه الأستاذ علي الريّاني في دكانه للتصوير، وواصل العمل الشاق، وفي الوقت نفسه أكمل تعليمه بمعهد المعلمين بمدينة جادو، وتخرّج مُعلّماً، ونجح في عمله كمصوّر مبتدئ، وبدأ يشق طريقه بثبات.

وذَكَر الأستاذ كرازة أن أول من أدخل الصور الملونة إلى ليبيا كان المصور اليهودي جاك برافانيل صاحب معمل Foto Aula للتصوير بشارع الاستقلال.

واستعرض كرازة أسماء العديد من رواد التصوير الليبيين، مثل: خليفة قدّح، وعبدالله الحارتي، وعلي والي، ومحمد القمودي، وعبدالله الشقروني، وغيرهم، ويصفهم بأنهم كانوا مثابرين جداً، لأن مجال التصوير الفوتوغرافي في ذلك الوقت المبكر كان حكراً على الإيطاليين واليهود، ولذلك كان هؤلاء الرواد عصاميين في تعلّمهم هذه المهنة، واقتحامهم ذلك المجال دون إمكانيات مادية أو تقنية.

الفنان محمد كرازة مع المخرج الصحفي مصطفى لطيوش
الفنان محمد كرازة مع المخرج الصحفي مصطفى لطيوش

موظفاً بجريدة طرابلس الغرب:

ومن أجل تطوير نفسه، التحق محمد كرازة موظفاً بقسم التصوير بصحيفة طرابلس الغرب أعرق صحيفة ليبية، في ديسمبر 1962م، وفتحت له هذه الوظيفة آفاقاً جديدة، وشبكة علاقات واسعة.

ولم تنقطع علاقة محمد كرازة بعالم الصحافة منذ التحاقه بها، فقد تعاون مع صحف ومجلات أخرى، مثل جريدة العَلم، وجريدة الثورة، وجريدة الفجر الجديد.

ويتحدث صاحب الكتاب عن التغيير الذي طال اسم جريدة طرابلس الغرب على يد آخر وزير للإعلام في العهد الملكي الأستاذ محمد الصالحين الهوني؛ حيث غيّر اسمها إلى جريدة العَلم، وانتقد كرازة هذا الإجراء ووصفه بالعبثي، ويقول بأنه أفقدنا المحافظة على أقدم صحيفة ليبية صدرت في 1866م.

وعندما تطالع هذا الكتاب ستتعرف على كم هائل من أعلام الموسيقى، والفن، والثقافة، والأدب وعلاقتهم بالمصور صاحب الكتاب، فستقابلك أسماء كبيرة مثل: حسن عريبي، وخالد سعيد، وبشير فهمي فحيمة، وسلام قدري، والكاتب والشاعر أحمد الحريري، وخديجة الجهمي، وغيرهم كثير.

ويذكر كرازة بأن جريدة العَلم التي كانت بديلاً عن طرابلس الغرب أُوقفت بقرارٍ صدر عن مجلس قيادة الثورة بعد انقلاب 1969م، وأُنشئ مكانها جريدة الثورة بذات الطاقم الصحفي والإدارة السابقة، وبعد توقف جريدة الثورة صدرت جريدة الفجر الجديد، وفي جميع تلك الصحف كان كرازة حاضراً بعدسته وصوره باستمرار.

ويبدو أن هواية التصوير الفوتوغرافي في أسرة كرازة لم تقتصر عليه هو فحسب، بل انتقل هذا الهوس إلى أخته فاطمة التي كانت تسكن معه في البيت نفسه بطرابلس، وكانت تشاركه اهتمامه بتحميض الصور واستعمال الكاميرا، وقد ساعدها في الحصول على دورة في التصوير الفوتوغرافي، نظّمتها مجلة المرأة التي صدر عددها الأول في يوم 10 يناير 1965م برئاسة السيدة/ خديجة الجهمي، وبعد الدورة التدريبية بعامين تم تسجل فاطمة كرازة كأول مصورة صحفية ليبية بتاريخ 04 أبريل 1967م، بقرارٍ صادر عن وزير الإعلام والثقافة آنذاك الأستاذ خليفة التليسي.

