1ـ شاعر “أحوال حايلة”…
محمد بن زيدان الشريف شاعر ليبـي وصاحب شهرة وصيت واسعين، وُلِد في ودان بالجفرة عام 1880 وتوفي ودُفِن بها عام 1955، وتميزت سنوات حياته بتفاصيل عديدة من التجارب والمعاناة: حين كان صبياً في التاسعة عام 1889 هاجر والده السيد زيدان الشريف من بلدته إلى تشاد وتوفي هناك فظل يتيماً وحيداً يواجه قسوة من أحد أعمامه واضطر إلى ترك ودان خلفه عام 1894، وأقام في توكرة شرقي بنغازي وتعلم في زاويتها وحفظ القرآن الكريم وحصل على ثقافة دينية وأدبية وتولى التدريس بالزاوية نفسها في مرحلة لاحقة.
في توكرة البلدة الساحلية ذات التاريخ الموغل في القدم التي تقع على بعد خطوات من المرج (برقة سابقاً) وطلميثة مكث الشاعر حوالي عشرين عاماً بعيداً عن ودان ونخيلها ودروبها إلى العام 1914 وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، وقال فيه بيته الشهير:
أحوال حايلة بين المنام وطيبة أحوال جبدهن للناس فيه الغيبة
اشتغل الشاعر بالتجارة فترة طويلة وتجول في مناطق الوطن المترامي الأطراف وربطته صداقات واسعة ومعرفة وودّ خالصين مع الكثيرين، وخبر أنساب العائلات والقبائل، ثم قضى فترة في اجدابيا، واعتقله الإيطاليون في زوارة، وتمكن من الشعر الشعبـي وظلت قصائده عنواناً لتجربته الشخصية والتصاقه بقضايا الوطن ومرارة الأيام.
(أحوال حايلة) للشاعر محمد بن زيدان نسج عليها كبار الشعراء مثله داخل الوطن وخارجه في المهجر، وكلٌّ في ردوده كان قوله مطابقاً لما في (الفاهق) ومقتضى الحال وأوجاع الوطن المغلول في قبضة الاحتلال الرهيبة . كانت هناك ردود مشهورة من: الفضيل المهشهش، وعمر بوعوينة المنفي، وبورويلة المعداني، وحسين لحلافي، ومفتاح الحِقّ، وسليمان رقرق، ومعتوق الشركسي… وغيرهم… شعراء كبار من مختلف الأرجاء شاركوا بن زيدان معاناته الخاصة التي أضحت هماً عاماً فغدت من عيون الشعر الشعبـي الليبـي.. حية على الدوام وتنهض شامخة مثل طائر الفينيق.
وكان ثمة مساجلات أخرى بين الشاعر وصديقه عبدالقادر المنتصر في مصراتة، كان بينهما تقدير متبادل يفيض احتراماً ومحبة في زمن صعب وحالك، وكانت هناك للشاعر أيضاً مشاركة في ملحمة (مابي مرض غير دار العقيلة) لرجب بوحويش، وبعض من الشعر مع ابنه زيدان بن محمد.
الصورة لمحمد بن زيدان… الشاعر الكبير ومعه الطفل (حمد بن عامر الجماعي) من قبيلة الجماعات ويعتبر الشاعر الكبير عبدالمطلب الجماعي جده الثالث، في لقطة نادرة بمنزل العائلة في ودان مطلع الخمسينيات الماضية، ووثيقة ( شعرية ) بخط يده موجهة إلى صديقه الشاعر عبدالقادر المنتصر.
* * *
2 ـ سوق الجريد…
للأسواق تاريخ لا يشيخ، وحكايات طويلة، وتجليات مكان… إنها جزء من حياة البشر وتفاصيل المدن وتختلط فيها الألوان بتشكيلات لا تنتهي، وهي حركة يومية دؤوبة منذ مطلع النهار وفرصة للتلاقي والتجارة والتبضع، ورفع أو خفض موازين الاقتصاد… ومعرفة الأحوال، ودائماً يُقال إن للسوق (أخباراً)، وأن فلاناً (جاب خبر من السوق).
الأسواق حياة كاملة. وهذه صورة لسوق الجريد في بنغازي تعود إلى عام 1958، أيام كان سقفه من اللوح الزيتي المزخرف، وأبواب حوانيته خشبية وبعض جوانبه مفتوحة على السماء مباشرة مثل المناور لكي تدخل الشمس ويلعب الهواء. في أرجاء السوق كانت تتعالى أصوات الباعة والبراحين والغادين والرائحين، والصبية والحمالين ومفاصلات الزبائن وقياس الأقمشة بالذراع وتفوح منه روائح العطرية ومواد البقالة والزيت الذي يباع بالمنطال وحلويات الشاكار والقهوة بالكسبر والشاي بالنعناع… وغير ذلك، فيما تشهد لياليه في رمضان، لاسيما مع اقتراب العيد، جواً منعشاً وجميلاً، وكانت التجارة مبنية على (ثقة وكلمة)!
