رجب دربي
لا تُعطنا يا بحرما لا نستحق من نشيد
للشهداء أن يتفجروا حلماً
وللحكماء أن يستدرجوا شعباً إلى الوهم السعيد.
درويش
يا أطلال هذي البلاد المعفرة بالدم القاني، يا موج التهلكة، يا وجع البيوت المحطمة، يا مهوى النسيان، يا دماً لا يعود، يا دهشة البراري، يا قرنفلة بيضاء تغطي جرح الثائر، يا قوت المتعبين من الإنتظار المكابر، حارقٌ كالجحيم حقد جرذ الجرذان، مخربٌ كالطوفان عبث هذا الجلاد، فارغةٌ كحائط ينهارفي سراديب العبث ذهنية هذا المستبد، على مصراتة أن تحضن البحر والسفن العليلة، أن تعلن عن ذاتها ريحانةً تُمزق اغصانها المبهجة راجمات المستبد، تسحقها في العراء المدمي، في الرمل الطعين، فهل ترى اضاءات الشوارع ساحةً للقنابل الهازئات تقتل بهجة الناس، فماذا ترى، إن هي إلا عاصفة سدى، ورمل رحيب في صحرائه يكتشف الدم اوجاعه، وخشخاش قيعان مغلول يحطّ عليه ليل بغيض يقتل في مآقي الأطفال قوافي البحر، هو الخراب يركض بين النخيل والشوارع، فماذا ترى، أم ماذا ترى، إن هي إلا مراسيم البدد، إن هي إلا بئر ينهشه مكر الشوك، إن هي إلا فضاء ناشف في رماد الراجمات.
تضيقُ بنا الأرض أو لا تضيق. سنقطع هذا الطريق الطويل
إلى آخر القوس. فلتتوتّر خطانا سهاماً. أكنا هنا منذ وقت قليل
وعمّا قليل سنبلغ سهم البداية؟ دارت بنا الريح دارت، فماذا تقول؟
أقول: سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخري….. وإلى آخره.
درويش
فماذا إن خرجت مصراتة والمدن الأبدية تبحث عن سحائب الحرية فتتنسمها عطراً، فماذا إن دخل هذا البلد في أُلفة الفرح الإرجوانيّ، فماذا إن غمر رذاذ الشمس داليات العنب والزيتون، فماذ إن يلامس المطر البحر، فماذا إن يزهر هذا البلد خلسة في المساء، فماذا إن يرفض هذا البلد فلوات القهر، فماذا إن أتى البرق وفتح البحر ذراعيه للمطر، وكيف لا تنوح المدن اليتيمة، أم كيف يرى هذا البلد الفردوس ولا يلمس أزهاره، أم كيف لا يرتوي هذا البلد من رحيق الحرية، فكيف لا تزهر الأرض بالمسرة وانفجار الأغاني، فكيف لا يعوي الهتاف سنيناً في قلب هذا البلد، فكيف لا يشتعل حزن البيوت القتيلة، عما قليل ستنحني السحائب فوق صدر البلد وستواصل الحياة، عما قليل ستمتلىء الشوارع بالربيع وتمحو الشواطىء المبتهجة غبار المرايا.
طال الطريق، وقلَّ زاد الطّالبين..
لخيبرٍ بابٌ، وللفردوس بابٌ
نفقت خيولٌ، وارتمت قدامنا الصحراء بحراً
من يعلمنا السباحة في الرمال؟
ومن سيرشدنا لنعرف أين تتجه الصعابُ؟
عدوان
آثر الجرذ فتح ظلمة ثقوبها تفتح على غابات بذار الموت والدّمار، فإلى أين تبحر قوافل رياح الجنون بلا ربانٍ، وكيف تبتل شجرة محترقة بدمٍ من حقلٍ يهذي فيه رشاش اهوج، من يهندس خلجان هذا البحر المتموج بالحبور، من يحزّ رقاب الأشجار والبشر، من يفتح في الخرائب بوابات الإغتيال، من يطلق ظلمات الرصاصة، أم من يرسل الكلاب العاتية الدرداء، ومن يجمع القتلة، أم من يخاطب أشجان الموج، يا سواحل من رمالٍ ماذا لو أنّ الصخر الموجوع يدق ابواب النجوم، ماذا لو أنّ وجه النفط احترق، ماذا لو أنّ البحر يجمع صدفاته الصبوحة ويجهز للرحيل، فهذا فارسٌ من مصراته يخرج من روح الطين من جسد الشعب المتعب، دماؤه تهز الشوارع والأزقة، وعلى كتفه يحمل جريحاً، جريحٌ حملته القذائف حتى سفوح البحر، قذفته في مسارب القوافل، فهل رأيت ارض الماء والصحراء ونثار الهجير من هذا الأفق البعيد، أم هل رأيت كيف تخيط الغمائم جروح الصخور، وتمزج الموج بشيء من الأمل، أم هل رأيت بلداً يعوم على النفط ويسرقه جرذ، فهل سيركض من أجل هذا البلد البحر، أم هل الفصول الجديدة ستجمع اشلائه، أم سيحترق ريشه في بيداء العرائس.