في أواخر عام 1968م، كُلّف الأستاذ محمد كرازة مع صحفييْن آخريْن من وزير الإعلام محمد الصالحين الهوني بالتقاط بعض الصور للملك إدريس في قصره بطرابلس، وكانت آخر صور للملك رحمه الله، قبل مغادرته السلطة بعد عام.

وبعد وصول العقيد القذافي للحكم في أول سبتمبر 1969م كان كرازة أول مصوّر ليبي يلتقط له صور يوم 08 سبتمبر 1969م، في طرابلس، ونُشرت الصور في صحيفة الحرية لصاحبها محمد الطشاني.

رحلة على الأقدام في إريتريا:

من أشد المغامرات خطورة التي حكاها صاحب الكتاب كان وصفه لرحلته إلى إريتريا لتغطية مؤتمر توحيد الفصائل الإريترية في عام 1970م، صحبة صحفييْن آخريْن، وأُقيم المؤتمر بمدينة سديحة عيلة، وكانت رحلة طويلة جداً مرّ خلالها باليمن، ثم اجتاز البحر الأحمر على متن قارب صيد، واستمر في رحلة أشبه بالعذاب لمدة خمسة وعشرين يوماً مشياً على الأقدام أو ركوباً على ظهور الإبل. وكان المصوّر الوحيد الذي وثّق هذا المؤتمر المحوري للثوار الإريتريين، الذين كانوا يحظون بدعم السلطات الليبية.

وكتب المصور محمد كرازة عن ذهابه لتغطية حرب أكتوبر 1973م بمصر مع مجموعة من الصحفيين الليبيين، وجهوده التي بذلها مع زملاءه في الوصول إلى أماكن وجود جنود من الجيش الليبي المشاركين في الحرب، وكان من أوائل المصورين الذين دخلوا الجبهة المشتعلة آنذاك، غير أنه لم يسمح لهم بالتقدم أكثر لأسبابٍ أمنية.

لقد أمضى شيخ المصورين الليبيين أكثر من ستة عقود في صحبة عدسات التصوير، ويُعد أيضاً من رواد التصوير في أعماق البحار، وقدّم دورات تدريبية في فن التصوير تحت الماء لمنتسبي الأكاديمية البحرية، وكان للأستاذ محمد صالون ثقافي فني أَمّه العديد من الفنانين والأدباء العرب الذي كانوا يزورون ليبيا، مثل: محمد عبده، وطلال المدّاح، وبليغ حمدي، وميادة الحناوي، والشاعر محمد الفيتوري، وغيرهم.

ومن أهم محتويات الكتاب -كما ذكرنا- هو ملحق الصور والوثائق التي نُشرت في الكتاب، ويبلغ عدد الصور 181 صورة، بعضها يُعدُّ من الصور النادرة، مثل أول صورة للعقيد القذافي بعد وصوله للسلطة بأسبوع واحد فقط، وكذلك صورة ولي العهد الحسن الرضا، وعبدالعزيز الشلحي في غرفة التوقيف بعد انقلاب الأول من سبتمبر 1969م.

خاتمة:

هذا كتاب يحكي سيرة عَلَم من أعلام التصوير في بلادنا، وقد أفلح الأستاذ نوري عندما جمّع خلاصة تلك اللقاءات الطويلة مع صديقه المصور محمد كرازة، حتى لا تضيع هذه السيرة الممتدة عبر أكثر من ستة عقود هباء منثوراً، فمعظم المشاهير الليبيين في الفن أو في المجالات الأخرى لا يكتبون سيرهم الذاتية، حتى وإن كتبوا بعض الشذرات أو النصوص لا يجدون من يهتم بها لتحريرها ونشرها، ويبقى أن نقول أن الكتاب تشوبه العديد من الأخطاء اللغوية، ونأمل أن يتم مراجعته لغوياً في طبعته الثانية، حتى لا تؤثر كثرة الأخطاء على انتباه القارئ.

مقالات ذات علاقة

ولد بلاد تدق ناقوس الخطر وتشعل شمعة في نهاية النفق

مهنّد سليمان

الأخرون وأنا.. هل سيرة ذاتية أم مراجعة ثقافية؟

المشرف العام

ذاكرة الوجع.. الإبادة الجماعية في ليبيا (1-2)

إبراهيم حميدان

اترك تعليق