في جزء منه يقع هوتيل ومطعم الوحدة العربية الذي أسماه صاحبه (الرايس) تخليداً لوحدة عبدالناصر والقوتلي ذلك العام قبل أن (تنتكس!). وكان مكانه في ناصية مدخل زنقة الحمام التي توصلك في النهاية إلى ضريح سيدي الشريف، ويلوح في الصورة محل جزار رضى مسروراً ببيع بعض (السقايط) من اللحم (الوطني) ويعرضها محفوظة في قماش أبيض، فلا ثلاجات ولا مبردات .. ولا (عمك النوم )… زمان!!
* * *
3ـ الدفعتان…
صيف 1959، منذ ثلاثة وخمسين عاماً، تخرجت في بنغازي الدفعة الأولى في كلية الآداب والتربية… نواة الجامعة الليبية ومثيلتها في الكلية العسكرية . الآداب تأسست عام 1955 وكان أول عميد لها الدكتور وليم كليلاند، فيما تأسست العسكرية عام 1957 وكان أول آمريها المقدم إدريس العيساوي الذي ستشهد الطريق المؤدية إليها مصرعه ذات ليلة من شتاء عام 1962 . كان طاقم التدريس فى الأولى مصريا, وفى الثانية يتكون من ضباط ليبيين وعراقيين وبعض المدربين الانجليز.
كان عدد الطلاب في الدفعتين (31) طالباً، ضمت دفعة الآداب: عاشور ساسي الطويبـي، عبدالله حسين حيدر، عزالدين محمد مهنى، محمد فرج النحلي، المهدي عمر الدعاس، سعيد محمد العنقودي، عثمان محمد الهذيلي، محمد حسين القزيري، محمد عمرو سليمان، أبوبكر قاسم تنتوش، الصديق سالم الأدهم، خليفة كمال عاشور، سعد عوض الترهوني، صالح رشيد جبريل، عوض مصطفى السعدادية، محمد الفيتوري الهادي، مختار أبو عجيلة العجيل، أحمد علي المصراتي، عيسى مسعود عيسى، محمد المهدي المصري، إبراهيم سامي محمد الهنقاري، محمد محمد بالروين، أحمد عبدالسلام بن خيال، رجب أبوبكر ساسي، رمضان عبدالسلام الجريبـي، عبدالحميد رمضان الطيار، عبدالسلام عبدالرحمن الميلادي، عبدالكريم فتح الله بللو، عبدالعزيز أحمد زواوة، علي الشامس مختار، عمر ساسي الساحلي.
وضمت الدفعة العسكرية عند الالتحاق (وفقاً للأقدمية): آدم سعيد الحواز، يوسف محمد الزياني، طاهر محمد الجديد، عمر يونس العرفي، محمد محمود بدر، سعد عبدالسلام بعيو، عبدالرحمن بشير حامد، رمضان الأسطى عمر، محمد محمد الفقيه، يوسف يحيى المحجوب، جاب الله حامد مطر، بشير محمد ساسي، علي محمد الجفائري، سعد السنوسي عبدالسيد، رجب عبدالسلام هلال، محمد أبو القاسم عثمان، محمد عبدالسلام شنيب، أبو عجيلة مفتاح الحويج، محمد محمد القذافي، صالح مراجع بوجلدين، يونس عبدالسلام المريمي، سالم خطاب عبدالله، محمد محمد الغول، عياد أحمد الشريف، موسى أحمد الحاسي، مفتاح سالم المختار (تخرج في دور سبتمبر 1959)، عبدالحميد منصور الدغيلي، وسليمان مختار قنيوة (تخرجا في الدفعة الثانية 1960)، وثلاثة من المغرب: البخاري، عبدالكبير العربي، العربي………؟.