أنت تفرك بخار اللغة
كمن يحُكّ بالأظافر صيفاً محترقاً.
عبد الأمير
كم من مرة ابصرت في هذه المدينة احتراقها، أأبصرت أعزلاً يقاتل كتيبة، فمن يبصر من بحر الكلم الذّابل هسيس القذائف، ومن يصنع من قشور الريح فضائية لم تذر غير ضجيج النمل، فمن يعبث بالبلد والريح المدفون في الموج الآهل بالخراب، فمن يجهل من وراء الحدود هذا البلد الشاسع، فيفضي بطنين متحذلقٍ يزوبع لغة مثخنة بالفقاقيع تتمطى فيها السنة ما هالتها هوية الرصاص وما ذاقت حبة الترياق، فبأي لغة تترنم رصاصة الثّائر وبأي حبر نكتب في الفضاء الرحب ويملؤنا الفخر، في فضاء مصراتة الدامي العاري تنطلق رصاصة من رحم الدم الدافق، فالصوت يطعن الصوت في صمت البندقية، وهذي روابي الرمل تنساب فيها غيمة في طريقها الساخن دون أن تبتهل بابتهالات المطر، وما المطر والملح الأجاج، إن هو إلا رمادٍ ليس كالماء في السحائب الفرحة، إن هو إلا خطو الفارس في حقول النّار، يملك الموج بكف اعزل، في شارع اسمه طرابلس، في مداد الشارع في ظلاله الزرقاء، في الشرر المتطاير، ليس لهذا البلد إلا صوت المحارب، حيثما الراجمات جحيمٌ وحيثما كسر السياج حلمٌ.
مثل المدن تمتلىء اللغات بالدخان،
تتنازل لمضامين أكثر عرياً،
تقتلع الصرخات فيها كالأشجار، ولها في جغرافيا الما وراء تضاريس.
عبد الأمير
وهذا نهارٌ حثيث الخطى ينهض مع سكرات النّار ومع المدّ يتمارى، نهارٌ لا يعرف الحدود، وصحراء تغدو نفقاً لنهر بلا ضفة وجسدٌ من انسان مثقلاً بالثقوب، وجرذٌ يمتد جنونه بين البحر والبيداء، مصائرمن الناس في قبضته، فمن يا مصراتة يضحي باسماً في مذابحك، أغزاة أم مرتزقة أم قتلة، فبأي صهيل ينام الحصان لكي يفيق، وبأي صرخة يكبو الفارس ويئن، وبأي حبرسنكتب شيئاً على طين هذا البلد المقفل، تمتد لك يا مصراتة اجنحة نالوت من عميق صمودها المقدس في وجه المعاوال المحرقة، فيا بحر مصراتة لا تسأل عن احلامٍ منكسرة في شوارع محترقة، لا تسأل عن قاربٍ ضاع مجدافه على طرقات الموج، فلتحرس السحائب في ازقتك الفارس والبندقية، ولتحلم باللقاء وعتبات المنازل، وموت السجان، من نالوت الى مصراتة يتألق سرب القطا على شلال الرمال وامواج الغضب المرّ، فالفارس يجمع اشلائه ويعدو الى فهوة الجمر تحت السماء المدماة، لهذا الفارس دربٌ يشعله ناراً وإلى الصباح الطري يهفو، والأفق يقرأ في مرايا السحائب مطر غامر .
أيها الملك….
نحن رعاياك الذين تباهي بنا الأمم:
لقد سئمنا هذا المجد
حدّاد
وذا الجبل حيث تتجمع غيوم الهجير، هي الصحراء نجمةٌ، فذا جبل نفوسة مداد للفجر، فمن جوف الصحراء يأتي الماء والعشب والمطر، من دم الفارس الموعود يأتي، من النّار في ثلج الرماد، هذي ديار مصراتة تُهدّم، وهذي طيور تهجر اوكارها على دمدمة قصف الراجمات، والقتلة في مراعي نالوت ومصراتة ويفرن والمدن الأبدية، وهذي روح الغيم اليابس تفهم تضاريس الرمل وابجدية النخيل، وللجرذ كلابٌ عاتية وسط الأعشاش مبثوثة، سيمضي الخراب يا هذي البلاد وستمضي يا مصراتة إلى فجرك هليلةٍ، اصطفتك هذه الصحراء في مهد الروح المفتوح على بهو النّور، من خلف عتمة الشّارع وعتمات الروابي، ستمدين يا مصراتة ذراعيك إلى طرابلس وسيغسل البحر ما رسمته ايدي الجرذ، وفي الزاوية الجريحة وفي المدن الأبدية ستضيء النذور مصابيحها .
عندما يذهب الشّهداء إلى النّوم أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء،
أقول لهم: تصبحون على وطنٍ، من سحابٍ ومن شجرٍ،
من سرابٍ وماء.