* * *
4ـ الفيضان…
شتاء 1959… تحرك وادي درنة بقوة، وأتى من بعيد… من الظهر الحمر وتجمعات الأودية الأخرى وحطم كل شيء في طريقه… لم يعبأ بأحد… ولم تخشَ مياهه الهادرة شيئاً على الإطلاق، وكان حصاد ذلك مؤلماً بعض الشيء… دمار في بعض الأبنية الطينية القديمة… وموت بعض الأفراد الذين طفت بيوتهم وأكواخهم وحيواناتهم عبر السيول المندفعة بشراسة… في إحدى ليالي ذلك الشتاء الذي كان قاسياً… وكانت الرياح تعول بلا انقطاع، وكان المطر يهطل بتواصل . عندئذٍ… هب الناس في درنة وما حولها… تحركت مشاعرهم وشاركوا تطوعاً في عمليات الإنقاذ مع رجال الجيش والكشاف والهلال الأحمر الليبـي الذي مضى على تأسيسه عامان (1957)، وجمعت التبرعات من كل مكان في ليبيا.
أما الشعراء الشعبيون فقد وثـّقوا، آنذاك، بأهازيجهم التي أذاعتها محطة راس عبيدة ما فعله الفيضان الكبير كما نشرتها الصحف تلك الأيام. كان في مقدمتهم: الزبير جبريل، واشريف السعيطي، ومحمد مسعود العوامي، ومحمد بوغماز، ومحمد منصور المريمي… وغيرهم، فيما ظلت الصورة القديمة تكاد تنطق بالقول عن ذلك الحدث الشتائي الكبير، وبقت قطعة الحجر الضخمة أو ما عُرِفت بــ (صنب الزيت) التي جلبها الوادي من بعيد شاهداً في فترة تالية على بقاياه منذ نصف قرن.
* * *
5ـ البحار سليم…
هذه صورة سليم محمد العربـي، أو (بابا سليم) كما تعارف عليه الجميع في بنغازي… صديق البحر والنوارس والقطط والشمس، البحّار العتيق الذي جاب الدنيا وعرف الشطآن والمراسي والسفن العملاقة وصفاراتها لحظة الوداع وغضب الأمواج وزرقة الخلجان… وقواقع البحر… والأنواء والعواصف… ولحوم الأسماك الشهية!
كان (سليم) خبيراً بكل هذا، وذاك، كان صديقاً أبدياً للبحر والناس، وكانت حجرته الصغيرة في بداية حجرات أو (ديار) مصيف جليانة القديم من جهة اليسار عامرة بالأصدقاء وأنفاسهم الذين يتسامرون ويحكون… ويتبادلون النكات والمداعبات . الكل كان يلجأ إلى تلك الحجرة التي يجد فيها الدفء… وحكايا الشوق… والجلسات المتعددة… وقصص البحر الأسطورية.
كان (سي سليم) وحيداً عزباً، لكنه على الدوام محاط بالناس وبحبهم وودهم المتواصل بلا انقطاع، أصيبت إحدى رجليه وبتر جزء منها عندما كان يعمل على ظهر إحدى البواخر أيام الثلاثينيات فترة الاحتلال الإيطالي، كان آنذاك شاباً يافعاً .. منطلقاً في حبه للحياة والناس، لكنه رغم هذه المأساة ظل جزءاً من البحر… وكان البحر قطعة منه. كان سي سليم في الواقع بحراً لوحده . في الحجرة الصغيرة تلتقي أجيال مختلفة : حمد خليف، حسن مادي تربل، إبراهيم النوال، والصادق النيهوم، الذي كتب عنه قصة (أحد الأيام الميتة) وقصة أخرى للأطفال، وعلي الفيتوري (جيش)، وعبدالله سعيد، وعبدالقادر البعباع، ومصطفى بن حميد، وعبدالسلام أوحيدة… وغيرهم. كان يرعى الشباب الطلاب من بينهم، ويهتم بهم اهتماماً أبوياً خاصاً، ويوفر لهم جواً يساعدهم في تحصيل دروسهم ومذاكرتها استعداداً لموسم الامتحانات، وأغلبهم لم ينسوا له هذا الصنيع… كان البحر… وكان سي سليم… وكان الأصدقاء، وكانت ذكريات ظلت تتكسر على صخور شاطئ جليانة… ودون أن تعود!!
* * *
6ـ السويحلي وعون…
جاهدان ليبيان… من مصراتة والجبل الغربـي عركتهما الأيام، وأسهما بما استطاعا في الحركة الوطنية والنضال ضد الجيش الإيطالي، ثم هاجرا وأقاما في مصر، وكانت بينهما ومع المهاجرين أمثالهما أحاديث عندما تحين الفرصة في شجون وشؤون الوطن المحتل، والحنين إلى أيامه الخوالي… الصورة التقطت في يوليو عام 1938 لأحمد السويحلي وعون سوف المحمودي وبينهما خيوط من الذكريات، رغم قسوة الهجرة والغربة في كل الأحوال… ثم دارت الأيام وتوفي بعدها عون 1947 في إيطاليا ؛ حيث كان يعالج ودُفن في سيدي منيذر بطرابلس، ثم السويحلي في مصراتة .. مسقط رأسه أواخر عام 1962.
* * *
7ـ ساعات في الجزائر…
عام 1959، كانت الجزائر ماتزال تحت الاحتلال الفرنسي، وكانت ثورتها ضده تلتهب في جبال الأوراس وحي القصبة… وكل الأنحاء. كان قد مضى على مجيء فرنسا إلى الجزائر ما يقارب مائة وثلاثين عاماً، وكان قد مر على انطلاق ثورة جبهة التحرير حوالي خمس سنوات شهدت عسفاً واعتقالات وإعدامات بالمقصلة وحرائق. كان الموت يكمن لأبناء العاصمة والقرى في كل الدروب ويطل عبر الأزقة والميادين والسهول… ورغم ذلك، دخل إلى الأراضي الجزائرية صحافيون ليبيون من بنغازي لمقابلة رجال جيش التحرير في المنطقة الشرقية من الجزائر عند الحدود التونسية، وبالتحديد مدينة (الكاف)، وهم: أحمد يونس نجم، إبراهيم اطوير، عبدالمولى لنقي، المهدي المطردي، وكتب بعضهم مشاهداته وانطباعاته وصوره في الصحف، وتحدثوا عن ذلك في الإذاعة الليبية.
* * *
8ـ جزائريات في بنغازي…
إلى بنغازي وصل عام 1961 مجموعة من الفنانين من مصر وأحيوا عدة حفلات في سينما البرنيتش، من بينهم وردة الجزائرية… كانت ماتزال في بداياتها الفنية التي انطلقت من القاهرة بعد قدومها إليها من باريس، فابتسمت لهذه الصورة في مقر إقامتها بأحد فنادق بنغازي، فيما وصلت عام 1962 جميلة بوحيرد مع رفيقتها جميلة بوعزة في زيارة للمدينة التي سبقها إليها ذلك العام أيضاً زملاؤها الذين خطفتهم فرنسا فوق الأجواء المغربية عام 1956 ونقلتهم إلى أحد السجون في فرنسا: بن بلة، خيضر، بيطاط، آية أحمد، ولم يأتِ رفيقهم الخامس بوضياف الذي كان في المغرب في مهمة أخرى… أيام!!
* * *
9ـ جنازة العيساوي…
يوم الاثنين 10/12/1962، دوت طلقات من الرصاص عبر الطريق الجانبي المؤدي إلى مقر الكلية العسكرية الملكية في بنغازي المتجه إلى بنينا… كان الوقت ليلاً مظلماً، والجو بارداً، وكانت تلك الطلقات (المجهولة المصدر) مصوبة في الأساس نحو العقيد إدريس أحمد العيساوي نائب رئيس الأركان العامة للجيش الليبـي الذي يستقل سيارته (المرسيدس)، فأصابته في مقتل لكنه لم يمت في حينها، أُسعف ونـُقل إلى مستشفى ويفل في السلماني، وكان يتبع قوات الجيش البريطاني في بنغازي وهو أقرب مستشفى لمكان الحادث، في محاولة لإنقاذه… غير أن الموت كان أسرع، وتوفي عقب لحظات من وصوله، وأعلنت حالة الطوارئ في صفوف الجيش بأمر من رئيس الأركان.
وإدريس أحمد بوشناف الغرياني وُلِد في المرج عام 1918 وتربى لدي أخواله آل العيساوي في البركة ببنغازي وغلب عليه لقبهم، تلقى تعليماً أولياً في صباه، واشتغل سائقاً في شبابه، وعندما نشبت حرب فلسطين عام 1948 كان من أوائل المتطوعين الليبيين الذين شاركوا فيها وحضر العديد من المعارك، ونال رتبة ملازم أول. في ضحى اليوم التالي، الثلاثاء 11/12/1962 مرت جنازة مهيبة في شوارع بنغازي بعد تحركها من مقر رئاسة الأركان أمام معهد دي لاسالي في شارع فيومي (الجزائر الآن) للعقيد العيساوي حيث دفن في مقبرة السيد عبيد بمراسم عسكرية.
كان في مقدمة المشيّعين اللواء نوري الصديق رئيس الأركان، ومحمود بوهدمة والي برقة، ويونس عبدالنبـي بالخير وزير الدفاع، وخليفة بوشناف شقيق الفقيد، وأقاربه، وثلة من الضباط الجدد الذين وضعوه في مقره الأخير… وجمع آخر من المواطنين. فيما وصلت التحقيقات التي أجريت إلى طرق مسدودة… وأبواب مغلقة!