أقول لكم: تصبحون على وطنٍ حمّلوهُ على فرسٍ راكضة
وأهمس: يا أصدقائي لن تصبحوا مثلنا…..حبل مشنقة غامضة.
درويش
يشقى الحرف أم يتعذب، فما الحرف، ينبع من يراع اليمّ، من تحت هجير البرق، من العراء المحموم، أم من الغيم الحارق، فما المناسك في بيداء موت الطيور، وما الأبراج في مفاوز من تعاويذ لا تحصى، فما أسراب الراجمات تحز المدى والرقاب، فما الغبار والكرى والحقد المدجج بالوحشية، للحرية اكثر من جناح، وفي الدم نبع الجواب، ومن خلف انجم البحر القديمة تعاود نالوت الظهور، تبصر الحرف في الأفق البديع، ترسل لمصراتة مداد الحرف المتبتل بغصون تعانق ظلال صنوبرفي شعاب النّدى، ومن غبار الشوارع تشرق شمسٌ وفي الومضة المجنحة بهمس الحجر ينزل الغيث في غيمة، يحن الحرف إلى سيرته الأولى إلى قريحته الأسطورية، إلى عهده الأبدي، يحن إلى ازهار الشرفات التي يتغنى عندها القمر، يصنع الحرف نجمة ويكتب اسمك المغموم في الدم، مصراتة، وهذي نالوت تعاود الظهور من شقوق أحجار جبل نفوسة، من أقصى غيوم السحائب، علاماتها لحظة وصولها من خلف ابواب احزان النخيل.
لكَ أن تجيء، للهواء يدٌ كما للغيمة جذر.
للأرض فصولها الحجرية،
وكلانا من يقود نهراً خارج المصب.
عبد الأمير
قادمتان كنسور البرية نالوت ومصراتة، قمران انطلقا نحو سنابل البطولة، تنسما عبير الزاوية ويفرن والزنتان وازوارة واجدابيا والبريقة ورأس لانوف وغات وغريان وازوارة وكلّ المدن الأبدية، قمران يملآن خفقان الحجر صموداً، اتحدا في العبارة، في اكمام الغسق المحلق في الأقاصي، كالروعة في الفجر، يقابلان عدواً وحشياً غادراً، كابوساً مجرماً، وفي مرايا الفحم يرسمان بداية الضوء من اعالي الأنجم، على حافة البحر يكتبان رنين ناقوس النصر، للنصر، نصرٌ يدق على ابواب الروابي، يدق من تحت ليل الرماد البالي، من زقاق إلى زقاق، ومن نور إلى نور، ومن غصن إلى غصن، قمران يسبحان في في فضاء الغيم الغائب، في مسام الحروف، في روح العبارة، في نثارالبرق، ومن قبو الموت في باب العزيزية ترسل كتائب الجرذ العدوان الكاسر، تزرع الخراب، وفي الأسر جريح مُعنّى، ما أبشع أن يهان اسير، وما أروع أن يفتح أسير نافذة للروح.
قال للشمس: هذا دمي فاتبعيني،
قال للأرض: هذا دمي فاسكنيني،
ومكَّنَ للأرض سرَّ الفصولِ، وزيَّن للشمس هذا المدار.
نصر الله
قال ظلام الليل، ظلام الفضاء، قال الفضاء المرقوش على شفة البندقية فارسٌ من الزاوية اشتدّ حريق الأسر من حوله ومارقين، الأشلاء تخرج من فوهات الكمائن، يلقنه مارق سفاح إن قل إنيّ ” كلب و جرذ”، قال الفضاء في العماء، في الصوت الحسير الدامي، في لحظة الصمت المرّ، قال في لحظة الأسر أنّي افرغت دمي، قال الرماد: أنا “جرذ”، و من فوق رأس الفارس سيف مارقٍ يبشر بالرازيا والخراب، صوتٌ يشق طريقاً إلى رمال اعتراها الذهول، أثقل الحجر لسانه، ضجت الأرض، وملء العدم المفتوح تحترق شجرة قرب المذابح، ففي رعشة هدب العين يفز نسرٌ يشرع اجنحته في السماء، فما الذي اشتهاه الدّم في الزفير، ما الذي ينشره الخراب، إلى أين يجدف بدء الإبادة، بلدٌ يتناثر في العراء تحت حطام البيد، والمدن صامدة كسحائب ينزف فيها حلمٌ جميل، فلهذي المدن فرسانها، ولهذي البلد عنقاء محلقة في الأقاصي، قادمة من روح الرمال، تدق نواقيس الريح، تزرع الأشجار في هذي البلد وتبقى، وعلى ارصفة المدن تتناثر قطوف الأغاني، لا عاصم اليوم من الجنون إلا الموت، فتلك البلد المشتعلة في الفيافي ينتظرها الف عرسٍ، وفي رماد ليلها سيفرح الزعتر والنخل والزعفران.